*عُلا الشيخ
في الأفلام القصيرة، ثمة حكايات من الجميل الإنصات اليها، ومشاهدتها عبر شريط سينمائي لا يتجاوز الـ30 دقيقة، وممكن أن يكون في دقيقتين، فالإبداع في مثل هذه النوعية من الأفلام هو الاختزال والتكثيف، وايصال الفكرة في مدة زمنية قياسية ترافقها عناصر فنية متكاملة في صناعة السينما، وتخضع مثل غيرها من الأفلام الطويلة، الروائية أو الوثائقية، الى النقد السلبي أو البناء، فالفيلم القصير هو تحدٍّ من نوع خاص في آلية تطوير الأدوات، وكل من أخرج فيلماً قصيراً يكون يبحث عن اللحظة التي ينتقل فيها إلى إخراج فيلمه الروائي الطويل الأول، هي قاعدة مهمة لكثير من المخرجين كي يدركوا خطوتهم المقبلة، وقد تأخذ منهم هذه الخطوة سنوات، لكن الأكيد أن تأثير فيلم قصير متماسك بعوامله الفنية يظل حاضراً ويستحق الاشادة به، مثل الفيلم المصري القصير للمخرج شريف البنداري «حار جاف صيفاً»، الذي عرض أول مرة في الدورة الفائتة من مهرجان دبي السينمائي، وحصل أخيراً على جائزة مؤسسة (روبرت بوش ستيفتونج) السينمائية الألمانية للفيلم الروائي القصير.
ولابد أيضاً من المرور على أهمية الفيلم القصير، من خلال قدرته على الوصول إلى التنافس في كبرى الجوائز العالمية، مثل الفيلم الفلسطيني القصير «السلام عليك يا مريم» للمخرج باسل خليل، ويعتبر من الأفلام القصيرة التي اختصرت الواقع الفلسطيني المتعدد الديانات في أربعة مشاهد تقريباً و14 دقيقة.
إذاً نحن أمام ثلاث تجارب لأفلام قصيرة من الجدير أن يتم تناول كل تجربة على حدة، لتسليط الضوء على أهمية صناعة الأفلام القصيرة التي لا تقل أهمية عن أي نوع آخر من الأفلام.
«قارب من ورق»
الفيلم القصير «قارب من ورق» لمخرجه محمود أبوغلوة، في تجربته الأولى يجيء بعد تجارب عدة في المونتاج، والمساعدة في الاخراج، ومع كتاب «تلك العتمة الباهرة» للكاتب طاهر بن جلون، تبنى الحوارية في الفيلم الذي يعتمد العتمة في غالبية مشاهده باستثناء المشاهد القليلة مع البحر وزرقته، فالحكاية في بيت متهالك في قطاع غزة، يجمع بين زوجين شابين، البيت يوحي بفقر شديد، والضوء يعتمد على فانوس، الحدث يتلخص في حمل الزوجة، هذا الحمل الذي يشكل سعادة للزوجة وشقاء للزوج، الذي يسأل بشكل متكرر اذا كان من المنصف الإتيان بطفل مع كل هذا الحصار، وكل سؤال يطرحه تجيب الزوجة عنه من خلال عبارة من كتاب بن جلون، فالفلسفة حاضرة مع ضيق العيش، وعنوان الكتاب نفسه حاضر مع العتمة التي تفترس ليس المكان فحسب بل الروح ايضاً. استطاع أبوغلوة أن ينقل المعاناة على شكل روح تريد القدوم الى هذه الحياة، في جو مليء باليأس والجوع والحرمان إلا من متعة وحيدة هي المتعة الزوجية، في جملة عابرة وأثناء القصف المستمر، تقول الزوجة: «أهم شي بالحرب أنه مناكل كويس» في اشارة إلى عملية تخزين الطعام على شكل معلبات، ومن جهة أخرى تظهر أيادٍ وراء قضبان تريد أن تصل الى شيء ما، فغزة عبارة عن سجن كبير محاصر، مع أن البحر عنوانها. استطاع أبوغلوة أن ينقل تفاصيل دقيقة، فالزوجة ومع أنها في منزلها لا تخلع غطاء الرأس، هذا الغطاء له علاقة بالاستعداد دائماً للهرب والبحث عن لجوء جديد، هو أراد من تفاصيل علاقة الزوج مع الراديو أن ينقل الترقب المستمر، فكل شيء يحدث في غزة يحدث دون مقدمات. الفيلم يحاكي الحالة النفسية، في ظل الحرب والموت والحصار والجوع، فكل شيء لديه صوت، ينقله المخرج عبر البحر حيناً، وتأوهات وجوه حيناً، وأثير الراديو حيناً، ومرحلة المخاض التي تتوحد من خلالها جميع الأصوات. تفاصيل الزوج وأداؤه والتيه الذي يحدث في عقله، تمت ادارته من قبل أبوغلوة بشكل قدم فيه ممثلاً متمكناً، العبارات الضئيلة التي تظهر في الحوار بين الزوجين هي حكاية الفيلم، وتسليط المشهد بشكل شبه كامل داخل عتمة كان لدواعي نقل الواقع بكل حذافيره. بالنهاية تجربة أولى مميزة متماسكة بعواملها الفنية، والأهم أنها من المتوقع أن تكون قادرة على كسر الحصار من خلال العروض المتوقعة له.
«حار جاف صيفاً»
استطاع المخرج المصري، شريف البنداري، من خلال فيلمه القصير «حار جاف صيفاً» أن ينقل معنى الأمل، بكل وقعهوأحاسيسه، من خلال قصة من الصعب تخيلها، لكن امكانية حدوثها واردة في بلد يعيش على أرضه 90 مليون نسمة، فالمصادفة تلعب دورها مع شخصية شوقي، وأدى دوره الفنان محمد فريد الذي يعاني مرض السرطان، والذي يضطر لمراجعة الطبيب لوحده بسبب انشغال ابنه، لذلك تراه بهيئته الهزيلة ومشيته المتأنية وصوته الخافت حاضر بقوة، مجسداً حالة المرض بتفاصيلها، فهو يعيش ايامه الأخيرة في هذه الدنيا، ومع ذلك، ومع كل الألم، مازال يراجع الطبيب أملاً في ايام إضافية. في المقابل، تظهر شخصية دعاء، التي أدت دورها ناهد السباعي، هي الشخصية المحركة في الفيلم من كمية الصخب التي تتركه اينما حلت، هي ايضاً تودع آخر ايامها في بيت أهلها، وتستعد للزواج والانتقال الى مرحلة ثانية في الحياة. الذكاء الحاضر في النص الذي كتبته نورا الشيخ، كان في طريقة الجمع بين الشخصيتين من خلال المصادفة، في ظل غياب الابن وظل غياب الزوج المنهمك هو الآخر في تفاصيل زفافه، التي تمنعه من الوصول في الوقت المحدد لالتقاط صورة الزفاف، فالصيف حاضر بحرارته، وزحمة الشوارع والطرق، والأعصاب المتوقدة بسبب ضيق الوقت، فالعم شوقي يعد ايامه، ودعاء تعد اللحظات أملاً في اسعاف الوقت لها، في ليلة عمرها التي تريد أن تكون على أكمل وجه.
يجمع بين الشخصيتين سيارة أجرة، دعاء بفستان زفافها ومكياجها الصارخ، والذوق المتوسط الذي يشير الى طبقة اجتماعية معينة، تجلس الى جانب العم شوقي الذي يفكر فقط في موعده مع الطبيب الذي من الممكن أن يلغى بسبب زحمة السير من جهة، وبسبب عامل آخر ظهر فجمع بين دعاء وعم شوقي مرة أخرى عندما قامت دعاء بأخذ الملف الطبي للعم شوقي مع أغراضها الكثيرة، متجهة الى الخياطة، كل هذه التفاصيل والأحداث تعيد لقاء دعاء والعم شوقي مرة ثانية، فالملف أصبح بين أكياس كثيرة لها علاقة بالفرح والسعادة، وهذه هي المفارقة.
ثرثرة دعاء مع العم شوقي في سيارة الأجرة لا يأبه لها، هو كل همه أن يحصل على الملف كي يلحق موعد الطبيب، وهي كل همها أن تصل الى استوديو التصوير كي تلتقط صورة زفافها، لكن عريسها لم يظهر، وهي مصرة على الصورة فتقرر الذهاب لوحدها مع اعتراض العريس وتقنعه أن والد صديقتها معها، وتقصد هنا العم شوقي، يخضع العم شوقي لها ويقبل مرافقتها ليتحرر من ثرثرتها وليحصل على سيارة الأجرة لوحده دون المرور على أكثر من مكان للعروس، فتظهر في هذا المشهد في الاستوديو ذروة الفيلم عندما يقترح المصور على دعاء أن تتصور مع العم شوقي واعداً إياها أن يستبدل صورته مع زوجها بعملية المونتاج البدائية، يقبل العم شوقي بهذا الحل على مضض، ويتم التقاط الصور لهما بمشهد تمت ادارته من قبل البنداري بشكل يستحق الاشادة، فقد عاش العم شوقي لحظات سعادة لم تكن بحسبانه، والدليل أن هذه السعادة زادت من عمره ليس اياماً فحسب بل سنوات، فقد انتقل البنداري بكاميرته بعد أن أكد للمشاهدين مرور سنوات الى بيت العم شوقي الذي تراه يسقي نباتاته، على وقع أغنية «لا مش أنا اللي أبكي» وصورته مع دعاء في ملابس الزفاف حاضرة.
البنداري اختزل معاني كثيرة في هذا الفيلم، لها علاقة بمصر كبلد، والفقر فيها، فالفقير لا يملك حق الخيار، والوقت لا يسعفه في كثير من الأحيان، العم شوقي لا يملك الوقت ايضاً، فالطبيب الألماني الزائر لمدة يومين لديه مواعيد أخرى، لكن ومع كل هذا ثمة بصيص أمل من الممكن اختزالها واختلاسها، مرتبطة بسعادة لحظية عاشها العم شوقي اثناء التقاط الصور مع العروس، هذه السعادة هي التي أطالت عمره، ودعاء تظهر هي الأخرى في نهاية الفيلم وقد أصبحت أماً.
___
*الإمارات اليوم