نشيد الحرب


د. شهلا العجيلي *


امتلكت الثقافات كلّها عبر التاريخ،إرثاً حربيّاً، وما يمكن الاطمئنان إليه هو أنّ الحرب اختراع ذكوريّ، إذ بدأ الرجل في الثقافة الرافديّة، بمنازعة المرأة السلطة التي كانت أموميّة، لـ7000 سنة، أو 10.000سنة قبل الميلاد. كان ديدن المرأة الدعوة إلى السلام، لذا قُدّست في معظم الثقافات القديمة على أنّها واهبة للحياة، فالنساء وحدهنّ يمكنهنّ إنسال نوعهنّ، ولم يكن دور الرجل في هذه العمليّة معترفاً به. وبسبب من الارتباط التاريخيّ بين الثقافة والسلطة، وجد الرجل أنّه لن يتمكّن من توسيع الملك والاستعمار، الذي لا يكون إلاّ بالحرب، مادام الفكر أموميّاً، ومادامت الثقافة أموميّة، فعمل الفكر الذكوريّ على تشويه صورهن، وكانت صورة «ليليت» كبش الفداء، لأنّها النموذج الأموميّ الأشهر، والأكثر تأثيراً، كانت ليليت التي تحفظ النساء ومواليدهنّ في فترة النفاس أربعين يوماً، وتبقى تحرسهنّ ليلاً من أيّ خطر خارجيّ، وما العين ذات الخرزة الزرقاء، التي تضعها النساء أو تهدى للمواليد، سوى عين ليليت، التي ما يزال يعتقد في الثقافة غير العالمة أنّها تدفع عين الحسود. لكنّ الفكر الذكوريّ أعلن الحرب الثقافيّة، وبدأ خطواته التكتيكيّة الأولى بالإشاعة، فأشاع أنّ ليليت وحش، يأكل المواليد الجدد، ويؤذي الأمّهات، خلال فترة النفاس، وأنّه يجب حماية المواليد والوالدات منها، والسهر على راحتهم أربعين يوماً، حتى تيأس ليليت وتولّي. وهكذا قام الصراع بين رؤيتين لليليت، انتصرت في نهايته الرؤية الذكوريّة، وانتزع الرجل السلطة، وبدأ بتوسيع الملك، وكسب مزيد من الإقطاعات، والغلال، والحيوانات، عبر الحرب، وبعدها ورثت المجتمعات التقاتل.
إذن، منذ أن صارت المجتمعات ذكوريّة كانت الحرب، وكلّ ما تلا ذلك من أقوال في التضحية، والفداء، والبطولة، هي أقنعة ثقافيّة جماليّة للموت، نُسجت من أجلها الملاحم، وغنّى لها الشعراء، لكنّ «بريام» العجوز ملك طروادة، أسقط تلك الأقنعة برمّتها، بسؤاله: هل الأوطان بحاجة لموت أبنائها لتعمر!
لعلّ قتلى الإلياذة كلّهم، يشكّلون فضائح لعنجهيّة النسق، فقد رزئ «بريام» بمقتل عدد من أولاده، ولاسيّما بكره «هكتور» البطل، الذي دافع عن طروادة ببسالة، وبقي مرابطاً مع قلّة من الجنود، حتّى قتل على يد «آخيل» بطل الإغريق. يكشف «بريام» عن بشاعة الحرب بصدق وشفافيّة، يواجه بهما عدوّه وقاتل أبنائه «آخيل»، حين يندب ولده «هكتور»، ويرجو «آخيل» ليسلّمه جثّته:
«أجل يا بنيّ، أنا هو بريام، أنا الرجل المُرزَأ المحزون الذي قتلت أبناءه، وأهرقت دماءهم لأنّهم يحاربون من أجل وطنهم، ويذودون عن بلادهم، سعيت إليك، إليك يا آخيل العظيم لأمطر هذه اليد التي ذبحتهم بدموعي، ولأوسعها لثماً وتقبيلاً! أتمنّى يا بنيّ أن تعود قريباً إلى أبويك سالماً، فيهشّ أبوك للقائك، وتبشّ أمّك لعناقك، ويفرح ذووك بك، لأنّك عدت إليهم بالنصر والفخر، بل عدت إليهم سالماً من نكبات الحرب وكوارثها، فهل أكون قاسياً أن أرجوك حين تعود إلى ديارك، وتلقى فيها أحبّاءك أن تذكر أنّ أبوين آخرين قد خلّفتهما وراءك يشقيان ويبكيان، ويلبسان السواد أبد الدهر، لأنّ أبناءهما لم يعودوا من ساحة الحرب كما عدت أنت، بل هم قد سقطوا فوق أديمها مضرّجين بدمائهم، شاكين إلى أربابهم ما حلّ فيها بهم. تاركين آباء شيوخاً فانين، وأمهات ضعيفات معولات، وقلوباً تتفجّر أسى عليهم، وعيوناً تختلط دموعها بدمائها من أجلهم، وأرامل يلطمن الخدود، ويشققن الجيوب، ويتامى لا حول لهم ولا قوّة على الزمان الغادر، والحظ العائر والصبر الجميل…أرجوك في هكتور! واحرّ قلباه يا هكتور! وا أسفاه عليك يا ولدي!»!
انخرطت الثقافات في إنتاج أناشيد الحرب، التي تعلو لتغطّي قبح الموت بأفكار جليلة، وبحالة شعريّة عالية، لأنّ الشعريّة تجعل الأشياء جميلة، فتحيا الأنساق، ويعيش سدنتها، أو يتمّ استبدال نسق بنسق آخر، في حين يموت الأفراد. لعلّ من أشهر أناشيد الحرب في العصر الحديث، أوبرا الحرب والسلام لـ «سيرغي بروكوفيف»، التي تحاكي رواية تولستوي «الحرب والسلام»، ومنها النشيد الروسيّ الشهير»كاتيوشا»، الذي شاع في الحرب العالميّة الثانية، ويتحدث عن انتظار كاتيوشا الصبية الجميلة لحبيبها الذي ذهب إلى الحرب، والتي تحفظ رسائله، وتحتفظ بجمالها لعودته الباذخة، و»كاتيوشا» اسم روسيّ تقليديّ، وهو تصغير (كاترين)، وتيمناَ به، تمّ إطلاق الاسم على منصّات إطلاق الصواريخ المعروفة.
يعود النشيد الأميركيّ الشهير»when Johnny comes marching home»، «حينما يعود جوني إلى الديار ماشياً» إلى الحرب الأهليّة الأميركيّة 1863، و يحكي عن شوق الأهالي لعودة أبنائهم سالمين من الحرب، والاحتفال بالنصر.
لعلّ معلّقة عمرو بن كلثوم، التي أشبه ما تكون في معظم أجزائها بـ «مارش» عسكريّ، أوّل نشيد حرب عربيّ وصل إلى مسامعنا، إذ تتضافر مفرداتها، ودلالاتها، وإيقاعها، لتنتج نشيد حرب مؤثّرا، يمكن للجنود السير على وقعه للوصول إلى العدو، ومقارعته، والانتصار عليه:
أبَـا هِـنْدٍ فَـلا تَعْجَلْ عَلَيْنا 
وأَنْـظِرْنَا نُـخَبِّرْكَ الـيَقِينا 
بِـأَنَّا نُـورِدُ الرَّايَاتِ بِيضاً 
ونُـصْدِرُهُنَّ حُمْراً قَدْ رَوِينا 
وأَيَّــامٍ لَـنا غُـرٍّ طِـوالٍ 
عَـصَيْنا المَلْكَ فِيها أنْ نَدِينا 
مَـتَى نَـنْقُلْ إلى قَوْمٍ رَحَانَا 
يَـكُونُوا في اللِّقاءِ لَها طَحِينا 
يَـكُونُ ثِـفَالُها شَـرْقِيَّ نَجْدٍ 
ولَـهْوَتُها قُـضاعَةَ أَجْمَعِينا 
نُطاعِنُ مَا تَرَاخَى النَّاسُ عَنَّا 
ونَضْرِبُ بِالسُّيوفِ إذا غُشِينا 
بِـسُمْرٍ مِـنْ قَنا الخَطِّيِّ لَدْنٍ 
ذَوَابِـلَ أوْ بِـبِيضٍ يَـخْتَلِينا 
كَـأَنَّ جَـمَاجِمَ الأبْطَالِ فِيها 
وُسُـوقٌ بِـالأماعِزِ يَرْتَمِينا 
نـشقُّ بها رُءُوسَ القوم شَقّاً 
ونَـخْتِلبُ الـرِّقابَ فَتَخْتَلينا 
وإنَّ الضِّغْنَ بَعْدَ الضِّغْنِ يَبْدُو 
عَـلَيْكَ ويُخْرِجُ الدَّاءَ الدَّفِينا 
وَرِثْـنا المَجْدَ قَدْ عَلِمْتَ مَعَدٌّ 
نُـطاعِنُ دُونَـهُ حَـتَّى يَبِينا 
ونَـحْنُ إذا عِمادُ الحَيِّ خَرَّتْ 
عَنِ الأَحْفاضِ نَمْنَعُ مَنْ يِلِينا 
نَـجُذُّ رُءُوسَـهَمْ في غَيْرِ بِرٍّ 
فَـمَا يَـدْرُونَ مـاذَا يَـتَّقُونا 
كَـأَنَّ سُـيوفَنَا فِـينَا وفِيهِمْ 
مَـخَارِيقٌ بِـأَيْدِي لاعِـبِينا 
ونَـحْنُ الحاكِمُونَ إذَا أُطِعْنا 
ونَـحْنُ العازِمُونَ إذَا عُصِينا 
ونَـحْنُ التَّارِكُونَ لِمَا سَخِطْنا 
ونَـحْنُ الآخِذُونَ لما رَضِينا 
لا تزال القيم النسقيّة الذي يطرحها هذا النشيد، فاعلة في الثقافة العربيّة، تُنتَج أناشيد الحرب، وكثير من الأناشيد الوطنيّة في ظلّها، وقد كان للمرأة أيضاً دورها في هذا الإنتاج الثقافيّ، فصاغت أناشيدها في ظلّ سيطرة النسق الذكوريّ وقيمه، ولعلّ أشهر تجليات هذا الإنتاج الثقافيّ ما كانت تنشده هند بنت عتبة في غزوة أُحد:
نحن بنات طارق
نمشي على النمارق
والدرّ في المخانق
والمسك في المناطق
إن تقبلوا نعانق
أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق
إلاّ أنّ غريزة الأمومة لابدّ أن تصحو في المرأة، وتصحو معها غريزة السلام التي ورثتها عن سالفاتها اللاتي كنّ ربّات، فلا تتورّع عن أن تندب، وتقبّح الموت والحرب التي حرمتها أحبّتها، في حين قلّما يندب الرجل قتلى الحرب، لأنّه بذلك يخالف ذاته، بوصفه جزءاً من النسق المسيطر، لذا ورثت الثقافة قيم معلّقة عمرو بن كلثوم، في حين لم ترث قيم معلّقة زهير بن أبي سلمى، التي تعدّ وثيقة فريدة في تخليد السلام والدعوة إليه:
وما الحربُ إلاّ ما علمتمْ وذقتمُ 
وما هو عنها بالحديث المُرجّمِ 
متى تبعثوها، تبعثوها ذميمةً 
وتَضْرَ إذا أضرمتموها، فتُضرمِ 
فتعرككم عركَ الرحى بثفالها 
وتَلقحْ كِشافاً، ثمّ تنتج، فـتُتئمِ 
لقد تجرّأ زهير العجوز على مخالفة قيم النسق الثقافيّ التي باتت راسخة في تعزيز الدعوة إلى الحرب، وأسقط أقنعتها الجماليّة، وكشف قبحها، كما فعل بريام العجوز أيضاً حينما بكى هكتور في طروادة، لكن لن نقول سوى ما يقول المثل: إذا جُنّ ربعُك ما نفعك عقلُك، فـعلى مَن تقرأ معلّقتك يا زهير؟!
* روائية وأكاديمية سوريا تعيش في الأردن

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *