من ذاكرة الزقاق / عتبة عايد


*ناصر الريماوي



خاص ( ثقافات )
مع الليل تقفر الأزقة ويختنق الشارع الإسفلتي بالظلال، كل الظلال التي بقيت معلّقة فوق واجهات البيوت المقشّرة، والمحال القديمة المطلّة على الشارع، تترجل، تعود للمشي في كسل، للجلوس أمام الدكاكين، تمضغ الوقت برثرثرات لا تنتهي، كسابق عهد أصحابها. كل واحد في حيّنا العتيق كان يتبع ظلّه، أذكر هذا جيدا، وقبل أن يغادر يعلّقه فوق آخر نقطة مألوفة لديه، على جدار، ثم يمضي.
تلك كانت بعضا من بقاياهم، حفظناها عن ظهر قلب، حتى بعد رحيلهم عنها، ومرور الزمن، لم تلحق بهم. 
“عايد” … غابَ أيضا، مثلهم، وبقيت عتبته الإسمنتية تجاور حانوت “السمكري”، حتى يومنا هذا، لكن خياله الظليل الذي ترجّل مرّة، تحرر للأبد، وظلّ يتبع الشمس، يجول عبْرَ أزقّة الحي والشّارع، ويسرج عتبات الرصيف، كل صباح… بالفراغ.
“عايد”، معروف بسنّهِ المحيّر، ونظرته المطحونة بفعل الدهر، وابتسامته الثابتة التي لا يملك غيرها.
بفكّه السفلي الرخو، حين يتدلى وهو يندلق بتلك الإبتسامة الصافية، فتسنده الكوفية. المنتمي إلى أرصفة الحيّ، وبسطات المحال، وهو يطارد البقع المشمسة في الصباحات الباردة. 
يشرد طويلا، حتى نلتقط نظراته الوجودية تلك من بين ثوبه الرّث وسترته التراثية، ونعيدها إليه، فيضحك. 
عيناه تومضان بحزن شفيف تسترقان النظر من خلال “حطّته” المهدبة المعقودة حول رأسه، و عظام صدغية النافرين، أحيانا تطلان فجأة من بين غفواته القصيرة وتجولان في محجريه الغائرين باضطراب وتيه، تكتسيان تساؤلا مرّاً على وقع نفير حاد ومباغت لسيّارة عابرة، أو حين يجفل على وخزة طفل وقح يصيح فيه: عايد…!. 
ثم يفرّ مبتعدا.
البقّال الملتحي، العابس دوما، لا يلقي له بالاً، فعايد ليس زبونا مرتداً كالآخرين وقد لا تشمله العقوبات المحتملة، أو طرفا جديّا ليشركه في ثرثراته الواسعة بجدوى تصنيف السلع ووقف المضاربات بين أرفف “الدكاكين” الثلاثة، التي تموّنُ حيّا واحدا صغيرا، كحيّنا، ومع هذا فهو يوقظه من غفوته صائحا: الله أكبر، ثلاث بقالات تبيع السلع ذاتها للناس…! يرمقه عايد بجفاء، ثم يحوّل بصره نحو الطريق.
كان مدركا لكل شيء بما تبقى لديه من وعي، وهذا مما لا شك فيه، واعيا بالقدر الذي يمكّنه من ترك السقيفة المنزوية على سطح الطابق الرابع، بلا مُرافق، وهبوط السلالم، ثم الانحدار عبر الزقاق المترب نحو الشارع المسفلت وصولا إلى العتبات والناس. هل كان أبكما؟ ربما، أنا لم أسمعه يتحدث بكلام مفهوم، ربما في ذلك رحمة له، كان يستجيب للصراخ بلا أذنين أو سَمَعْ، وأظنه لم يكن محتاجا لذلك الترف، على أيّ حال،
عيناه كانتا تبصران أو تتغلبان على الغبش، وهذا يكفي.
جمهرة زبائن الحيّ أمام حانوت الفلافل الجديد، لا تنقطع، وتثير حفيظة البقّال الملتحي لسبب ما، لا نعرفه. عند افتتاحه عصر ذلك اليوم، جلس البقّال العابس، فوق كرسيه مهموما، يحدّق في الزحمة المجاورة صامتا، تجاهله الجميع ولم يقترب منه أحد، حتى “عايد” بظهره المحني، والذي فقد مكانه المفضل عند تلك العتبة، كعقوبة مبدئية، تجاوزه بتجاهل ودون تحيّه.
هزّ البقال رأسه في غيظ وسخرية، قال على مسمع من صبي الحلاق بلا تحفظ: لم يبق علينا سوى عايد، ألا يكفي بأنني لم أبع ولا بيضة واحدة منذ أشعل جاري صاج الفلافل…!
احتدم الجدل وتصاعد أكثر مما يجب، حول علاقة البيض بالفلافل، عن واقع القيمة الغذائية المفترضة بينهما، وحول سرّ عزوف الناس عن شراء سلعة، واستبدالها بأخرى لا تشبهها. احتقن الحلاق وغصّ في حديثه، استعان بالصبي لديه في تسليك نوبة ربو طارئة، سبقه عايد ومدّ يد العون، في حين لم يأبه له البقّال.
إنبرى “السمكري” الطيّب، قصير القامة بعد تفكير طويل، وقال: “هل يعني إضافة كرسي حلاقة آخر لهذا “الصالون”، مدعاة لعزوف الناس عن إصلاح بوابير الكاز وشحذ السكاكين، وصيانة باقي أدواتهم مثلا؟” 
لم يخطر ببال أحد أن البقّال الآخر، النحيل، كان قادراً على لجم الجميع وإسكاتهم، بل وتقويض ما ذهبوا إليه، كل ذلك وأكثر بما لديه، واعتاد أن يخفيه. رشقهم أول الأمر بنظراته المستعجلة، التي لا تصافح أحداً، وأطلق بينهم شبح ابتسامته المستفز، والذي يشي ببرود فطري، موروث، وقال: ” لكنني أبيع البيض لزبائني بمعدّل معتاد، بالنسبة لي لم يتبدل شيء”.
لكن، هل سمع “عايد” وفهم، وهو يختم جلستهم تلك بواحدة من ضحكاته الملغّمة النادرة، حين أفلتها بينهم كقنبلة، لها صدى الشماتة، وكنّا قد إعتدنا عليها كقهقهة، أو فاصل ختامي، وهي تعلن دوما عن نهاية اللعبة، بين طرفين نِدّين في لعبة “الضّامة” بخسارة شخص لا يحبّه.
هل كان “عايد” يحب ويكره أيضا، بلا حورات، أو لغة؟ 
وهل كان يسمع ليفهم، كي يضحك؟
تلك ظلّت في نفوسنا كواحدة من عدة حقائق غامضة حول الرجل، والتي لا ينبغي لها أن تبقى مع الظلّ، لتترجل يوما، حتى بعد مرور الزمن، ورحيل الناس، كان لزاما عليها أن ترحل معه.
أغرق الحلّاق عتبة حانوته بالشّحم، كذلك فعل البقّال الملتحي، أما البقّال الآخر صاحب الابتسامة المُستفزّة، فزرع كومة مسامير مدببة، على امتداد الواجهة، بهذا لم يبق لعايد، سوى عتبة حانوت “السمكري”، الذي تقاسم معه حتى وجباته الغذائية عن طيب خاطر. رحلوا جميعا بما فيهم عايد، وابتلع رصيف البلدية الجديدة، ذروة العتبات، الا محل “السمكرى” الذي ظلّ مرتفعا بحافته الأمامية، وكلما سألناه، كان يرد: “هذه إحدى بركات عايد ” 
جاء بعده أناس، من أقاصي الأرض، طاردوا الشمس في سأم، بين الفسحات المتاحة للشارع المنسي، ذاته،
مثل “عايد” تماما…
لكنهم كانوا بألسنة من نار، لا يبتسمون، وأذنين من طين، وبفم تجتره العقبات الضرسية وأطقم الأسنان
إلى الفجور، والكلام … 
“عايد” لم يشبه أحدا منهم، حتى ظلّه المتروك على الحيطان إلى اليوم، لا زال محايدا، ومختلفا.
__________________
*قاص أردني

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *