*أمير العمري
ينتمي إنغمار برغمان إلى الجيل الثالث من السينمائيين العظماء في السينما العالمية، هذا الجيل الذي يضم جون فورد وأورسون ويلز وأنطونيوني وفيلليني وفيسكونتي ولويس بونويل وكيروساوا، بعد الجيل الأول، جيل الروّاد الأوائل أمثال شارلي شابلن وغريفيث وبودوفكين وأيزنشتاين وإريك فون ستروهايم، ثم الجيل الثاني، جيل العصر الذهبي أمثال رينيه كلير وجان رينوار وفريتز لانغ وهوارد هوكس.
ويمكن اعتبار برغمان أوّل سينمائي ينقل السينما من مجال الانشغال بتنسيق وترتيب الصور مع بعضها البعض بحثا عن إيقاع عام يعكس دلالات بصرية وفكرية معينة، إلى مجال البحث عمّا يكمن تحت جلد الصورة نفسها من دلالات فلسفية ونفسية عميقة، مع البحث الدائم بالطبع عن إيقاع خاص للقطة – المشهد. وربما لا يضاهي بحث برغمان في هذا الإطار إلا تجارب السينمائي الروسي الراحل أندريه تاركوفسكي.
الذات المعذبة
ينشغل برغمان في أفلامه بالبحث الصوفي المعذّب في أغوار الذات، ذاته الخاصة، وأيضا كمعادل للذات الإنسانية كلّها، الأمر الذي يتفق مع مقولة سارتر الفلسفية الوجودية “عندما أختار فأنا لا أختار لنفسي فقط بل للآخرين جميعا أيضا”. وكان برغمان أوّل من أدخل القضايا والمواضيع الذهنية والفلسفية المجردة إلى مجال هذا الفن البصري، فهو دائم البحث في أفلامه في قضايا الزمن وحتميّة الموت والمصير الإنساني وكوميديا الحيرة الإنسانية وطبيعة الشر، الأنانية الإنسانية وقيمة الفنّ، والمرأة في حياة الرجل، والرجل في حياة المرأة.
ولد إنغمار برغمان في 14 يوليو عام 1918، لأب قس كان ملحقا بالخدمة في القصر الملكي، ولذا نشأ برغمان الطفل في جو شديد التزمت، وكان والده يعاقبه باستمرار، وكان يحبسه أحيانا في غرفة مظلمة لعدة ساعات. ولا شك أن طفولة برغمان القاسية تركت تأثيرها الكبير عليه، وظلّ دائما يعود إليها في أفلامه وأعماله المسرحية.
تعرّف برغمان على المسرح للمرة الأولى وهو بعد في الخامسة من عمره، عندما شاهد إحدى مسرحيات الكاتب السويدي الكبير سترنبرغ. وفي التاسعة من عمره، صنع برغمان لنفسه خشبة مسرح صغيرة يتحكم بنفسه فيها أسفل المنضدة الموجودة في غرفة الألعاب.
درس برغمان الأدب والرسم في جامعة ستوكهولم، وأثناء دراسته، قام بالإخراج والتمثيل في مسرح الجامعة، ثم التحق عقب تخرّجه بالعمل في مسرح ستوكهولم كمخرج تحت التمرين. وكتب خلال تلك الفترة بعض المسرحيات والروايات والقصص القصيرة، لكنه لم يتمكن قط من إنتاج مسرحياته أو نشر قصصه ورواياته.
البذور الأولى
وفي عام 1941، التحق بالعمل في مدينة السينما، حيث قام بإعادة كتابة السيناريوهات وإصلاحها وجعلها صالحة للسينما. وجاءته الفرصة الكبيرة عام 1944 عندما كتب سيناريو فيلم “نوبة جنون” الذي أخرجه المخرج السويدي الشهير إلف شوبيرغ. وحقق الفيلم نجاحا كبيرا مما أتاح لبرغمان الفرصة لإخراج فيلمه السينمائى الأول “أزمة” عام 1945، أعقبه أفلام “إنّها تمطر على حبنا” (1946)، و”امرأة بلا وجه” و”سفينة تتجه إلى الهند” أو أرض الرغبة، و”الليل مستقبلي” عام 1947. ولم تلق أفلام برغمان الأولى نجاحا كبيرا. وترجع أهمية مشاهدتها حاليا إلى قيمتها التاريخية عند عشاق سينما برغمان، فهي تحتوي على البذور الأولى التي نضجت فيما بعد في أفلامه الكبيرة. وكان برغمان مشغولا في هذه الأفلام بتناول مشاكل وإحباطات الشباب، وبالفجوة العميقة التي نشأت بين الجيل الجديد والجيل القديم في المجتمع السويدي.
أما أول أفلامه الهامة فقد أخرجه عام 1949 بعنوان “سجن”، وكتب له السيناريو بنفسه كما سيفعل فيما بعد في كل أفلامه. ويحوي هذا الفيلم كلّ التقاليد التي ستصبح من الخصائص المميزة لسينما برغمان. يتناول الفيلم موضوع انتحار عاهرة شابة، ومن خلاله يطرح برغمان أفكاره الخاصة عن الله والشيطان والحياة والموت، وهي الأفكار التي ظلّت دائما ماثلة في أفلامه جميعها.
سيكولوجية المرأة
الموضوع الذي برز مبكرا في سينما برغمان يتعلق بسيكولوجية المرأة وتفردها ككائن إنساني. وقد برز اهتمام برغمان المكثف بالمرأة للمرة الأولى في فيلم “العطش” (1949) ثم تعمق أكثر في أفلامه التالية مثل “استراحة صيف” (1950) الذي يعتبره برغمان أكثر أفلامه قربا إلى نفسه، و”أسرار النساء” و”المرأة المنتظرة” و”الصيف مع مونيكا” و”رحلة في الخريف” و”ابتسامات ليلة صيف”.
ازداد اهتمام برغمان في أفلامه الكبيرة فيما بعد، بالبحث في الحساسية الخاصة للمرأة، والعلاقة بينها وبين الرجل. وفي معظم هذه الأفلام نرى “امرأة” أو مجموعة من النساء، في بؤرة الأحداث، بينما الرّجال على الهامش. وتنجح علاقة الرجل بالمرأة فقط بفضل عاطفة أو ذكاء أو صبر المرأة، ويعتمد نجاح العلاقة على كيفية تمكّن المرأة من النيل من خيلاء الرجل وغروره.
عربة مصاص الدماء
ظلت أفلام برغمان غير معروفة خارج السويد إلى أن حصل على جائزة الإخراج في مهرجان كان عام 1956 عن فيلم “ابتسامات ليلة صيف”، ثم على جائزة لجنة التحكيم الخاصة في كان عام 1957 عن فيلم “الختم السابع”. ومنذ ذلك الوقت ذاع صيته في العالم كأعظم فنان سينمائي قادم من الدول الأسكندنافية.
كان فيلم “الختم السابع” بوجه خاص بمثابة نقلة كبيرة في استخدام الصورة السينمائية كما في تقديم المحتوى الفلسفي في السينما. ويناقش برغمان في الفيلم موضوعة الله، وفكرة المواجهة بين الإنسان والموت التي يجسدها برغمان بشكل مرئي، ورغم الطابع الظاهري للفيلم، الذي يبدو كإحدى قصص الأطفال الأسطورية، إلا أن برغمان يمزج ببراعة نادرة بين تأملاته الذاتية الخاصة وبين لغة الصورة، مع اهتمام كبير بالضوء والتكوين وحركة الكاميرا على نحو مركّب ولكن شديد الجاذبية.
في “الختم السابع” يتعامل برغمان مع قضية وجودية من خلال ذلك الفارس المحارب الذي يعود من الحروب الصليبية في القرن السابع عشر إلى بلدته، فيجد وباء الطاعون يفتك بأهلها، ويصبح هو الآخر مطاردا من الموت الذي يتجسد له في هيئة شخص يرتدي الملابس وقلنسوة الرأس السوداء. ويقرر الفارس أن يتحدى الموت، ويستدرجه لكي يلعب معه الشطرنج على أن يعفيه من الموت إذا ما تفوّق عليه في اللعب. ورغم معرفته بنتيجة تلك المراهنة مسبقا، إلا أنه يسعى لكسب الوقت، للّهو بفكرة الموت بل وبالموت نفسه كأفضل وسيلة لكسب الحياة: أليست الحياة عبارة عن هروب مؤقت من الموت!
يصطحب الفارس تابعه في رحلة يشاهدان خلالها كيف يتهم القساوسة امرأة بالتهمة الشهيرة، أي السحر، ويحمّلونها مسؤولية انتشار الطاعون، ثم يحكمون عليها بالموت بمباركة الجميع، ويرون أيضا كيف تحوّل القساوسة إلى تجار يسعون للاستفادة من الخوف والذعر، واستثمار الطاعون للحصول على منافع دنيوية. التابع يتعامل مع الموت كمزحة، وهو رغم إلحاده، يعطف على المحتاج ويتعاطف مع الضحية. أما الفارس فهو مؤمن بإمكانية إنزال الهزيمة بالموت عن طريق الجمع بين فروسيته وشجاعته البدنية، وبين اليقين الروحي المستقر عند رجل الدين (القس). وعندما يروي للقس كيف يتحدى الموت ويلعب معه الشطرنج يكتشف أن القس هو نفسه الموت.
يكشف هذا الفيلم، رغم ما يتردد فيه من “تشكك”، عن رغبة برغمان في الوصول إلى اليقين الروحي، وهو ما سيتضح أكثر فأكثر في أفلامه التالية: أي بحثه الشاق عن الإيمان، وعن جوهر فكرة الله، فقد اتجه برغمان بعده إلى التعمق أكثر في الذات بحثا عن الحقيقة فيما وراء ما يؤرقه ويعذبه. وأصبحت عملية الخلق السينمائي عنده عملية شديدة الذاتية كالعلاقة بين الفنان واللوحة، أو بالأحرى نوعا من المناجاة القوية واستدعاء القيم الروحية في عالم يسيطر عليه الفساد ويغرق في الرذيلة ويحيا أجواء العزلة الباردة.
أشهر أفلام برغمان بعد ذلك فيلم “الفراولة البرية” الذي يتناول موضوع العزلة الإنسانية. ويستخدم برغمان هنا، كما فعل مرارا، الرحلة كشكل للبناء في فيلمه. وفيه نرى عالما في الطب يجمع مذكراته، ويستعد لحضور حفل لتكريمه بعد 50 عاما من العطاء، إلا أنه يقرر أن يتجه إلى موطنه الأصلي. وخلال الرحلة يراجع البروفيسور العجوز حياته في سلسلة من المشاهد، وينتقل في ذاكرته من الجمال إلى الشرّ، ومن الرقة إلى العنف، من الطفولة إلى الشباب إلى الشيخوخة، وفي نهاية الرحلة التي تمتلئ بالهواجس والكوابيس والرؤى الغريبة، يصبح الرجل أكثر تصالحا مع نفسه وأكثر قبولا لفكرة توديع رحلة الحياة.
ثلاثية العزلة
في أوائل الستينات، قدم برغمان ثلاثيته الشهيرة “من خلال زجاج معتم” و”ضوء الشتاء” و”الصمت”. وفي الأفلام الثلاثة بلغت تجربة برغمان السينمائي ذروتها في استخدام الفيلم لتناول أكثر الأفكار الإنسانية ارتباطا بالميتافيزيقا، كموضوعات الله والإحساس الإنساني بالعزلة والاغتراب والصراع الدائم بين الشك والإيمان والموت.
في “ضوء الشتاء” مثلا يعبّر عن تشككه في جدوى الحياة عندما يجعل القس يقول لرجل يوشك على الانتحار “إننا يجب أن نعيش” فيرد عليه الرجل متسائلا “ولماذا يجب أن نعيش؟”. فلا يجد القس سوى أن يطرق برأسه ويصمت. والفيلم بأسره رحلة في البحث عن الله إذا جاز التعبير، فهو يطرح الكثير من التساؤلات التي تتعلق بفكرة الله، كما يتصورها القس انطلاقا من مخاوفه الداخلية، ومن آماله وتطلعاته الشخصية. وهنا يتساءل برغمان “هل الله هو ما نعكسه من ذواتنا، من خوفنا، من داخلنا، أم إنه أشمل من هذا وأكبر؟”.
عالم الأحلام
من عالم الأحلام يستمد برغمان أفكارا بارزة تتكرر في أفلامه كلها، حتى ليبدو للمتأمل أن برغمان يصنع الفيلم نفسه في كل مرة. لكن عظمة برغمان تتلخص تحديدا في قدرته على إحاطة الفكرة بإطار جديد، ومنحها مزيدا من خبرته المتراكمة في الحياة.
في فيلم “برسونا” (أو القناع) عام 1966، عاد برغمان فواصل رحلته لفهم السيكولوجية الإنسانية المعقدة، الإنسان في مواجهة نفسه، مرآة الذات ومرآة الحياة، الحياة والموت، والرغبة الغامضة في التشبث بالحياة. لكنه عاد إلى نفس الموضوع كأقوى ما يكون في أحد أروع أفلامه كلها وهو فيلم “صرخات وهمسات” الذي أخرجه عام 1972. وفيه يعبر للمرة الأولى باستخدام الإمكانيات الدرامية الهائلة للألوان بعد أن كان دائما يستخدم التصوير بالأسود والأبيض.
قيمة برغمان
تكمن قيمة برغمان الكبرى في كونه جعل من عمل المخرج السينمائي قيمة كبرى تتساوى مع قيمة الرسام العظيم والفيلسوف والموسيقار. ونجح برغمان دائما في الاحتفاظ بحريته كفنان سينمائي مبتكر وأصيل يكتب أفلامه بنفسه، لذا فهو نموذج فذ للمخرج ـ المؤلف.
ولم يعمل أبدا في الولايات المتحدة رغم الإغراءات، لكنه اضطر إلى العمل خارج السويد في ألمانيا عندما قدم فيلم “بيضة الأفعى” عام 1977، ثم فيلم “سوناتا الخريف” في بريطانيا، بعد أن غادر السويد بعد المعاملة الخشنة التي تعرض لها من جانب مسؤولي الضرائب في بلده، لكنه عاد إلى السويد عام 1978، وأخرج آخر أفلامه الروائية السينمائية الطويلة (وهو أطول أفلامه أيضا) فيلم “فاني وألكسندر” الذي اعتزل على إثره العمل السينمائي، وإن كان قد أخرج بعض الأفلام للتلفزيون، وكتب روايتين هما “أفضل النوايا” و”أطفال الأحد”. وتحولت الاثنتان إلى السينما في فيلمين أخرجهما بيلي أوجست وابنه دانييل برغمان.
ورغم الاحتفاء الكبير بالفيلم وبأفلام برغمان عموما، فقد كان هناك من أخذ يطعنه ويسدد له السهام ويهاجم أفلامه بضراوة، فالسينمائي والناقد الفرنسي جان ميتري مثلا اتهم فيلم “الصمت” بأنه “فيلم مضاد للسينما، أدبي، يحتوي على كل ما ينبغي تفاديه في الأفلام”، والمخرج السويدي الشهير، بوفيدربرج، اتهم برغمان في بيان أصدره عام 1962 بالترويج لأنماط ثابتة في أفلامه للشخصية السويدية، ودعا إلى ضرورة ظهور سينما سويدية جديدة تتعامل مع القضايا الاجتماعية.
لكن برغمان ظل “أيقونة”، ليس فقط في السينما بل وفي المسرح أيضا. وكان يقول إنه إذا كان يعتبر السينما عشيقته، فهو يعتبر المسرح زوجته المخلصة.
أخرج برغمان 50 فيلما روائيا، و أكثر من 100 مسرحية، و15 عملا دراميا للتلفزيون، وعددا من الأوبرات، كما كتب سيناريوهات عديدة نفذها مخرجون آخرون. وأصدر مذكراته وسيرته الذاتية في كتابين “الفانوس السحري” (1987) و”أحاديث خاصة” (1996).
إنغمار برغمان لا يزال يثير خيال الكثير من الشباب الباحثين عن جوهر هذا الفن وليس الانزلاق على سطحه اللامع من الخارج.
______
*العرب