حب الحياة: ألبير كامو عن السعادة.. اليأس


ماريا بوبوفا/ ترجمة: آماليا داود


” ليس هناك حب للحياة من دون اليأس منها” 

  

“هؤلاء الذين يفضلون مبادئهم على سعادتهم، يرفضون أن يكونوا سعداء خارج الظروف المرتبطة بسعادتهم”، كتب هذا ألبير كامو في دفتر ملاحظاته في آخر حياته، وبالفعل، مبادئنا تتحول إلى عادات، وعلى الرغم من أن العادات هي التي تشكلُ حياتنا الداخلية، فإنها يمكن أن تتحول إلى جمود الروتين وتخلق نوعاً من الزخم، الذي بدل أن يوسع من قدرتنا على السعادة، يحد منها. في نشوة الروتين والإنتاجية المنظمة، ينتهي بنا الأمر بأن نكون موجودين في حياتنا اليومية بينما في الحقيقة نكون غائبين عنهم.
وهناك بعض الأشياء التي تكسر روتيننا، وتوقظنا لنعيش بسعادة أكثر قوة من أن نسافر.
كامو عَلم ذلك. قبل عقود مضت، عندما كان عمره 22 وما زال شاباً في طريقه الطويل نحو أن يكون أصغر حاصل على جائزة نوبل في الأدب، بحث في حيرة الإنسان مع الأناقة الفكرية التي لا نظير لها والنعمة الروحية في مقال بعنوان “حب الحياة “.
وسرد مشهد لامرأة شابة ترقص بهذيان في ملهى إسباني، كامو الذي اعتقد أن دعائم السعادة هي التزام أخلاقي كتب: 
“بدون المقاهي والجرائد، يكون من الصعب السفر، صفحات مكتوبة بلغتنا، مكان تكون فيه أكتافنا بجانب الآخرين في المساء، تمكننا من تقليد إيماءات مألوفة للإنسان الذي نكونه في المنزل، الذي، عندما ينظرُ له من مسافة، يبدو شخصاً غريباً.
والذي يعطي قيمة للسفر هو الخوف، فيكسر نوع من البنية الداخلية لدينا، فلم يعدد بإمكاننا أن نغش، وأن نختبئ وراء ساعات العمل الطويلة في المكتب، أو في المصنع (هذا الساعات التي نحتج عليها بصوت عالٍ، والتي تحمينا جيداً من ألم وحدتنا). 
لقد أردت دائماً أن أكتب روايات حيث يقول الأبطال جمل مثل: “ماذا افعل بدون المكتب؟” أو: “زوجتي ماتت، لكن للأسف لدي طلبات كثيرة لملأها لعمل الغد”، والسفر يسلب منا هذا الملجأ.
بعيداً عن شعبنا، عن لغتنا، مجردين من كل الدعائم، ومحرومين من كل الأقنعة (فلا نعرف أجرة القطار أو أي شيء آخر)، نحن نعيش على سطح أنفسنا، لكن أيضاً، بالروح المريضة، نعيد لكل كائن ولكل غرض قيمته الخارقة.
امرأة ترقص بدون أفكار في رأسها، قنينة على الطاولة، لَمحتها من وراء الستار: كل لقطة تصبح رمزاً، الحياة كلها تتجلى فيها، وبقدر ما تلخص تلك اللقطة حياتنا الحالية، عندما نكون واعين بكل الهدايا، والسموم المتناقضة عندها نستطيع أن نستمتع (بما في ذلك الصفاء) هذه اللحظات لا توصف”.
لكن مع هذا الاتصال مع النعيم المطلق كامو يحذر، بضرورة قدر متساوٍ بالاتصال مع اليأس: 
“فهناك يكمن حب الحياة، الرغبة الصامتة لما يمكن أن يهرب مني، مرارة تحت البريق. كل يوم أريد مغادرة حياة الأديرة كرجل يرتفع من نفسه، المندمج للحظة وجيزة في استمرارية العالم، لا يوجد حب للحياة بدون اليأس منها.
مردداً تحذير كيركيغارد: “من بين جميع الأشياء السخيفة، أكثرها سخافة بالنسبة لي، أن تكون مشغولاً”
وكتبَ الفيلسوف الدنمركي أن كثرة التفكير أكبر مصدر من مصادر التعاسة، ويعتبر كامو أن نشوة الإنتاجية تسرق منا الوجود اللازم لتحقيق السعادة: 
“الحياة قصيرة، ومن المخزي إضاعة وقت الإنسان. يقولون إني نشيط، لكن أن تكون نشيطاً هو إضاعة للوقت، إذ إن الانشغال ينسينا أنفسنا. اليوم يوم راحة، وقلبي يذهب للبحث عن نفسه، إذا كان الألم ما زال يطلق نيرانه علي، يكون عندما أحسُّ هذه اللحظة التي لا تعوض تنزلق من أصابعي كالزئبق، في اللحظة، مملكتي بكاملها خارج هذا العالم. هذه الشمس وهذا الظل، الدفء والبرد المنبثق من أعماق هذا الهواء: لماذا تتساءل إذا كان شيء يموت، إذا كان الإنسان يعاني؟ لأن كل شيء مكتوب على هذه النافذة حيث يتسلط عليها الضوء كتحية لشفقتي؟ 
أستطيع القول، وفي لحظة سوف أقول إن المهم أن تكون إنساناً وبسيطاً، وما يحسب أن تكون حقيقياً وعندها كل شيء يكون في مكانه المناسب، الإنسانية والبساطة. متى أكون أكثر صدقاً عندما أكون أنا العالم؟ كوبي يمتلئ قبل أن أمتلك الوقت للرغبة.
الخلود موجود وكنت أطمح إليه، لكن ما أطمح إليه الآن لم يعد السعادة، بل ببساطة الوعي.
[…]
الشجاعة الحقيقية أن تحدق مباشرة إلى النور كما تحدق إلى الموت، بجانب ذلك، كيف يمكنني تحديد الرابط الذي يؤدي من استهلاك حب الحياة إلى هذه اليأس السري؟ إذا استمتعت إلى صوت السخرية، أقرفص تحت الأشياء، وببطء سوف تكشف نفسها، وتغمز بأشيائها الصغيرة واضحة الرؤية، وتقول: “عش كأنك..” على الرغم من البحث الكثير، هذا كل ما تعرفه”.


المصدر: BrainPickings.org

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *