السياب والملائكة..جدل الريادة حول الشعر الحر


*غيث خوري



يعدّ الشاعران بدر شاكر السياب ونازك الملائكة، من الرواد الأوائل الذين أسسوا لظهور الشعر الحر أو شعر التفعيلة في الأدب العربي الحديث، هذا النهج الذي كان وليد دوافع وأسباب تضافرت معاً، وهيأت لولادته كغيره من الأنماط الفنية الأخرى التي تولد على أنقاض سابقتها، وربما تلازمها وتسير إلى جانبها ما دام لكل منها ملامحه الخاصة وحاجته الموضوعية والفنية.

شهد الشعر العربي عبر تاريخه عدة محاولات لتجديده، بداية من العصر العباسي حين ثار أبو نواس على المقدمة الطللية، ونظم أبو العتاهية على أوزان خاصة غير مألوفة، ولكن المحاولات التي عرفها هذا العصر لم تتطور، وبخاصة بعد القرن الرابع الهجري حين جنح الشعراء إلى الزخرفة اللفظية، يزينون بها أشعارهم على حساب المعنى، وجمال الصورة.
وقبيل منتصف القرن العشرين بقليل، شهد الشعر العربي دخول مجموعة من الأفكار الحديثة حول شكله ودوره، الأمر الذي أدى إلى تجريد الشعر من بنائيته الفنية والتقنية ومفاهيمه وسلطته القائمة على الالتزام بنسق معين، من حيث عمودية القصيدة ووحدتها وارتكازها على القافية وعدم الخروج عن بحور الشعر المعروفة وتمحورها حول معانٍ مألوفة أو متكررة، وهكذا انطلقت القصيدة الحديثة أو «قصيدة التفعيلة» وبدأ يُنظرُ لها على يد الملائكة والسياب، اللذين يرجع أغلب المختصين إليهما، كأول من طرق باب هذا النهج الشعري وأسس لقواعده.
دار بين السياب ونازك الملائكة جدل كبير حول ريادة الكتابة الشعرية الجديدة، وأيهما أسبق في تقديم هذا النهج الشعري، حيث ظهرت أول قصيدة لنازك في هذا اللون سنة 1947 بعنوان «الكوليرا»، وفي نفس التوقيت تقريباً ظهرت قصيدة «هل كان حياً» للسياب.
يقول بدر شاكر السياب في مقدمة ديوانه «أساطير»، إن أول تجربة له من هذا القبيل كانت في قصيدة «هل كان حياً» من ديوان أزهار ذابلة، وقد صادف هذا النوع من الموسيقى قبولاً عند كثير من الشعراء الشباب، وتقول نازك الملائكة في كتابها قضايا الشعر المعاصر: إن بداية حركة الشعر الحر 1947 في العراق، بل من بغداد، وكانت أول قصيدة حرة الوزن تنشر هي قصيدتي «الكوليرا» وقد نشرت في بيروت، ووصلت نسخها إلى بغداد في أول ديسمبر/‏‏كانون الأول 1947، وفي النصف الثاني من الشهر نفسه صدر في بغداد ديوان بدر شاكر السياب «أزهار ذابلة» وفيه قصيدة حرة الوزن.
وبغض النظر عن هذا الجدل الذي دارت رحاه طويلاً، إلا أن أهم العوامل التي ساعدت على نشأة الشعر الحر وهيأت له، إنما تعود في جوهرها إلى دوافع اجتماعية وأخرى نفسية، تتمثل الاجتماعية منها فيما يطرأ على المجتمع من مظاهر التغيير والتبديل لأنماط الحياة ومكوناتها وللبنية الاجتماعية والتكوين الحضاري والأيدلوجي، وهنا يلتقط الشاعر المبدع هذه اللحظة المفصلية، وينشد التغيير نحو أساليب تناسب واقعه المعاش، وتساير وقع تحولاته البنيوية، أما الدوافع النفسية فتتمثل فيما يراه الباحثون توقاً للتخلص من الكبت الروحي والمادي الذي خلفه الاستعمار في الوطن العربي، وسعياً للتحرر من مخلفات الماضي وخلق أنواع فنية جديدة تلامس روح الناس وتعبر عن قضاياهم العميقة، وإلى جانب ذلك تبرز عوامل مفصلية أخرى، تتمثل في النزعة إلى تأكيد استقلال الفرد، والتي فرضت على الشعراء الشباب البعد عن النماذج التقليدية في الشعر العربي، وإبراز ذاتيتهم بصورة قوية.
لقد قام السياب مع بعض الرواد الآخرين كالبياتي والملائكة بمحاولات جادّة للتخلص من رتابة القافية في الشعر العربي، واعتماد نهج شعري جديد، مغاير بشكل كبير وربما جذري للحالة الشعرية السابقة، ليكون هذا اللون مذهباً له قوانينه الموضوعية والخاصة، وهذا ما يؤكده السياب بقوله: «ليس الشعر الحر مجرد شكل، إنه أكثر من ذلك، هو روح شعرية جديدة لا يكفي التخلي عن شكل القصيدة العمودية للإمساك بتلابيبها»، لقد عمد شعراء الحداثة إلى نقل الشعر من ذهنية التقليد وتقديس الأنظمة القديمة إلى ذهنية الحياة الجديدة التي تنطق بلغة جديدة، وطريقة جديدة، وتعبّر عن حقائق جديدة، وحولوا الشعر العربي من نظام العروض الخليلي إلى نظام الحرية، وأخرج الأوزان القديمة من قواعدها المألوفة إلى أوزان أملَتْها عليهم معاني ونبضات وجدانهم، وتصرفوا بالتفاعيل والقوافي وفاقاً للمزاجية الشعرية التي يوحي بها مقتضى الحال، هذا فضلاً عن التيارات الفكرية والتحليلات العميقة التي زخر بها شعرهم، والحياة والخيال والعاطفة التي انطلقوا منها. 
__________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *