*محمد حسن المرزوقي
«قبل تلك اللحظة كان كل شيءٍ على ما يرام».
هكذا تفتتح بثينة العيسى روايتها الأخيرة «خرائط التيه» محدّدة بدقة قبطان عجوز، لا يملك في جعبته سوى خرائط متآكلة، اللحظة التي تاهت فيها سفينته في عرض البحر!
وعليك، إن قرّرت أن تستقل السفينة، ألا تعتمد كثيراً على حكمة وخبرة هذا القبطان لتصل إلى الضفة الأخرى، إذ إنك ما إن تبحر في الرواية حتى تجد نفسك تائهاً في سرد بثينة العيسى، عبثاً تحاول البحث عن خريطة، كما كان يبحث فيصل وسميّة عمّا يرشدهما إلى مكان ابنهما الذي اختطفته عصابة أفريقية تتاجر بالأطفال في مكّة!
تجد بوصلة ملقاة على قارعة الرواية، تلتقطها، تعبث بإبرتها المدببة، تعتقد آملاً بأنها سترشدك إلى الاتجاه الصحيح وإلى النهاية السعيدة التي ستغلق بعدها الرواية مبتسماً، تقطع ٢٠٠ صفحة وموجة من الرواية، أنفاسك تتلاحق، إبرة البوصلة تتراقص بشدّة.
وأشار إلى أنك تسير على الصراط المستقيم، ها هي عقدة الرواية على وشــك أن تنفــكّ أخيراً، إنّها النهاية و… وتجد بثينة العيسى تعتمر قبعة القبطان البيضاء وتبتسم لك في مكر، وهي تربط عقدة أخرى في منتصف الرواية، ثمّ تدفعك من كتفيك في متاهة التيه مجدداً، وصوتها يجلجل خلفك «التيه يعني أن تأتي إلى المكان الصحيح في الوقت الخطأ».
في المحن، يتعلّق المرء بكل شيء لينجو من الغرق، بأعواد القشّ، أرجل الضفادع، وبقبس من إيمان خفيّ!
«فالبعض منّا، يساعده الله، أمّا البعض الآخر.. فعليه أن يساعد نفسه». وفي محنته، يختار فيصل لغة محايدة تمنحه القدرة على التّماسك، وتبقيه على حافة السّطح لفترة أطول، فيسمي حادثة اختطاف ابنه بـ«الأمر».. بدأ «الأمر» في.. ينتهي «الأمر» عند.. حدث تطوّر في «الأمر». لقد «كان في حاجة إلى لغة محايدة ومطفأة للتعبير عن ألمه في محاولة مضحكة للسيطرة عليه».
أمّا شقيقه سعود، دون جوان، الشرطي الطيب، باتمان النبيل، لم يكن في مقدوره، وهو العاجز، إلا أن يخرج لمعرفة ما استجدّ من «الأمر»، ثم يعود ليخبر شقيقه إلى أيّ حدّ بلغت بشاعة «الأمر».
لن يخفى على القارئ كيف أن معالجة بثينة لشخصية فيصل، بطل الرواية، تشبه إلى حدّ ما معالجة دوستويفسكي لشخصياته، فكلاهما اشتغل على البناء النفسي للشخصية الروائية.
«أنا الذي يهيم في الجحيم، أنا الذي لا ينتظر المعجزات الإلهية، بل يخرج ليصنعها، أنا ابن الكلب، أنا فيصل»، هكذا يردّد فيصل وهو الذي اكتشف بأنه لم يضع ابنه فحسب، بل أضاع في رحلة البحث عنه، زوجته، والله.. ونفسه.
كما سيلاحظ القارئ ذكاء العيسى في لملمة حوارات الرواية، فللوهلة الأولى سينزعج، كما انزعجت أنا، من تداخل الحوارات وتتابعها من دون معرفة من يخاطب من، ثم سيكتشف أن العيسى تتعمّد إحداث هذه الفوضى لتجعل القارئ تائهاً إلى أقصى درجة، وهو ما ذكرني بالتقنية نفسها التي مارسها ساراماغو في روايته العمى حين جعل من القارئ، بفضل حوارات شخصياته المتشابكة، أعمى بشكل ما!
لا أدري إن كنت سعيداً أو حزيناً بالطريقة التي أنهت بها العيسى الرواية، ولكني أعلم على وجه اليقين أنني لم أخرج منها إلا تائهاً!
_________
*الحياة