في سريالية ساحرة.. عامر الشقيري يخرج للموت لسانه




*محمد فائق البرغوثي


خاص ( ثقافات )
| توطئة |
يبدو اللحن جنائزيا وأنت تتنقل بين عناوين المجموعة وعتباتها الأولى، وهي تأخذك من موت مادي إلى آخر معنوي، ثم يتراءى لك مشهدٌ لنساء متشحات بالسواد، يتحلقن حول توابيت وقبور كثيرة، وشيئا فشيئا تتسارع وتيرة اللحن؛ بعفوية تهز امرأة كتفيها، وبتلقائية ترقّص فتاة ساقيها، يتسارع اللحن أكثر ويتحول إلى ايقاع راقص؛ ترمي النساء مناديلهن ودموعهن ويشرعن بالرقص، يخرج الموتى من توابيتهم راقصين، هياكل عظمية تترنح راقصة بشكل مثير للضحك. هذا ما يتراءى للقارئ فور إغلاقه غلاف المجموعة، وبهذه الصورة يتمظهر الموت عند عامر الشقيري ويتحول إلى مشهد كرنفالي صاخب . 
ما أن تمسك بمجموعة ( تداعيات مسخ مسالم للغاية ) حتى تفوح منها رائحة الموت فتسمع صرخات أبطالها واستغاثاتهم، لكنك عزيزي القارئ، مسالم ووادع مثل ذلك الكائن الافتراضي الذي ابتدعه عامر الشقيري، ليس بمقدورك أن تفعل شيئا أمام ماكينا القتل وشهية السفك الفوارة، أمام كاتب “مسجل خطر” صياد مكافآت ومتخصص في فنون القتل، ليس أمامك سوى أن تبتسم بمرارة، وتلعن قدرة ذلك الكاتب على إدهاش القارئ بنهايات حادة (كسيف صقيل) مباغتة (كطلقة قناص) وشاسعة (كقفزة منتحر). نهايات تنهل فكاهتها من الفاجعة؛ وتقيم طرافتها فوق عالم هش يتجاذبه الموت من كل صوب؛ إنها السخرية ” وهي ترى الشيء في جهامته وكدره فتخرج له لسانها وتحوله إلى لعبة مرحة دون أن تستهين تماما بقدره، إنها تسترد الوعي الإنساني من تصلبه لتعيد إليه مرونته وسماحته” (1) ولننظر هنا، كيف مارس عامر الشقيري هذه اللعبة باقتدار، كيف دغدغ الموت ورقّصه على إيقاع السخرية، وكيف هزأ بأدوات القمع والتنكيل وأنظمتها المتسلطة حين جعل فاعليتها مرهونة بـ (تفاحة) وما في ذلك من تصغير وتحقير لقدرتها العسكرية، يقول الكاتب في قصة ( سقوط ) : 
( أقف في ساحة عامة .. على رأسي تفاحة شهية والجنود يطلقون علي النار بلا هوادة، أعرف أنني الهدف لا التفاحة. الرصاصات تدغدغ الجسد فأضحك وتفضحني اهتزازات الكتفين، فيشتد حنقهم عليّ وتزداد زخات الرصاص )
والسارد هنا، لا يشغله وابل الرصاص المنهمر على جسده وإنما السيطرة على اهتزازات كتفيه خشية وقوع التفاحة ، وكل ما يفكر به ابتسامة محبوبته (ريم) وصوت فيروز، يقول الكاتب في ختام النص : 
( أتذكّر أغنية لفيروز، ستنتشلني مما أنا فيه لو غنيتها الآن ، وقبل أن أبدأ بالغناء ، يصيب أحدهم التفاحة ويفجرها .. فأسقط صريعا ! ) 
والقصة إذ تطرح مفهومي التشيؤ والأنسنة في فضاء فانتازي يستثمر إمكانات العجيب فإنها تسعى بذلك لأن تعمق دلالة الواقع ورؤية الكاتب الوجودية التي تنحاز للمهمشين وتنتصر لواقعه المنكوب، واضعة القارئ أمام صورتين متقابلتين (صورة لجسد صامد لا يتأثر بالرصاص، وتفاحة تقبع فوق رأسه) مقابل (جسد تتفجر تفاحته فيسقط صريعا) وهاتان الصورتان في تقابلهما تشكلان معا مشهدا كاريكاتوريا غاية في السخرية .
وفي قصة ساخرة أخرى يُشرعِن عامر الانتحار ويفتح له مكتباً لمزاولة المهنة، يصور الموت على أنه خيار حياة، كما ويصور المنتحرين بأنهم أناس لطفاء مفعمين بالتفاؤل يبعثون برسائل أمل للبؤساء ، ويُظهرهم في بساطةِ من يمارس نوعا من رياضة القفز، يقول الكاتب في قصة (السعداء) :
في منتصف الجسر الهائل الذي يمر من فوق النهر الكبير ،
هناك طاولة صغيرة يقعي خلفها موظف عجوز ، لديه زبائنه اللطفاء،
يقوم كل زبون بملء استمارة خاصة يكتب في آخرها رسالته التي يرغب 
بتوجيهها للبؤساء الذين يقطنون المدينة هناك .. ثم يقفز . 
في تقنية الإيهام هذه وما تحويه من تعارض دلالي بين مظهر الشخصية ومخبرها، تتجلى أهمية السارد المحايد الذي تقتصر مهمته على رصد الأحداث، دون تدخل أو كشف لنوايا الشخوص ومصائرها، مآل الأحداث وأبعادها، مشعلا بذلك عنصر المفاجأة مساهما في إعادة قراءة النص وفق منظور جديد .
وإذا كان قابيل الجريمة هو جوهر هذه الأضمونة السردية ومحور انشغالها، فإن السخرية والشكل الفني هما غراب الحل، وأقصد هنا أن عامر الشقيري بما يملكه من أدوات فنية وخيارات أسلوبية متنوعة استطاع أن يواري سوءة الموت بجدارة غراب، لكنه وقبل أن يهيل عليه تراب السخرية، يُسقط عنه ورقة التوت ليعري أكثر مواضعه حساسية فاضحا ضعف قدرته وهشاشة آلته العسكرية، وتارة نجده يُطلق على الموت رصاصة أخرى، إمعانا في السخرية، وتجسيدا لاستيحاش الانسان وتغوله، في موت مضاعف يبرز مفارقات الحروب وفظاعتها. ففي قصة (الشهيد) تتجلى المفارقة في إصابة الشهيد المحمول على الأكتاف برصاصة ثانية في صدره، والطريف أن الرصاصة ليست نتيجة اشتباك مع العدو، وإنما من نيران صديقة؛ من أهالي قريته المحتفون باستشهاده. وفي قصة (حظوظ) يقول أحد الأموات وسط ضجيج النيران والقنابل : ” من حسن حظنا أننا متنا في الغارة الماضية ” فيما يشرع السارد في قصة ( قذائف عمياء) بالحديث عن القبور التي نجت من الغارة التي أصابت قلب الحديقة والمقبرة قائلا ” ثمة موتى نجوا من موت ثان! ” فتجيبه رفيقته في قبر مجاور ساخرة ” يفرقنا الموت وتجمعنا القذائف ” . 
إذاً، يبدو واضحا من خلفية هذه المشاهد الأخيرة أن الكاتب استطاع أن يجدد دم الحكاية، أن ينفخ في أسطورة الخلق روحا جديدة، بطلا جديدا، بعد أن استحال مسرح الخلق إلى مقبرة جماعية خالية من الأحياء. عامر الشقيري ينحّي قابيله وغرابه ويتوج هابيل بطلا على عرش حكاياه؛ ينتقل بفضائه السردي إلى العالم السفلي، ويقيم كيانه القصصي على حركة الأموات، وهاهو يطل علينا (خالد صدقة) صديق الكاتب المقرب، ليجلس معه على أحد أرصفة القرية رفقة الأصدقاء، يتبادلون نكاتا بذيئة و أوقات حميمة، ورغم محاولة الكاتب اخفاء (هوية) خالد، إلا أن حميمية اللقاء تثير شجون خالد فيتذكر أنه (ميت) وهاهو يصرخ بهم: هذا يكفي وينصرف إلى المقبرة بلا وداع . 
وبالرغم من حداثة سنه ويفوع تجربته في القتل، إلا أنه يملك نُـبل المحاربين القدامى؛ ففي نظرة سريعة إلى نهايات بعض القصص – أدناه- نجد أن عامر الشقيري قاتل نبيل وشهم، لا يترك ضحاياه طريحي أرضهم، غرقى بدمائهم، ويلوذ بالفرار كقاتل شوارع مبتدئ، إنه يؤمّن لهم سيارة إسعاف، يرافقهم في باص نقل الموتى، ويضمن لهم موتا مهيبا؛ يجلب لهم الحانوتي، يمشي في جنازتهم، يلبس الأسود ويؤدي طقوس الحزن كما ينبغي، يشارك في الدفن، يضع إكليل ورد على قبورهم، يعلق صورهم على جدران بيته ولا ينسى أن يضع عليها شريطا أسود.) فلنتأمل هذه النهايات ( لكن هكذا قصص تنتهي بوصول سيارة إسعاف .. لننتظر/ وانطلق بي باص نقل الموتى/ ويعود الحانوتي مستاءً إلى البيت/ العائلة تتحلق حول القبر والأسود سيد الألوان / قالت: بسرعة أهيلوا عليه التراب/ ويعود إلى قبره حارس المقبرة/ صورتي تثقل كاهل الحائط ، هل ثمة شريط أسود عليها ) عامر الشقيري يؤرخ للموت في كل مراحله وأحواله .
يستمر الكاتب في انشغالاته السردية الساخرة من الموت، ويعرج بها إلى موت من نوع آخر، موت معنوي ومجرد؛ موت (الفكر) الناتج عن تغييب العقل وانحراف الوعي الإنساني وتطرفه ومن ثم ظهوره على هيئة جماعات ارهابية عابثة . يقول الكاتب في قصة (خلل) : 
(نهض الروبوت (س) في مصنع الروبوتات في أحد الأيام، وقد بدا أن خللاً في التصنيع قد أصابه. إذ أن الروبوت نمت له لحية كثة، وأخذ يسير في الصالة نحو مجموعة روبوتات تؤدي حركات أشبه بالرقص .. وشوهد في يده سيف صقيل !)
والسارد هنا لم يختر هذه الآلة الصماء عبثا، فهو في أنسنته لها، وتحميلها لصفات الجماعات الارهابية وسلوكها، أراد أن يقلب دلالة التشبيه و يرسل رسالة عكسية مفادها ( أنّ انسان هذه الجماعات أشبه ما يكون بالروبوت الآلي ) فالقصة إذاً، لم تطرح مفهوم الأنسنة إلا لتقيم فوقه دلالات التشيؤ، ولم تقدم هذا الروبوت إلا كدال رمزي على هذه الجماعات في انصياعها وانقيادها إلى يد تحركها كلعبة صماء فاقدة لإرادتها، ليشكل هذا (الخلل التقـني) معادلا موضوعيا وفنيا لهذا (الاختلال الفكري) الذي أصاب هذه الجماعات، وليغدو هذا الإلغاء لمنطق العلم والتكنولوجيا موازيا تماما لهذا الانحراف بالفطرة الانسانية السليمة المجبولة على التعايش و إعمار الكون . 
وبالرغم من (ثقل) المادة التي تقدمها المجموعة في حمولتها الفكرية ونزعتها الإنسانية وهيمنة المفاهيم الكبرى كالتشيؤ واغتراب الذات والمقاومة بالسخرية، وبالرغم من عنف الواقع الذي تعاينه وهو يحدق في وجه الموت وفي راهن المشهد العربي ونكباته وربيعه المزعوم، فإن ثمة خفة ورشاقة تتسرب إلى نفس القارئ وهو يرى هذا (الثقل) ذائبا في النسيج السردي منصهرا في جوهر الحدث القصصي، حتى أنك لا تجد في المجموعة كلها كلمة واحد نافرة، بقيت في حقلها الدلالي ومعجمها اللغوي كمادة خام ولم تتحلل إلى مادة سردية، ففي العديد من القصص يستحضر الكاتب أهم تجليات المشهد العربي الراهن، وهو في استحضارها ينقلك مباشرة إلى مسرح الأحداث ويجعلك معايشا لحركة الشخوص وهي ذائبة في “نسغ الحياة القصصية، متمثلة في المواقف المكثفة عبر الحركة الدرامية ذاتها”(2) دون استحضار لأي من مفاهيم ومصطلحات المرحلة مثل (الثورة / الربيع العربي/ الثورة المضادة) وهو بذلك يحررها من حدود الزمان والمكان، في تعميم جميل يتجاوز (الشرط العربي) ليعانق المدى الانساني، مكسبا النصوص ديمومة تجنبها شبح الشيخوخة الناتج عن تقادم الحدث وأفوله، يتجسد ذلك قصة (اعتياد) : 
( سقط الجنرال..
ورغم ذلك اتخذ الجميع وضعياتهم دون خطة مسبقة :
اتخذ الهواء وضعية التأهب لاستقبال سحب الدخان، السماء 
وضعية الزرقة التامة لتبدو الطائرات أوضح وبالتالي أكثر رعبا، 
الشاشات استعدت للأحمر القاني. اتخذ الجنود وضعية إطلاق النار،
واتخذنا نحن وضعية الأشلاء ! .)
يكشف هذا النص عن قدرة اختزالية فائقة لظاهرة تاريخية وحقبة سياسية مفصلية، استطاع الكاتب أن يجمع مراحلها في تركيب بصري ومشاهد بانورامية مبتسرة عبر تقنية فوتوغرافية عمدتْ إلى تجميد اللحظة وتثبيت عناصرها في هيئات ساكنة لكنها ذات دلالة متحركة ، تتراوح ما بين إيمائية (وضعية تأهب / وضعية إطلاق النار) وأخرى لونية (وضعية الزرقة / وضعية الأحمر القاني) وثالثة تجمع بينهما (وضعية الأشلاء) وكأننا أمام معرض صور يختزل حقبة الربيع العربي. كما مارس الكاتب في هذه القصة لعبة (التظاهر) سواءً بالموت أو بالجهوزية التامة، وكأن آلة القمع العسكرية (الطائرات/ الجنود) حفظت دورها عن ظهر قلب، وكأن عناصر المكان ( الهواء/ السماء/ الانسان) تعرف مصيرها المحتوم مسبقا، في رؤية ساخرة ونقد إيمائي لاذع لمآل الثورات العربية ونهاياتها المبتورة. 
يقدم الكاتب الموت وفق منظورات مختلفة؛ فإذا كان الموت ذو طبيعة كلية مطلقة، فهو الحقيقة السافرة التي لا مناص منها، فإن الموت عند عامر الشقيري يتجاوز حتى حضوره الحقيقي المطلق ليتجسد أيضا في عالم الخيال؛ الموت يقتحم المشهد، يتسلل إلى فضاء أحلامك وهي سابحة في الملكوت، وهي تمرح في حقول المستحيل ويصطاد عصفورة المجاز. في التماعة سردية أسست على التكرار معمارها الشعري ونهضت بمفارقتها على ثنائية كبرى ( الحقيقة / المجاز )، ثنائية لا تنتصر للموت بمقدار ما تنعى الحياة وتتبنى احساس الكاتب باللاجدوى والعبث . يقول الكاتب في قصة (السؤال ) :
( مجازا اجتزنا الحواجز كلها .. مجازا ركضنا في حقولنا الفسيحة، فرحين بالسنابل وضحكات الأطفال .. مجازا تفقدنا البيادر وقطفنا الرمان عن كتف الجبل .. مجازا وقفتْ سلمى عند حافة المنحدر وقالت سأطير .. ومجازا طارت .. لماذا عندما أطلق الجنود النار .. متنا .. حقيقة ؟!) 
لكنّ الموت يخلع رداءه السوريالي ويبدو أقل قطعية وموثوقية من القصة السابقة، يقدمه الكاتب في رؤية لا يقينية تحيل إلى واقع مخلخل يبدو فيه الموت ملتبسا بالحياة إلى درجة لم تستطع معها شخصيتا القصة التمييز إذا ما كانت ميتة أم لا، في نهاية غيمية تحفز القارئ وتستثيره جماليا؛ استطاع فيها الكاتب بقدرة فائقة أن يختزل عبثية المشهد الأخير من مسرحية (في انتظار جودو) وأن يشحن ذهن القارئ بطاقة تنبيهية تجبره فعلا أن يتوقف قليلا و(ينتظر) مع شخوص القصة قبل أن ينتقل إلى حكاية أخرى، يقول الكاتب في نهاية قصة (سرقة) :
– شيء يدعو للغثيان .. نطعن بهذه الطريقة من أجل محفظتين شبه فارغتين. هل أنا ميت ؟! 
– لص لعين .. لقد قتلنا أكثر مما يجب.
– هل أنا ميت؟ 
– لا أدري.. لكن.. هكذا قصص تنتهي بوصول سيارة إسعاف .. لننتظر !.
في قصة أخرى تبدو الحياة منفتحة أكثر على خيار الموت، ويبدو الموت كغرفة مجاورة، كباحة خارجية للحياة، فلا حاجة إذن لأن يطرق الباب و يستأذن، لا حاجة لأن يقدم نفسه، أن يشهر سلاحه أو يعطي مبرراته كما حدث في القصتين السابقتين ( قتلتك لأسرق محفظتك / قتلتك لأنك تجاوزت الحواجز الحدودية ) في درجة من التماهي تنسى فيها الضحية أن تعلن حيرتـــها ( لماذا متنا حقيقة ؟! هل أنا ميت ؟! كيف مت ؟! ) كما حدث آنفا، لكنّ هذا التماهي يبدو مخيفا أكثر حين لا تعي الضحية أنها ميتة أساسا، وتستمر في أحلامها و وضع مخططاتها الحياتية، كما سنرى في قصة (أسماء) : 
(… خرجتْ إلى الباحة وتنشقتْ هواءً رطباً منعشاً وأخذت تغني لجنينها الذي لمْ يرَ النور بعد وتفكّر باسم مناسب له. ظلتْ تقلّب أسماءً عديدة في رأسها حتى وهي محمولة على أكتاف المشيعين ، لم تتوقف عن التفكير باسم مناسب لطفلها. الجنين لم يكن يعنيه الأمر كثيرا .. فقد كان يسترخي نائما في تابوت حنون! )
فلنتأمل هنا كيف استطاع الكاتب أن يدير دفة الحكاية وينظم المروي بمهارة عالية حين جعل من حرف صغير أداة وصل بين عالمي الحياة والموت، وأقصد هنا حرف (حتى) ، وكيف استطاع أن يمرر(الموت) في سياق الحكي وفي إطار (الولادة) كحدث عابر باهت الحضور لا يملك أن يقطع حبل أفكار المرأة وهي ساهمة تقلب الأسماء في رأسها. إن هذه القفزات الزمكانية من شأنها أن ترفع وتيرة الرؤية في مباغتاتها الدرامية الخاطفة وما تثيره من حراك شعوري واحتدام داخلي في نفس القارئ، في نهاية جاءت أشبة بالولادة على دفعتين / قفلتين ، قفلة أنهت فيها حياة الأم ، وأخرى حياة الطفل ، هي ولادة ميتة (مجهضة) إذاً . 
إن البؤرة التي تؤطر مقولة الخطاب القصصي في هذه المجموعة، تتشكل من تقاطع محورين رئيسيين هما: السخرية من الموت / والاغتراب الذاتي، وهذا بدا واضحا في عناوين المجموعة، فإن أول ولوج لهذا المسخ في عالمه القصصي كان بـ (جثة) أولى عناوين المجموعة، وآخر ولوج انتهى بـعنوان (ولد وحيد) ، وقد ارتأينا في هذه القراءة ( وهي جزء من دراسة مطولة) أن نكتفي بالمحور الأول (السخرية من الموت) مرجئين المحور الثاني إلى قراءة مستقلة.
لقد استطاع عامر الشقيري أكثر من سواه ترسيخ شرعية هذا الجنس الأدبي الحديث في ذائقة القارئ وعقد مصالحة معه ، بعد أن كان يُنظر له بطرف عين تحت نظر آباء متشككين، وبعد أن غرق في عوالم من التشكيل والتجريب، في ولادة غير طبيعية بين الأجناس الأدبية فقدت معها هويتها وملامحها الأدبية وغلب عليها التشتت والضبابية تحت مسميات خصوبة الدلالة والانفتاح على التأويل ، عامر الشقيري أعاد للقصة القصيرة جدا حلاوتها ودهشتها ، تلك الخفة التي لا تحتمل وهي تقارع ثقل المادة وثراء المحتوى وعنف الواقع الذي تعاينه وتخرج منتصرة.
عامر الشقيري يكتب باستعلاء المبدع فلا يسقط في التكرار والابتذال والنمطية؛ كاتب بالفطرة، لا يستجدي المفارقة أو يكمن لها في مرورها المتعذر كطريدة أو يخرجها من بياتها الشتوي، لا يتسوّل الأضداد ليقودها إلى لقاءات محتدمة، ولا يفتعل خصومة بين النظائر كي يشعل عنصر المفارقة، لا شيء سوى الحركة الموحية واللفتة الذكية المحافظة على عذريتها، ولا شيء سوى تلك الالتماعات السردية التي تغمز بالمعنى وتشف بالدلالة لكنها في نفس الوقت تحكم إغلاق دوائرها في نهايات حاسمة “سنمارية” المعمار، تنهض في بنائها على لبنة / كلمة واحدة، كاشفة وصادمة كصفعة، في تيمات منفتحة على الراهن، ناقدة للواقع وملامسة للأسئلة المقلقة، تتسم بنزعتها الوجودية وتلتقط ذبذبات النفس البشرية وتصل إلى مناطق شديدة العمق والخصوصية لتستخرج الراكد منها، في خيط شعوري واحد منسوج من تقاطع عدة حقول دلالية.
في نصوص هذه المجموعة تبرز قدرة الكاتب على اختزال الواقع وإعادة تخليقه في صور موازية سوريالية الملمح وحينا في تشكيل رمزي يستوعب ما فيه من أبعاد وإحالات، كما تتجلى براعة الكاتب في استحضار العديد من النظريات والأنساق المعرفية المختلفة في نماذج حكائية مصغرة تتغذى على الهامش وتتسرب منه إلى المركز. وبجدارة استطاع الكاتب أن يكسر حدة الموت بتجلياته المختلفة بتحويله إلى ألعاب مرحة؛ فمرة يحوله إلى لعبة ( التصويب والتفاحة) وأخرى إلى لعبة رياضية ( القفز) وحينا على صورة (روبوت آلي) وتارة إلى لعبة ( التظاهر). 
وختاما أقول، لقد استطاع الكاتب في هذه المجموعة القصصية أن يضيف للنهاية وردة ، لكنها وردة جافة سرقها من أحد القبور ليودعها قبرا آخر حديث الولادة، أو ربما ليهديها قارئا وادعا علّـهُ يحرّك فيه ذلك ( المسخ المسالم للغاية) !.
________
(1) صلاح فضل، أساليب السرد في الرواية العربية، دار سعاد الصباح، طبعة أولى، ص 59
(2) المصدر نفسه ، ص 108.
________
*ناقد أردني 

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *