الوجه الفرنسي لأمين معلوف



*عبده وازن


هذا وجه آخر لأمين معلوف. «الفارس» اللبناني الذي دخل الأكاديمية الفرنسية وشهر سيف «الخالدين» اختار في كتابه الجديد « كرسي على السين» (دار غراسيه)، أن يضع لبنان جانباً، لفترة قصيرة، متناسياً شغفه العربي والمشرقي ليستعيد «أسطورة» هذه الأكاديمية، بحذاقة الروائي ومراس المؤرخ. وتجلت فرادة هذا الكتاب في انصرافه إلى تاريخ كرسي واحد من كراسي الأكاديمية هو الكرسي الرقم 29، وقد تعاقب عليه قديماً، كبار فرنسا الأدب والفكر، ومنهم رابليه ومونتاني وكورناي وراسين وموليير… أما آخر الجالسين على هذا الكرسي فكان العالم الإنتروبولوجي الرائد كلود ليفي ستروس الذي خلفه معلوف في حزيران (يونيو) 2011 ليكون واحداً من حرّاس اللغة الفرنسية.
بدا أمين معلوف بارعاً في اختيار مادة كتابه الفرنسي جداً، فهو لم يشأ كتابة تاريخ الأكاديمية بكراسيها الأربعين ومن تعاقب عليها منذ ثلاثة عصور، بل اقتصر تأريخه على الكرسي الرقم 29 الذي فاز به، وارثاً «مُتّكأ» عباقرة فرنسيين كانوا سبقوه إليه. وغدا حظ صاحب «صخرة طانيوس» كبيراً جداً: ليس سهلاً أن يجلس كاتب معاصر على كرسي أسلاف بالاستعارة، هم أسلاف التراث الفرنسي الأدبي في أبهى تجلياته وأخلدها.
وإن كان من المتعارف عليه وفق تقاليد الأكاديمية، أن يمتدح كل عضو جديد بُعيد انتخابه، العضوَ الذي سبقه على المقعد نفسه، فإنّ معلوف ارتأى أن يمتدح كل الأعضاء الذين تعاقبوا على هذا المقعد بعد امتداحه طبعاً ليفي ستروس في خطاب «الجلوس». وكـل عضو له حكايته الخاصة مع مقعده، ما يجعل من جمع هذه الحكايات ومعاودة سردها ضرباً من الكتابة السردية المرتكزة إلى سير أصحابها والوثائق التاريخية التي تركوها. هنا تكمن ميزة كتاب «كرسي على السين»، فهو تاريخ عاطفي لمقعد يحمل الرقم 29 وتاريخ توثيقي ومتخيل للكتّاب الذين جلسوا عليه متعاقبين.
يكتشف معلوف بطرافة لا تخلو من السخرية الملطفة، أن بضعة «خالدين» عبروا ولم يخلّد لهم اسم ولا عمل. وخير مثال يؤكد هذه المفارقة هو الكاتب بيار باردان الذي كان أول من احتل هذا المقعد وأول من فقد خلوده بعد وقوعه في هوّة النسيان. لكن معلوف يسترجع شخصه ويعيد إحياءه مقدماً له صورة ذاتية طريفة. فهذا الكاتب لم يدم حضوره طويلاً، ولم يسعفه القدر على البقاء على مقعده، فهو بعد عام وشهرين من انتخابه في 1634 غرق في نهر السين واختفى، ليس من العالم وإنما من كتب تاريخ الأدب الفرنسي. ويبدو معلوف كأنه ينعاه اليوم قائلاً إنه بات منسياً مثل كل أدباء جيله. غرق هذا الأكاديمي التاعس في نهر السين لكنه أوحى للكاتب بالعنوان البديع لكتابه.
شاء أمين معلوف أن تكون علاقته بالكتّاب والعلماء الذين سبقوه إلى المقعد 29 علاقة الابن بآبائه وعلاقة الخلف بأسلافه. وهذا يعني أن العلاقة هذه قد يعروها مقدار من الحذر وربما التردّد. جميعهم جديرون بالمديح حتى وإن كان بعضهم بعيداً من ذائقة صاحب «ليون الأفريقي»، قليلاً أو كثيراً. إنهم الأسلاف ولو أن قراءة بضعة منهم اليوم أضحت أشبه بالاستذكار أو الاستحضار. ومن الطرائف التي يستعيدها معلوف حكاية الكاتب فرانسوا – هنري سالومون دو فيرلاد الذي اعتبره النقاد والقراء في حينه أهم من رائد المسرح الكلاسيكي كورناي… أما اليوم فلم يبقَ له اسم ولا كتاب ولا قرّاء. لكنّ أسماء كبيرة أثارت حماسة معلوف، ومنها على سبيل المثل: إرنست رينان، كلود برنار، فلوريان وهنري دو مونترلان.
قد يكون أمين معلوف في هذا الكتاب فرنسياً أكثر من الفرنسيين، ولكن ليس في معنى أن يكون المرء ملكياً أكثر من الملكيين أنفسهم، كما يُضرب المثل من قبيل النقد أو الهجاء. وليس مصادفة أن يطلق معلوف عنواناً ثانوياً على كتابه هو «أربعة قرون من تاريخ فرنسا»، فالمقعد الرقم 29 هو وجه مضيء من تاريخ فرنسا مثل سائر المقاعد ومثل الأكاديمية نفسها والكبار الذين صنعوها وصنعتهم.
________
*الحياة

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *