*فوزي يمّين
ماذا لو؟
ماذا لو اشتريتُ مسدّساً وبدأتُ بإطلاق النار
بوم… بوم…
في كلّ الاتّجاهات
يميناً ويساراً
إلى الأمام وإلى الوراء
وعلى كلّ الناس
الأغنياء والفقراء
الأصدقاء والأعداء
وخصوصاً الذين أحبّهم
أقتلهم وأرتاح؟
* * *
ماذا لو رحلتِ عنّي فجأةً وما عدتِ تحبّينني
اعتبرتِني مجنون البلدة
عديم النفع
مثيراً للشفقة
أسبّب الإذلال وحسب
أرقص على المسرح عارياً
وأقرق كدجاجة؟
مجرّد أخرق آخر
لديّ شهيّة قويّة للتوهّم
أحكي فقط لتسمع السماء
وتنظّف أذنيها من الغيوم
وأمشي فقط لتتّسع الأرض
ويتهافت ترابها فوق طرقاتها
حبّة حبّة؟
* * *
ماذا لو تركت الأشجارُ مكانها
ومشتْ حافية إلى آخر الأفق
احتشدتْ هناك كصفّ جنود
ومن حيطانها قفزت النوافذ
وهرولت كقطط جرباء
والأزهار التي زرعناها البارحة وسقيناها
غوّرتْ في جذورها الخبيئة تحت تاسع أرض
وانزوت الحدائق حتّى غدت بحجم راحة اليد
وتكاثفت الظلال
وتلبّد الأولاد
ونام النهار في الليل ولم يستيقظ؟
* * *
ماذا لو
بدأنا حيث انتهينا
وانتهينا حيث بدأنا
عدنا أدراجنا إلى أبراجنا
الصغيرة على الرمل
غفونا في أجسادنا الطريّة
سافرنا في أيدينا
ونسينا أصابعنا على الشاطئ
أعطينا أسماءنا
وأخذنا غيابنا
كتبنا أحلامنا
ومحونا أعمارنا
ماذا لو
سرقنا بعضنا من بعضنا وهربنا إلى غير رجعة؟
* * *
وأنا عائدٌ من الحبّ…
أنضمّ إلى
السفَلَة
المنافقين
القتَلَة
المجرمين
حارقي الحياة بسجائرهم النزقة
الشعراء
السحَرَة
المتلوّنين بألوان كلّ لحظة
المشعوِذين
الواقفين على سنّ رمح أعصابهم
الملتفّين بعباءة ليلهم الطويل
الأوفياء لكلماتهم المسمومة
المنحنين على ظلالهم
وظلالُهم داكنة
المعانِقين صُورَهم في الماء
المتأمّلين بعيون حمراء
المتورِدين في بركة عذاباتهم الساخنة
التائهين في صحراء أوقاتهم
المتلهّفين إلى معانقة ضياعهم
المتسلّقين حبالهم المقطوعة
المبكِّلين أزرار المصادفة
النائمين وعيونهم مفتوحة
الراصدين شَعر الزوابع
المنذورين لريحٍ طويلة في الشجر
الهالكين
المتهالكين
الفالتين
المتفلِّتين من كلّ واجب
الغائبين عند الضرورة
الحاضرين عبثاً
العاشقين بجلود حامية
المستنزلين مطرَ رغباتهم
فوق إسفلت أعمارهم اليابسة
القارعين أجراساً صدئة
في كهف صلواتهم الملتهبة
المندلعين
ناراً في صوتهم
ونجوماً في صمتهم
المتفرّجين
المتفجّرين
المتشظّين في كلّ اتّجاه
الساطعين في ظلماتهم السحيقة
المصرّين على العتمة
الكاذبين
الخائبين
الخائنين
المتواطئين مع أنفسهم على أنفسهم
المتحدّرين من سلالات هجينة
المنحدرين كشلاّلات ضريرة
الهائمين في أودية خيباتهم
التائهين
الغارقين في لجج أوهامهم
المطوِّحين في هوّة مغامراتهم
العراة من وسطهم
المسكونين بشياطينهم
المثقوبين من قلوبهم
اليائسين
الصانعين من يأسهم زوارق منهكة لمّاعة
المنتشين من خمرة ضجرهم
المسترسلين في رتق فراغهم
المتعبين
المقهورين
المتقهقرين
الضاربين طولاً بعرض الحائط
السائرين بلحف الحائط
الذاهبين وما عادوا
العائدين وما ذهبوا
المراوحين في مكانهم وزمانهم
السائلين والمجيبين في آن واحد
اللاّمنطقيّين
اللاّمنتمين
أنضمُّ إلى اللاّمنضمّين
الفاقعين من الضحك
المجانين
المجّانيّين
الشهداء
الأطفال
الأرامل
باعة الأحلام
سماسرة الأوهام
تجّار الغيوم
أنضمّ إلى
المنضمّين إلى أعدائهم
وكلّ المنسيّين في دفتر الأيّام
وقد نسوا جملةً من غضبهم
على آخر السطر
قرأتُها
وأنا عائدٌ من الحُبّ!
* * *
تبرُّج
أكحّل عيني بالشمس
والقمر
أضعُه على رأسي
قبّعةً من فضّة
والنجوم
أصنع منها أزراراً لمعطفي القديم الطويل
وأمشي…
ملِكاً لا أملك شيئاً
فقيراً
وحيداً
متّكئاً على درج أعشابي البرّية الساخن المُفعم بالصمغ والذباب
متوَّجاً بكآبة عظيمة متوهّجة ينزلق ضوؤها على قبب الكنائس المهجورة والأشجار العجوزة والسهول الناعسة والنوافذ المكسورة والدروب الخائرة… فإلى متى هذا التبرُّج؟
* * *
هناك
هناك بيوت
يهجرها أصحابها ليلاً
وهي نائمة تشخر
عندما تنهض ولا تجد أحداً
تجلس وحيدة على شرفاتها
وتدخّن الطريق.
* * *
هناك رجال ونساء
عجائز
رأيتُهم في ردهات فنادق قديمة
يمشون متثاقلين
أحلامهم وراءهم
كسلاحف إلى قبورها.
* * *
هناك طيور تغادرها أعشاشُها
فجأةً
فتبيت في ريشها
هانئةً
دافئةً
وتسمّي صغارها
البردَ
الشتاءَ
والهواء.
* * *
هناك أشجارٌ طويلة
رأسُها ضاربٌ بالسماء
عندما يهبّ الهواء
تنحني قليلاً فوق البرك الموحشة
تحيّي صورَها في الماء
وظلالَها
وذكرياتِها البعيدة في أرض الأجداد.
* * *
هناك أبقارٌ
جاثمةٌ
بقرونها
تنتظر نهاية عالمها
وهي تنظر بعينين شاخصتين
إلى آخر بقعة من العشب أمامها.
* * *
هناك الكثير من الحيوانات
مثلي
لديها حساسيّة مفرطة
وهشاشة فائقة
تدور في الأرجاء
باحثةً عن موئل برّي للبقاء.
* * *
كلّ مساء
كلّ مساء
وأنا عائدٌ إلى البيت
أقف على رؤوس أصابعي
وأهمس اسمكِ في أذن الأشجار الواقفة
فتتثاءب ملء أغصانها
وتنام في أوراقها
بينما تبقى ظلالُها تحت
سهرانة
تفلفش بهدوء صفحات كتاب الطريق.
* * *
كلّ مساء
وأنا عائدٌ إلى البيت
ترقبني النجوم
وأنا أرقب القمر يدحرج فضّته
على كتف الجبال وأدراج البيوت الغافلة.
* * *
كلّ مساء
وأنا عائدٌ إلى البيت
أنصتُ إلى الأغراض المتروكة في الخارج
على العتبات
في الزوايا
تتنفّس بهدوء
والجدران المنبسطة في طلائها المقشور غير المكتمل
والسيّارات الهاجعة على جانبي الطريق
تشخر
داخل زجاج نوافذها المقفل بإحكام
والذي تأكّد منه أصحابها قبل أن يذهبوا إلى النوم
ويشخروا.
* * *
كلّ مساء
وأنا عائدٌ إلى البيت
أعدّ حبّات الليل
أنفض عن الرصيف غبار الرصيف
ولا أنسى أُنقّط في الزواريب الضيّقة
وكطفل يدفن زهرة يديه في يديه
أبتلع لسان جرحي
وجرحي ثرثار يذكّر بالنبع.
* * *
كلّ مساء
وأنا عائدٌ إلى البيت
لا أجد البيت
فقط الباب واقفاً في ثقبه
والنافذة نائمة في درفاتها
والسطح قبّعة طائشة في سهرة الليل!
* * *
شجرة الكلمات
أنام في شجرة الكلمات
ملتصقاً بصمغها
مرتدياً معطفاً مصنوعاً من قماش الليل
مطرّزاً بنجوم فاسدة
وقمر منكّل كقبضة مسدّس
يدي دفتر أبيض
أصابعي أحرف مصقولة بحبر النسيان
أتسكّع فوق رصيف الصفحات
بلا هوادة
نسمة تأخذني
نسمة تردّني
أبشّر
بمرور الضجر البطيء
ألتقط نثاره وأصوغه برهافة
قصائدَ لأيّام ضائعة
لنهارات غائصة في لياليها
أبشّر
بسماء تحت الأرض
في مقلب التربة
تحت الأظفار المتورّمة
الزرقاء
المتفسّخة
الوسخة
والعضلات المعطوبة
والنيات المضغوطة الحامية
أبشّر
بنبيّ نذير معنّف وساخر
مهتاج
يجيء من عصب الغرف
يفتح قفا الزمان ويعرق
بحُبّ لا يبدأ كي لا ينتهي
بكتاب يسحر كلّ من يقرأه
ولا معنى له
بعواصف في عطلة
بحروب في هدنة
ببيوت من هواء
تميد في العراء
نوافذُها أحلام
أبوابُها أوهام
أبشّر
بأشجار مقلوبة
تمشي على أغصانها
وترحل ساعة تشاء
فترحل معها الطيور
والشمس
والظلال
والسماء
وترحل الأرض
من أرض
إلى أرض
إلى أخرى
إلى ما لانهاية…
__________
*شاعر من لبنان . من كتاب يصدر قريباً عن “دار النهضة العربيّة” بعنوان “تمارين على تبديد الوقت”.ملحق (النهار)