*محمود عاطف
في السطور الأولى من كتابه “أجمل نظرية… سبعة دروس موجزة في الطبيعة”، يشير عالم الفيزياء الإيطالي كارلو روفيللي (1956) إلى فضيلة إضاعة الوقت، إذ يحكي عن الشاب ألبرت آينشتاين الذي قضى عاماً كاملاً في إيطاليا يتسكّع في شوارعها من دون أن يفعل شيئاً، ويلفت النظر إلى أنه لولا إضاعة الوقت لما أمكننا الذهاب بعيداً ولا إيجاد شيء ذي قيمة. الكتاب صدر حديثاً في القاهرة عن منشورات “بعد البحر” بترجمة عن الإيطالية للتشكيلي المصري عادل السيوي، وفيه يقدّم الكاتب، صاحب “ماهو الزمن؟ ما هو المكان؟”، وصفاً موجزاً للكون من منظور العلم وسرداً ناعماً للكيفية التي يتجلّى بها العالم الآن أمام علماء الطبيعة، وعبر دروسه السبعة الموجزة يطرح الفيزيائي الإيطالي تصوّراً عاماً ومتسلسلاً لما “نظنّ” الآن أنه الكون وموقعنا فيه.
عبر صفحات الكتاب الصغير، يؤكّد المؤلّف على قيمة التردّد التي تصاحب العباقرة عطفاً على انطلاق نظرياتهم في البدء من مجرد افتراضات، من عبارة “أظن” التي بدأ بها البيولوجي تشارلز داروين تدوين فكرته عن أصل الأنواع وتطوّر الكائنات، إلى الفيزيائي ميخائيل فراداي والتردّد الحاضر في كلماته التي قدّم بها فكرته الثورية عن المجال الكهربي، وصولاً إلى الفيزيائي الأشهر ألبرت آينشتاين وهو يقول عن اكتشافه لفوتونات الضوء الكمية “يبدو لي”. وعن آينشتاين تحديداً، اختار المؤلف أن يبدأ دروسه السبعة بعرض معادلة العالم الألماني التي أسّست لنظريته عن النسبية العامة، تحفته الرائعة وعمله الفني الكبير كما سمّاه روفيللي، ومن الوصف الذي أطلقه العالم الفيزيائي الروسي ليف لانداو على النسبية العامة باعتبارها “أجمل نظرية” استعار الفيزيائي الإيطالي عنوان كتابه الذي، فور صدوره في إيطاليا العام 2014 بيعت كل نسخه وطبع أكثر من مرة ثم انتقل إلى لغات عديدة. دروس الكتاب السبعة أقرب إلى تمارين ذهنية في مجاراة قفزات الخيال التي قطعها علماء القرن العشرين في سبيل الإجابة عن أسئلتهم حول طبيعة الكون والعالم، الأسئلة التي تمسّ أبعاد وجودنا الفيزيائي ذاته عن المكان والزمان والمادة، لكن العلم لا يقدّم إجابات نهائية وقاطعة حولها، بل على العكس من ذلك تظهر أطروحات العلم أحياناً متناقضة تمام التناقض رغم القدرات التفسيرية العالية لكل أطروحة على حِدة. يبدو هذا الاختلاف واضحاً في الرافعتين الكبيرتين لعلوم الفيزياء في القرن العشرين، وهما النسبية العامة وميكانيكا الكوانتم (ميكانيكا الكم)، حيث تتحدّث الأولى عن عوالم متناهية الكبر (المجرات والكواكب..) وتتحدث الثانية عوالم متناهية الصغر (الإلكترونات والفوتونات..). لكن المؤلّف في واحدة من التماعات الكتاب الكثيرة قدّم تبسيطه للمحاولات التي تُبذل الآن لحل هذا التعارض، وعرّج على العلاقة المدهشة بين آينشتاين صاحب النسبية العامة والعالم الدانماركي نيلس بوهر صاحب نظرية الكوانتم، وإعجاب كل منهما بعقل الآخر رغم مخالفة كل منهما لصاحبه في ما يظن أنها رؤيته للعالم. كان آينشتاين يرى – على ما يؤكد مؤلّف الكتاب – أن العالم موجود موضوعياً وعلى نحو مستقل، وبغض النظر عمن يتفاعل مع ماذا، ولا يمكنه أن يكون بهذه الغرابة التي تطرحها الكوانتم، فيما كان بوهر يرفض أن يتنازل عن رؤيته الجديدة للكون باعتباره وجوداً مفاهيمياً وموضوعياً معاً.
لكن العلماء المعاصرين يشتغلون على التوفيق بين هذين النظريتين، ويرون أنه من الضروري أن نتقبّل بتواضع هذا التصوّر المربك للكون، وأن نقبل هذا الوجود المحيط بنا بوصفه حضوراً مراوغاً ينبني على التفاعل والتداخل الدائم.
البساطة والجمال هما السمتان الأساسيتان في أسلوب كتاب روفيللي، إذ يتحوّل العلم في كتابه لشيء جميل وفاتن، مع ذلك لا تنتفي الغرابة منه، غرابة نابعة من العلم ذاته لا من الكتابة لكنها تجد طريقها إلى عقل القارئ. سيكون مجهداً أن نفهم كيف يتقوّس الزمان تبعاً لتقوس المكان، أو كيف يكون الإلكترون وجوداً وعدماً في آن “كأن الله قد رسم العالم بقلم واهن، لم يترك على السطح سوى علامات يصعب رصدها” كما كتب المؤلف، الأكثر من ذلك: كيف يمكننا أن نتقبّل فكرة انتفاء الزمان ذاته؟ ماذا سيكون معنى سريان الزمن إذاً؟
يقرّ روفيللي بصعوبة ذلك، لكنه يؤكّد على قصور إدراكنا الحسي عن فهم الواقع وأنه لولا هذا التخلي عن هذا الإدراك القاصر لما أمكننا مثلاً التصديق بأنّ “الأرض كروية، وأن سكّان مدينة رأس الرجاء الصالح يقفون في وضع مقلوب بالنسبة إلينا، رؤوسهم تتدلّى إلى أسفل وأقدامهم في الأعلى”، وعلى هذا فمن الممكن أن نفهم الزمن باعتباره ذاتي الوجود، وأن ليست هناك ساعة كونية تدقّ للجميع بنفس الإيقاع.
في درسه الأخير، يسأل العالم الإيطالي صاحب “العالِم الأول”: من نحن، بأجسادنا المصنوعة من نفس مادة هذا الكون؟ ليس باعتبارها الماهية ولكن بالنظر إلى العلاقة مع الوجود والعالم، في تلك اللوحة العملاقة التي ترسمها علوم الطبيعة المعاصرة؟ ولا يبدو أن روفيللي يتجاسر على الإجابة عن هذا السؤال المعقّد والشائك، لكنّه يقدّم إضاءته كما فعل في كل دروس كتابه.
لا يبدو العالم هنا مكوّناً من أشياء، إنما هو تواصل بيننا وبين العالم، وتفاعل بين العالم والطبيعة، والجنس البشري في كل هذا هو جزء من الطبيعة، تتشكّل أحاسيسه وأفكاره تبعاً لها. لذلك تُثار الآن أسئلة حول الكيفية التي يتكوّن بها وعينا بذاتنا، وكذلك معنى أن نكون أصحاب إرادة حرة بينما لا يملك سلوكنا إلا أن ينصاع لقوانين الطبيعة.
الإجابة قديمة، طرحها الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا حين نفى وجود مسافة فاصلة بين الفرد والخلايا المكوّنة لمخه، لكن العلم سعى إلى مزاحمة الفلسفة في اختصاصها بمسائل الأحاسيس وعلاقتها بالوعي، إذ تمكّن العلماء في عام 2014 من رسم خريطة كاملة للبنية الدقيقة لمخ حيوان ثديي.
يفسّر لنا روفيللي من خلال كتابه كيف أن العالم والطبيعة، ونحن أيضاً، مجموعة هائلة ومعقدة من العلاقات والمجاهيل، في رؤية أقرب للصناعات الفنية، ويؤكّد على دور الخيال في تطوّر العلوم، ويسعى إلى التوفيق بين أنظمة مختلفة للتساؤل كالفلسفة والشعر والفيزياء وغيرها، وفي كل هذا لا ينقصه تقديم الدهشة ولا الفضول باعتبارهما علاقتنا الأولية بالكون، ذلك الكون الذي لا تنقضي عجائبه ولا تنتهي مجاهيله، بينما نحن في كل ما حصّلناه وعرفناه ما زلنا بكل فضولنا ودهشتنا نقف على حوافّه.
________
*العربي الجديد