المفتاح


*سعود السنعوسي

إذا ما ألحقت والدتي كلماتها بـ «والله»، صار الأمرُ إلهيَّاً.

كنت في السابعة من عمري عندما اشترى لي والدي درّاجتي الهوائية الأولى، هديّة تفوّقي في المدرسة. منعتني والدتي من قيادتها في حوش بيتنا ظهراً خوفاً عليّ من درجة حرارة تتعدّى، أحياناً، الخمسين مئوية؛ هذا ما كانت تقوله. ربّما هو سبب حقيقي، ولكنه ليس السبب الوحيد.
كانت والدتي قد تغيّرت. لم تعد كما يصفها والدي مناكفاً «ناظرة في المدرسة وفي البيت». صارت قلقة، تنتفضُ كلما ارتطم بابُ الحوش الحديديّ بفعل الرّيح، وتردَّدَ دويّه في الشارع. تصرخُ إذا ما أطلق صِبية الحيّ ألعابهم النارية احتفالاً بفوز فريق كرة قدم، أو لسببٍ آخر، أو لغير سبب. تتسمَّر أمام التليفزيون لساعاتٍ، تترقَّب نشرة الأخبار، تتَّصل بوالدي عشرات المرَّات في اليوم الواحد، تقضم أظافرها، تغمغم، تمسح دموعها خلسة. هذا هو ما صارت عليه والدتي، منذ تفجيرات المقاهي الشعبية عام 1985، قبل شهر واحد من حصولي على تلك الدرَّاجة. 
كان من بين ضحايا التفجيرات جارنا العجوز. خرج من بيته ولم يعد، تقول والدتي التي بَكَتْه كثيراً طيلة أسبوع: مات المسكين.. ترمَّلت حِصَّهَ، مرضت ابنتها.
كنتُ أتحيّن لحظة استيقاظ والديَّ من قيلولتهما لأحصل منهما على مفتاح البيت، حتى يتسنّى لي الخروج واللعب بدرَّاجتي. طرقتُ، ذات ظهيرة، باب غرفتهما الموصد. «ها؟!»، ردَّت والدتي بعد طرقات متكرِّرة. سألتُها: «متى أسوق القاري؟». جاءني صوتها مثقلاً بالنُّعاس: «إذا غابت الشمس». قرَّبتُ شفتيّ إلى ثقب الباب، وعدتها بألا أتجاوز سور الحوش بالدرَّاجة. لم تردّ، عدتُ إلى غرفتي، أطلُّ من النافذة على سبب إقامتي الجبرية داخل البيت، تلك المشرقة أبداً وقت لهفتي للخروج. نظرتُ إليها بعينين نصف مغمضتين. لا تتحرّك! كنت أعرف أن الشمس محض حجَّة، وأن والدتي تخشى أن أخرج من البيت في أثناء نومها وأتعرَّض لحادث مثل جارنا، ولا أعود، رغم أن المقهى الشعبي بعيدٌ ناحية البحر، ولا يمكنني الوصول إليه حتى مع الدرَّاجة. كان خروجي إلى الحوش مرهوناً بأوقات صحوها، حتى تتسنّى لها مراقبتي من نافذة غرفتها ما دمتُ أدورُ حول البيت بدرَّاجتي. 
أدرتُ للنافذة ظهري. اقتعدتُ الأرض، أعبث بأغلفة أشرطة الفيديو. لا شيء يستثير اهتمامي بين أفلام كارتون ومسرحيات أطفال أحفظها كاسمي. أهملتُ ميكي ماوس على شاشة التليفزيون الصغيرة. بنيتُ بيوتاً ودهاليز من أغلفة الأشرطة. أمسكتُ بدُمية هولك هوغان المصارع أدسّها في قلب مدينة الأغلفة قبل أن أهدّها فوق رأسه خراباً. دأبي كلّما سئمتُ أو غضبتُ، أبني مُدنا لأجل تدميرها على رؤوس دمى المصارعين والحيوانات البلاستيكية. دقائق مرَّت كالساعات، عاودتُ النظر إلى النافذة. كل شيء يتحرَّك في السماء التي تُقسِمُ والدتي بمَنْ رَفَعها؛ نتف غيوم وزرازير وحمام، وطائرة ورقية زرقاء عَلِقَ خيطها في أغصان سدرة الجيران. وحدها الشمس ثابتة في مكانها. لمحتُ في حوش الجيران فهداً يحمل كرة بحجم كرة تنس، ينحني يجمعُ حجارة. لعلَّه يتجهَّز للعبة «عنبر» مع صِبية الشارع. في مكان آخر من الحوش يكسر صادق بيضة على غطاء البالوعة الحديدي، يراقب نضوجها ببطء على سطح الحديد الملتهب بحرارة الشمس. 
تركتُ غرفتي سالكاً الممرّ نحو غرفة والديّ. عاودتُ طرق الباب مجدَّداً: «يُمَّه! متى أسوق القاري؟». تناهى إليَّ صوتها: «أفففف!». ألصقتُ أذني بالباب، تسلَّل صوتها عبر الخشب متموِّجاً مع هدير «الكنديشة»، مكيِّف الهواء الـ (جِنِرال)، كأنها محشورة داخل قوقعة. هدَّدَت: «يا ويلك إذا سألت عن القاري وأنا نايمة». ليتها اكتفت بتهديدها الأوّل دونما استطراد: «والله، إللي رفع السما، ما تسوقه طول عمرك إذا سألتني مرة ثانية! اِصبر لمّا تغيب الشمس!». مرَّت دقائق أخرى أقف فيها أمام الباب، احتفظتُ بسؤالي داخل فمي خائفاً. أعرفها إذا ما أقسمت بالله، صار الأمرُ يخصّه، ولا رجعة لوالدتي فيه. 
نفاد صبري إزاء تلك الثابتة في السماء، دفعني لطرق الباب مرة ثالثة، انطلق صوتها عالياً: «وبعدين!». ازدردتُ ريقي، عاودتُ المحاولة: «يُمَّه!». تلكَّأتُ قبل أن أسأل: «متى تغيب الشمس؟!»، ارتفعت ضحكات والدي من وراء الباب. سمعتُ صرير سريرهما. «ما في نوم!»، سمعتها تغمغم. فتحتْ الباب بعنف، نظرتْ إليّ بعينين متورِّمتين وابتسامة زمَّت عليها شفتيها غصباً: أنتَ تجيد طرح الأسئلة. قالت، ثمّ مدَّت كفّها إليَّ بالمفتاح: «خذ».
______
*الدوحة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *