إيميلي نوثومب والمهن التي لا تنسجم مع رغباتنا


*طاهر الزهراني


أتذكر عندما قرأت «سيرة الجوع» كانت أول قراءة لي لـ«إيميلي نوثومب»، لقد كانت باهرة بحديثها عن الجوع، دقيقة في وصف أشياء نتداولها يومياً لم تستوقفنا لنكتب عنها، فهي تتحدث عن متعة شرب الماء، وفتنة البسكويت، وسحر الشوكولاتة، تتحدث عن جوعها للبشر، بطريقة بسيطة وساحرة.

«لا يكفي أن يضع المرء قطعة من الشوكولاتة في فمه لكي يؤمن بالله وحسب، بل أيضاً لكي يشعر بجلال حضوره، …». بهذا الأسلوب الآسر تتحدث إيميلي، هي قادرة على توظيف السذاجة، والبراءة، والمكر في السرد، وهذا ما صنع منها حكاية منتظرة، ففي الخريف الفرنسي من كل عام، ينتظر الناس جني الكروم، ورواية لإيميلي نوثومب!
إن القارئ سيكون مشدوهاً من قدرة هذه المرأة على السرد، وسيقع في حب هذه الكاتبة بمجرة قراءة عمل واحدٍ لها، على رغم أن ما تكتبه يتكئ على السيرة الذاتية إلا أنه يكتب بفن، ودهشة، وهذا ما يهم القارئ.
***
نقرأ الرواية أحياناً بحثاً عن التقاطعات، سطر يذكرك بطفولتك، وتفاصيل حياتك، وكذلك حياة من تعرفهم. أتذكر الآن بعد قراءة هذه الرواية «جميل» ذلك الشاب الجميل الخلوق، الذي جاء من بنغلاديش ليعمل في الدائرة التي أعمل بها منظفاً للمراحيض، كنت أتعجب من شاب وسيم مثله أن يعمل في تلك المهنة!
سألته ذات مرة عن حياته، فأخبرني أنه الابن الوحيد بين خمس بنات، وربما هذا يفسر نعومة في سلوكه وحديثه. كان يعاون والده في صيد السمك، على ظهر زورق خشبي قديم، الأب المسن تعب، والسمك لم يعد يدر ما يكفي لمقاومة عبوس الحياة، لهذا اختار أن يتغرب لينظف المراحيض الضيقة، وترك سعة البحر الذي يحب.
«جميل» انقطع عن العمل فجأة! لنعرف بعد أسبوع أن «جميل» قتل في مقر سكنه في ليلة لا ضوء فيها، وهو يدافع عن شرفه الذي يشبه البحر!
***
إيميلي نوثومب ولدت في اليابان، وعاشت سنواتها الخمس الأولى هناك، ثم تنقلت مع والدها السفير البلجيكي في البلدان. وعلى رغم كثرة هذا الترحال، إلا أن صوتاً في داخلها لا يكاد يتوقف يدفعها نحو الشرق للإقامة في اليابان المكان الأول الذي شهد الصرخة الأولى، والخطوات الأولى في شرايين الحياة. فبعد سنوات الدراسة، لم تتردد إيميلي في التقدم بطلب وظيفة في اليابان رغبة في تلبية النداء، وبالفعل حصلت على فرصة للعمل هناك كمترجمة، لكن الأيام لم تتضامن معها، فعاشت تجربة قاسية خلال أيام تلك الوظيفة، وأنيط بها عملٌ لم تتصور ذات يوم أنها ستمارسه… لتجد نفسها في تلك الشركة محاسبة فتقول «لا أحسب أني سأنحدر إلى ما هو أدنى» لكن الانحدار يستمر، فتجد نفسها في القاع – مهنة وضيعة في نظر الآخرين – فتقول: «لن أخشى بعدها الانحدار إلى مرتبة أدنى». إيميلي صيرت الهزيمة الظاهرة انتصاراً داخلياً، وجعلت من المعرفة مضاداً لصدمات الحياة، وبؤس الواقع، وبدأت تعقد المقارنات بين ضغط الشركة – الحياة ولعنة الأرقام، وبين راحة المهنة وبساطتها، «كم هو حسن أن يحيا المرء بلا كبرياء ولا ذكاء»، نعم كم هي شاقة الحياة عندما تكون ذكياً أكثر مما ينبغي!
«المحاسبون الذي يقضون عشر ساعات في اليوم في نسخ الأرقام كانوا في نظري قرابين في مذبح إله يفتقد إلى السّموّ والسرّ الخفيّ»، هي تبعث رسالة مفادها أن المهن التي لا تليق بنا أحياناً، هي طريقنا نحو معنى عظيماً سيكون ملازماً لنا طوال الحياة. المدهش في سرد هذا الحدث الثري أن الكاتبة جمعت بين المعرفة والتجربة، بخلاف «جميل» الأميّ الذي لم ينل حظه من التعليم، وبالتالي مارس مهنته تلك بنوع من الرضا والقناعة، إيميلي تعترف أن التجربة علمتها الكثير، وأن المعرفة كانت طريقاً للعزاء والمصالحة، وخلق فلسفة للتعايش.
وهذا ما نفتقده نحن عندما نشاهد أصحاب المهن الوضيعة في أعيننا، تصدمنا القشرة، ونجهل اللب، الأمر ببساطة أننا نعاني جهلاً مضاعفاً، ينتج عنه عمى لا نرغب أبداً في رفعه، لهذا تقول إيميلي في هذه الرواية، تواضعوا قليلاً، تنازلوا عن الظلمة، فهناك ضوء، هناك فسحة في العيش، فالمعرفة لا تكفي لا بد من تجربة. لتهمس لنا في النهاية: «إن أبسط إنسان على وجه الأرض سيكون له نصيب من الحرية، طالما وُجدت نافذة»
***
هذه رواية قصيرة تضمنت خيبة كبيرة، استطاعت الكاتبة أن تصيرها تجربة إنسانية حية مؤثرة، كتبت بأسلوب مدهش، وأنا على يقين أن القارئ سيعيد بعد قراءة هذه الرواية النظر في أشياء كثيرة، منها نظرتنا إلى أنفسنا والآخرين، وعظيم أثر التجربة، وكذل كما يتعلق بمهننا التي نشعر أحياناً أنها لا تنسجم مع رغباتنا، وأمانينا التي كنا نحيكها في أيامنا الحالمة.
_________
*الحياة

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *