(سمِّهِ المفتاح إنْ شئت) لأماني سليمان…السّهل الممتنع




خاص ( ثقافات )
صدر حديثاً عن منشورات ضفاف في بيروت، ودار أزمنة في عمّان، مجموعة قصصية جديدة للقاصة الدكتورة أماني سليمان بعنوان: (سمّهِ المفتاح إنْ شئت)، وهي المجموعة القصصية الثانية، بعد مجموعتها الأولى “شخوص الكاتبة” التي صدرت عن دار أزمنة عام 2011. وتتألف هذه المجموعة من ثماني قصص، هي: الشّغف، وجهٌ في مرآة، تأويل، كأنني سهوت، شجرة النّبيذ، من الخلف تبدو الحكاية مختلفة، سجّادة ضوء، توت عجين ونار. وقد جاءت في ثمانين صفحة، بغلاف من تصميم إلياس فركوح، وظّف فيه لوحات للفنان السوري صفوان داحول.
وتبدو المجموعة لافتة منذ عنوانها (سمّه المفتاح إن شئت)، والذي يأتي منزاحاً عن المألوف في عنونة الكتب، فهو جملة تبدأ بفعل أمر، ثم لا تلبث أن تنتهي بشرط، مع اتخاذ كلمة المفتاح في العنوان ركيزة تستند إليها المجموعة في تصورها الأشمل باعتبار (المفتاح) سبيلا لفتح المغلق، واستكناه الغامض، وسبر المجهول؛ حيث تنشغل قصص هذه المجموعة في البحث عن معنى لهذا العالم، ودلالة الأشياء حولنا، من خلال النبش في الذات في مستوياتها المتعددة، وانعكاس هذه الذات في محيطها، وتأثرها بها، في أجواء تتنوع في القصص بين الصوفية وطقوسها، والمرايا وفلسفاتها، وعلم النفس والتأويل، والفنتازيا والميتا قصة، كما تمتح بعض القصص من الواقع وتتأمل فيه بما يجعل حالات أبطال القصص نتاجا لهذا الواقع، وتنشغل بعض القصص بثيمة الموت، بوصفه ثيمة أساسية تنبش القصصُ في دلالته ومعناه، وفي اتصاله الحميم والجدلي بالحياة، وتحاول -عبر وقفات أقرب إلى الشعرية الوجودية- أن تثير التساؤلات السردية المثيرة للتأمل، وتذكّر في أثناء ذلك بوظيفة الاستفهام السردي الذي يعد أهم بوابة تفتح أفق القارئ للبحث عن مفتاح ما قد يعينه على التأويل والفهم. 
وقد تميزت القصص بتأملات مكانية شفافة تمتد بين عمان ودمشق، من خلال أمكنة هامشية وجزئية فيهما، ولكنها جذابة لفن القصة القصيرة ولاهتمامات القاصة بالمكان الخفي الموحي. واعتنت المجموعة باللغة المكثفة التي لا تتخلى عن زمام السرد، ولا تتنازل عن بلاغة التعبير، بحثا عن جماليات “السهل الممتنع”، وعن فضاءات الترميز والتقطيع والإرجاء والتشويق، فلا تمنح المتلقّي الصورة الكلية إلا بوصوله السطر الأخير من كل قصة، فيظل القارئ مشدودا باحثا عن خيوط القصة وتفاصيلها، رابطا تلك التفاصيل بالمفتتح الخاص بكل قصة على حدة. 
تستثير القاصة التي ترسّخ صوتاً قصصياً خاصاً في مجموعتها تساؤلات ترتبط بثنائية الموت والحياة، والرجل والمرأة، والكهولة والصبا، والحضور والغياب، والحلم والواقع وغيرها متأملة في المفردات الغائرة أحيانا في محاولة تلمّس أبعاد هذه الثنائيات ودلالاتها.
ويذكر أن الدكتورة أماني سليمان داود هي كاتبة وأستاذة جامعية، وهي عضو رابطة الكتّاب الأردنيين، ونقابة الصحفيين الأردنيين، وجمعية النقاد الأردنيين. شاركت في العديد من المؤتمرات والندوات الثقافية والمتخصصة، كما شاركت في تأليف وتحرير عدد من الكتب الأكاديمية، وصدر لها كتاب: (الأسلوبية والصوفية: دراسة في شعر الحسين بن منصور الحلاج، دراسة أسلوبية) في طبعتين عن دار مجدلاوي/ عمّان 2002، ودار الحوار/ اللاذقية 2011، وكتاب: (الأمثال العربية القديمة: دراسة أسلوبية سردية حضارية) عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ بيروت 2009. وقد عملت في الصحافة الثقافية وفي التعليم الجامعي، وتعمل حاليا عضو هيئة تدريس بقسم اللغة العربية وآدابها بجامعة البترا الأهلية الأردنية.
___________

من مجموعة: سمّه المفتاح إن شئت
قصة: سجادة ضوء

أماني سليمان
الأرض تخون مثلما يخون الرجال، حين تلفِظ الجثةَ بقسوةٍ خارجها، وتَلْتَفِتُ إلى جثة أخرى، فتَلْتَفُّ عليها، لا تأبه لبرودة الأولى، وتَعَطُّشِها للدفء، وتأخذ الثانيةَ بحُنوٍّ نحوها تمارس دهشةً جديدة، وتقول استويتُ أخيرا على سوقي، وهي لا تفعل، إذ تحب كلما نضب التعطش لواحدة أن تبحث عن أخرى.
هذا ما كنتُ أخشاه، أنْ تغدو الأشياء قِطَعاً ممزّقة في الذاكرة، ومُعقَّدٌ لملمتُها لتكوينِ صورةٍ متكاملة….تلك كانت الفاجعة.
***
كان علَيَّ أن أعود إلى عمّان بسرعة، محمولةً على وجه الأمل بأن ما انتظرني بعد تلك الليلة منأيام قاتمة، لم يكن سوى حلم مارق على الواقع، سيمضي رغم أنْفِ كل شيء.
صفحة دمشق التي انفرشت أمامي كسجادة مضيئة، كانت كافيةً لأن تنفرد في رأسي إلى الأبد، وأن يَحولَ الدمُ الذي جرى هنا أو هناك، دون أن يمحوها.
قال لي: لعل ذهابك قبيل الثورة لم يكن عبث عابث، بل هو قَدَرٌ تَعَيَّن عليك تنفيذه.
مرت سيارة الجيب على الحدود، وخُتمت الأوراق الرسمية بختم المغادرة قبل انتهاء المدة المقررة، كان أمامنا بضع ساعات جُبنا فيها الشوارع القديمة، وعرجنا على المسجد النبوي، ومارستُ لذّةَ أن أتوسط الحمامات المتهاديات في صحن المسجد قبل أن تفرد أجنحتها لتعود إلى زرقة دمشق، المتعة التي كنت أمارسها بضع مرات في العام، قبل تلك الليلة التي لم ندرك حينها أنها الليلة الأخيرة قُبيل الدم.
قال: نحمد ربنا أن المشهد الأخير الذي انطبع في أذهاننا هو سجادة من ضوء يتراقص مبتهجا، نحمد ربنا أن أتيح لنا تودعيها.
انتفضتُ باستنكار: مَنْ قال إني ودّعتها، مّنْ قال إنه دار في خلدي أنني أصعد جبل قاسيون للمرة الأخيرة! الوداع ضرورة قاهرة لم تخبرني بها دمشق.
الطعام عند ( أبو العز) شهي مثل كل مرة، عجقة المكان، فسيفساء الجدران، أصوات الكؤوس والملاعق والسكاكين، روائح اللحم بالعجين، العاملون المتأهِّبون عند الزوايا لأي طلب، النوافير الغارقة في لحنها الأبدي، الهمسات التي تتجاوز همسها فتعلو كل بضع دقائق، وعلى الرغم من كل التفاصيل الاحتفالية المحيطة، كان ثمة شَجَنٌ يلفّ طاولتنا.
لم يكن قد مرَّ على عزاء صديقنا المقرَّب سوى بضع أيام، وغَدا لزاما أن نسجل خروج السيارة من الحدود الأردنية، لنضمن عدم مخالفتنا في الأيام القادمة التي سنقضيها في عمان قبل عودتنا إلى أعمالنا في الخارج.
الأضواء تتراقص، وتبدو من أعلى الجبل، كأنما تخفي تحت التماعها أسراراً موجعة لقلوب فاقدة، كل شيء كان مثاراً للإقبال على الحياة رأيناه مَدْعاةً للحزن، حاولنا أن لا نأتي على سيرة صديقنا، فأيام العزاء حملت من الوجع ما يمكن أن يكفينا العمر.
– لا حزن أكبر.
– …
– لا أظن أن وجعا، جديدا سيوجعنا أكثر.
وجدتني أحادث نفسي، فهو يشيح بوجهه عكس الضوء خشية أن ألمح دمعات تترقرق في صفحة وجهه.
قبيل الفجر، حملنا أنفسنا وبدأنا بالنزول، ميممين نحو عمّان. جلّ الليل كان قد مضى، ولم يعد في الجسد أي طاقة تحتمل السهر أكثر، فاستبقينا بعض صحوٍ لقيادة السيارة، قبل أن تغفو عيوننا.
تناوبنا في الطريق، الشوارع هادئة، أضواء دمشق أخذت تبتعد، وجَوْفٌ جافٌّ اضطرنا أن نشرب ما تبقى معنا من لبن العِيران، بعد أن انتبهنا أننا استنفدنا الماء الذي بحوزتنا.
جفاف الحلْق تضاعف، ويبدو أننا سهونا لثانية حين صرخنا فجأة من هزة مفاجئة للسيارة تَمُرُّ على مَطَبٍّ غير متوقع. 
آذان الفجر يصدح على استحياء من أحد المساجد في الشمال.
لم نَسْهُ بعدها، أقل من ساعة ابتدأنا باستعراض البيوت على طرفي الطريق، بيوت متناثرة حينا ومتراكمة موحية بالعَوَز حينا آخر، لم يَطُل المشهد كثيرا، حتى أخذ الصباح يتفتَّح، وعمّان تتجبّد، وتتثاءب تثاؤبها الأخير الذي يشي بلّذة البيات، لتنهض، وينهض معها خليط الحياة، بنقائضها. أقلّ من يوم، كأنّما نمنا طويلا ثم صحونا، كنا هناك، هناك الذي كان على مرمى القلب، وصار بعيدا كحزن في الذاكرة.
***
ما الذي جعل الأمر يجري على هذا النحو، لم نكن لنراهن إلا على ثبات رؤانا وتقاطعها، لنكتشف أننا لم نعرف ذواتنا ولا سوانا إلا حين حضر المَحَكّ، وسألتُهُ مَن نحن؟ كعادته لا يُسعف بإجابة، غير أنني امتهنتُ قراءته، وأيقنتُ أن الأمر بِرُمَّته أفلت من أيدينا، وغدا خارج السيطرة.
– الأرض تشبهك، كل عشق هو افتراض جثة جديدة – أقول -كل امرأة هي العشق الذي لن يكون متسعٌ لغيره، هكذا تُوهم نفسك، كلما أُصِبْتَ بلوثة امرأة جديدة. ورغم ذلك نرى في الأرض معانيَ نبيلةً وننتمي إليها، ونحسّ نريدها ولا نستغني عنها، ونود في الوقت ذاته لو نترحّل إلى آخر بقعة من الكون كي لا نتماسّ مع الجرح، أقول، فتضحك وترد باختزال: فلسفة.
لا تقل شيئا، اختلفنا، أخذتنا سحاباتٌ كلٌّ نحو مائها، الجرح عميق، تَغلغَلَ في الروح تماما، كما تغلغلت الثورة المطعونة في رأسي، فلم يعد ثمة قدرة على الغفران، والعبارة التي كنت أتفذلكُ بها بأنني قد أسامح ولكن لا أنسى، لم تعد مجدية، ليس لثورتي عليها، ولكن لأن قدرتي على التسامح نَفِدَت. أصرخ فيك، ثم أستأنف بهدوء: الموت يشبه الثورة، نحتاجهما، هما ضرورتان لكشف الحقيقة. ويتيه بصري في البعيد وأنا أتمتم: كنا ثلاثة بعنوان واحد، صرنا واحدا بعناوين كثيرة.
***
شعور غريب انتابني، وأنا أقف بعد شهور في البازار الذي أقيمَ دعما للمنكوبين، ثم وأنا أحمل جبل قاسيون، وقد لُفَّ بكيس بلاستيكي، كأنني أستعيد بذلك شيئا تحسرت طويلا على فقده وخسارة دلالاته، أدرت مفتاح محرك السيارة ومضيت إلى البيت، عند الزاوية وعلى طاولة مستديرة عالية، وضعتُ المِسند الأسود، وأسندتُ بلطفٍ اللوحةَ التي تحتضن آخر مكان زرته في دمشق. طوال عودتي إلى البيت وأنا أشعر أنني أنقل الجبل في سيارتي، حضر الراحلان، كانا يجلسان في المقعد الخلفي، تحدّثْنا، مستحضرين تفاصيل أزمان كثيرة معا، وانتهينا بتفاصيل ذلك اليوم؛حيث كنتُأطلّ منالقمة ودمشق تبدو من أعلى ـ مساءًـ سجادةً من ضوء.
حضر الراحلان؛ هو بصوته المَهيب الذي غادر بلا رجعة نحو بلاد بعيدة، والميتُ الذي ارتضى القبرَ بيتا أخيرا يريحه مِنْ همٍّ ظَلَّ ينهشه في الأعوام الأخيرة، وأنا الثالث…قررت أن أظل هنا أراوح مكاني، أحاول القبض على ما تبقى في ذاكرتي قبل أن ينهشه الزهايمر.

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *