نانسي إبراهيم*
يقول المفكر الأرجنتيني خوليو كورتاثر: ” إن الفانتازي والملغز ليسا فقط الخيالات العظيمة في السينما والأدب والقصص والروايات. بل حاضر فينا أنفسنا، في تكويننا النفسي، ولا يستطيع العلم ولا الفلسفة أن يقدما لنا إلا تفسيرات بدائية وأولية “، فيما يقول الشاعر كليف جيمس “إن معظم الروايات الأولى هي سيرة ذاتية مقنعة، هذه السيرة ما هي إلا رواية مقنعة.
ورواية ” سيرة المنتهى” ليست هي الرواية الأولى لواسيني الأعرج، وليست الأخيرة حتى هذه اللحظة، وليست رواية بالمعنى التقليدي وليست سيرة بالصورة المألوفة، ليست حقيقية في المطلق، وليست خيالية بالأساس، فهي نمط غير مألوف في كتابة الذات مُتجذرة في عمق الأرض قدر ما تحلق نحو السماء، هناك.. حيث “سدرة المنتهى”.. إنها “سيرة المنتهى.. عشتها كما اشتهتني” الصادرة عن دار الآداب/ بيروت في طبعتها الأولى والتي تقترب صفحاتها من الستمائة صفحة من القطع المتوسط. ولنبدأ في رصد مصطلحات البحث من خلال ثلاثة محاور رئيسة-كما هو موضح من العنوان-؛أما الأول فهو مصطلح (الفانتازيا) كمصطلح حداثي -بصورة نسبية -أصبح صالحاً للتعامل مع الكثير من الفنون المختلفة كالرسم والموسيقى والتصوير والسينما وانتقل مؤخراً إلى الواقع الأدبي-ولاسيما السردي-فتماهى مع الواقعية السردية والعجائبية.
والثاني هو (السيرة الذاتية) بما أن النص الذي بين أيدينا هو سيرة ذاتية تمثل حياة كاتبها وأهم الشخوص والأحداث والوقائع والمؤثرات الحقيقية في تكوينه بصورة إنسانية وإبداعية.
أما الثالث فهو (الرواية) باعتبار النص الذي بين أيدينا يضم كل المكونات المألوفة لكتابة الرواية التي برع الكاتب في كتابتها على نحو يتجاوز العشرين رواية، وحصد عنها العديد من الجوائز جاءت جائزة (كتارا) عن روايته (مملكة الفراشة)آخر ما حصد منها حتى الآن والتي فازت أيضاً بجائزة التمثيل الدرامي.
وإذا توقفنا عند المحور الأول ألا وهو (الفانتازيا) fantasty -حسب معجم المصطلحات الأدبية- المعاصرة لسعيد علوش فهي “عملية تشكيل تخيلات لا تمتلك وجوداً فعلياً ويستحيل تحقيقها” وهي أيضاً “عمل أدبي يتحرر من منطق الواقع والحقيقة في سرده مبالغاً في افتتان خيال القارئ” وهي عند ت.ي. آبتر “القوة الدافعة وراء استبطان الواقع”
وفي تعريف جامع مختصر لها من خلال قراءات مختلفة هي مزج الواقعي بالمتخيل بصورة تعتمد على عناصر ميتافيزيقية لتشكل صورة لعالم بديل يتكئ على أطراف معادلة.
أما (الفانتازيا روائياً) فهي بناء يقف في منطقة الأعراف بين الواقعي والمتخيل/المنطقي واللامنطقي/الجنة والنار/الخير والشر.. الخ من العناصر الأسطورية أو الشعبية المتوارثة.
وقد بدأت تلك التوظيفات بشكل واع منذ نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ولاسيما في قصص (السيف والسحر) عام 1950 وقصص (مصيدة الفئران الرمادية).
ورواية سيد الخواتم للكاتب البريطاني ج. ر. ر. تولكين التي بدأت كتتمة لكتابه السابق “الهوبيت” ثم تطورت إلى قصة أكبر بكثير، كُتبت على مراحل بين 1937 و1949، وكثير منها كُتب خلال الحرب العالمية الثانية.
لكنها بدأت تشق طريقها بوضوح عند “ماركيز” الذي ارتبط اسمه بالواقعية السحرية كأسلوب روائي وكضفتين لنهر واحد مصرحاً بأنه تربى على حكايات جدته الخرافية عن حكايات المسخ لكافكا، وألف ليلة وليلة وغيرهما حتى جاءت الكثير من رواياته تحمل ذلك النمط الكتابي الذي يهدف إلى خلخلة الحدود بين الواقعي والمتخيل.. ومن ثم أصبح المصطلح قابلاً للممارسة التطبيقية الروائية والنقدية على سواء.
وحين نتجاوز الاصطلاح نحو الإجراء التطبيقي في الرواية التي بين أيدينا سنجدها وقد اعتمدت ذلك القالب الفانتازي في رصد أحداث واقعية منذ بداية العنوان وحتى لحظة انفصال السارد الحقيقي الضمني المنسوج في عوالم غيبية إلى السارد الحقيقي المحض معلناً انتهاء سرده الواقعي المتخيل في الصفحة 556 ” هكذا انتهت الصفحات الأخيرة من سيرتي، عشتها كما اشتهتني ولم ينته صخب الكتابة..” لتأتي الصفحات التالية بشخوص واقعية معاصرة من نسج آخر.
وإذا بدأنا بالعنوان (سيرة المنتهى) سنجده يستدعي المتلفظ الديني المعهود (سدرة المنتهى) بصورة مقصودة يدعمها بعض الاقتباسات من القرآن الكريم والحديث الشريف، ترددت في الحديث والسنة في سورة النجم.
ثم نراه يمهد إلينا بصورة واعية ذلك القالب الذي سيصب فيه رحلته من خلال ثلاثة نصوص؛ الأول لمحيي الدين بن عربي عن معراجه، الثاني لدانتي إليجري في الكوميديا الإلهية، الثالث لنيكوس كزانتزاكيس الذي يوجه حديثه إلى جده ليروي له قصة حياته.
وهكذا كانت العتبات النصية جميعها تصب في نمط سردي موجه نحو رحلة مروية تعتمد على الغيبي، فجاءت الاقتباسات بين رسالتين؛ الأولى موجهة إلى (ميترا) في صورة شاعرية بتوقيع حقيقي (واسيني).. والثانية موجهة إلى (الجد/ الروخو).. ممهدة لانطلاقة نحو العالم الأخر في رحلة عبر الذات الحقيقية/ المتخيلة لأحداث عالم بديل.
* الأهرام.