*بسمة النسور
من المثير للاستغراب، فعلاً، هذا العداء والنظرة الدونية الذي تكنّها وتعبّر عنها بعض النساء لأنفسهن، بحيث يرفضن الاعتراف بأهمية يوم المرأة العالمي الذي تصادف، الأسبوع المنصرم، مناسبةً رمزية للتذكير بعذابات المرأة ونضالها عبر العصور في سبيل تحقيق غدٍ أكثر رفقاً، في سياق إنكار جائر ومحاباة مكشوفة لنمط تفكير مجتمعاتٍ امتهنت حقوقها، وجارت عليها بكل الوسائل الممكنة بمباركةٍ ذكورية سلطوية غاشمة، لا تخلو من استبداد وتجبّر. في زمن مملوكي غابر، شب حريق هائل في أحد الحمامات العمومية المخصصة للنساء، فهربت مجموعة كبيرة منهن، تلبية لنداء الحياة الغريزي الأهوج، هاربات بجلدهن العاري المشرع للعيان، خشية التعرّض للشيّ تحت ألسنة نيرانٍ أكول لا ترحم، غير عابئاتٍ بعريهن القسري الذي انتهك خصوصية الجسد والروح في لحظة مرعبة شديدة الحسم. في حين قبعت مجموعة أخرى خلف حيائهن، عاجزات مذعنات متجاهلاتٍ إلحاح صوت الحياة، ورفْضن، على الرغم من تهديد الألم الرهيب، الانكشاف أمام الغرباء، حتى وإن كانت تلك الوسيلة الوحيدة المتاحة للنجاة من موتٍ محقّق، مستسلمات لمصيرهن وقوداً سريع الاشتعال، شهيدات وشاهدات على عذابات الأنوثة غير القابلة للانطفاء في المدى القريب، على ما يبدو.
من هنا، ابتكرت عبقرية الثقافة الجمعية مثلاً شعبياً شديد البلاغة، كثير التداول في مناسبات شتى (اللي استحو ماتو)، لأن ذلك ما حدث حرفياً، وليس على سبيل المجاز، فمن سيطرت عليهن مشاعر الحياء، دفعن حياتهن ثمناً، ويقال إن تلك الحكاية حقيقية تماماً، ولا تنتمي لمخيلةٍ شعبيةٍ فذّة، ولو سلّمنا جدلاً بأنها من نسج خيال عبقري، فإن دلالاتها شديدة الوضوح، وتعبّر بشكل بالغ التأثير عن الاستحقاقات التاريخية المطلوب من المرأة تسديدها تكفيراً عن أنوثتها!
في زمان آخر، تصادف أنه الثامن من آذار، ماتت حرقاً، تحت النيران المشتعلة، مجموعة من العاملات في مصنع للنسيج، أسيء استغلالهن، وسخّرت إنسانيتهن للعمل في ظروف شديدة البؤس، حيث تدّني الأجور وساعات العمل الطويلة وانعدام شروط السلامة، ما حال دون أدنى فرصة لإنقاذ أرواحهن. ثم صار الثامن من آذار يوم المرأة العالمي الذي انتزعت فيه المرأة حقها في الموت حرقاً، ليغدو، في ما بعد، التوقيت المعتمد دولياً للفت انتباهٍ إلى ذلك الكائن الذي لم يكفّ عن الاحتراق، على مدى التاريخ، منتزعةً حقها في الوجود كائناً حراً مستقلاً، عاقلاً قادراً على التميُّز، ومؤهلاً لتحمّل المسؤوليات، إلا أن هذا المنجز يظل محصوراً ضمن الفئة الأكثر حظاً من النساء، ممّن أتاحت بيئتهن فرص التعليم والعمل والإقرار بحق تقرير المصير، غير أن المعاناة ما تزال على أشدها لدى قطاعاتٍ واسعة من نساء الوطن العربي، حيث التصنيف ابتداءً ككائن من الدرجة الثانية، يشكل قدومه إلى الحياة سبباً كافياً لحزن الأب الذي يتلقى البشارة بالأنثى (ووجهه مسود وهو كظيم)، ويتلقى عبارات المواساة والتطمين بأن منْ ينجب الأنثى، ينجب الذكر، و”المهم الصحة” انطلاقاً من الثقافة السائدة التي تفيد بأن “همّ البنات حتى الممات”، في استمرارٍ مؤسفٍ لترسّبات ثقافة جاهلية موروثة، ما تزال تتحكّم في عقولنا، على الرغم من تعاقب الأزمان، حيث صنّفت المرأة في باب الممتلكات التي يتعيّن حمايتها، ووأدها في مهدها، تقرّباً للإله ود، إله القمر (بحسب كتب الميثولوجيا)، وكذلك تجنباً للسبي والعار الذي يطال شرف القبيلة حتى سابع جد!
ويأتي الثامن من آذار مناسبة مهمةً لتأمّل ذلك الألق النابع من اشتعال أرواح النساء اللواتي عايشن الألم والقمع والاضطهاد، وتجاوزنه بإرادةٍ صلبة، وصمدن، ببطولةٍ، مُقدماتٍ أمثلةً حيّة على إرادة الحياة التي تصنعها الأنثى بمفردات الحب والعطاء الذي بلا حدود. ولا بد في هذا السياق من الإقرار، من باب تحرّي الدقة والأمانة، بدور نموذج متوفر، على الرغم من السواد الذي يكتنف الواقع للرجل الحضاري النزيه، المتصالح مع ذاته شريكاً استراتيجياً في حركة التغيّر التي نطمح إليها، كنساء مسكونات بهم العدالة، وهو الواعي والمعتنق أهمية تحرّر المرأة وجديّته، وسيلة أساسية لتحرّر وعي الإنسان، وانعتاقه من إرث ثقيل باهظ من الجهل والتخلّف والانسياق الغبي.
_________
*العربي الجديد