سبكتر جيمس بوند: الطيف.. استهلال مدهش وحبكة غير مقنعة!




*مهند النابلسي


خاص ( ثقافات )

يبدو المخرج الفذ “سام مينديس” هنا وكأنه قدم أحسن ما عنده، وقد فرغت جعبته “الجيمسبوندية” السينمائية، كما بدا لي تائهاً بحق لأين يذهب بالشخصيات المكررة، والتي استهلكت أدوراها، فيما ظهر الممثل النمساوي القدير “كريستوف والتر” بدوره الجديد اللافت هنا كوحش شرير فريد من نوعه، كما أن الفيلم يفشل بتوليد شحنات عاطفية وحنين مؤثر مماثلة لفيلم “سكاي فول” السابق، إلا بشكل جزئي في قصة مقتل المستر وايت وعلاقته المحزنة مع ابنته الشقراء الجميلة د. مادلين سوان، كما بدا الفيلم بارداً باستعارته لرسم الأخطبوط الغامض، وبحبكته المصطنعة التي تتطرق لذكريات بوند كيتيم فقد والديه وتم تبنيه من قبل والد “الشرير” الذي فضله عليه، مما ولد الحقد والغيرة والضغينة لنفسية “شقيقه” الشرير “أوبرهاوزر”، وحتى مبرر الحقد الذي قدمه “أوبرهاوزر” لشقيقه “غير البيولوجي”، فلم يكن مقنعاً عندما قال: “مثل الطائر الذي يضع بيضه بعش طائر آخر، حتى يفقس البيض الدخيل، ويقوم بطرد الفرخ الأصيل محتلاً مكانه ومتمتعاً بالرعاية والاهتمام”، ثم يستطرد قائلاً لبوند: “الشقيق فقط يعرف كيف يؤذي ويوجع شقيقه عندما يضغط على الزر الصحيح”! 

لكن في الواقع فقد بدت المشاهد الاستهلالية بمكسيكوسيتي مذهلة واستعراضية وغير مسبوقة، مع احتفال “يوم الموتى” التقليدي الصاخب والصراع المحتدم الذي تمثل بصعود بوند وتسلقه لسطح البنايات المجاورة (وكأنه روبرت دي نيرو بدور العراب الشاب الذاهب لاغتيال فتوة الحي المتغطرس والمبتز- يكمن الفرق هنا بقنصه لخمسة أشخاص أثناء تخطيطهم لمؤامرة إجرامية وباللحظة الحاسمة تماماً… كيف؟!)، ثم بالأكشن اللافت الذي تلا ذلك من قنص وتفجير وصراع قاتل استثنائي شيق على ظهر هليوكوبتر فوق العرض ومنصة الاحتفال الصاخب، ثم تمكنه من قتل خصمه بنجاح وهو المجرم المكسيكي الهارب “سكالارا”، وكذلك تمكنه من قتل سائق المروحية، ومن ثم قيادة المروحية والهروب بعيداً والنجاة بنفسه، لقد كانت هذه بالفعل مشاهد حابسة للأنفاس وتتفوق على مثيلاتها بسينما الأكشن، أما المشهد الثاني المتقن والشيق الذي لفت انتباهي فهو مشهد دخول الممثل النمساوي البارع “كريستوف والتر” لقاعة مؤتمر قمة الأشرار بدور الزعيم “أوبرهاوزر”، فقد أحدث هيبة طاغية بحضوره الكاريزمي المخيف، ثم لكيفية جلوسه على رأس الطاولة بصمت دون أن نراه بوضوح، ولترقبنا الشيق لصدى حضوره المرعب عندما أوعز لخبيرة ألمانية بإكمال الحديث عن نجاح مافيات الأدوية والمطاعيم المزورة عبر العالم… تتفوق هذه المشاهد تحديداً على طريقة حضور “آل كابوني” لاجتماع زعماء العصابات بفيلم “آل كابوني” الشهير (الذي أنتج بالعام 1959 وأخرجه ريتشاردويلسون وأبدع بتقمص الشخصية رود شتايغر)، من حيث الترقب والتشويق والهيبة، كما يتماثل ربما مع الحضور المهيب لدون كوروليوني (مارلون براندو) لاجتماع عصابات مماثل بفيلم العراب الشهير… ويصل المشهد لذروته عندما يقوم الزعيم هنا بالإيحاء لماكينة قتل بشرية (الممثل البارع ديف بادتستا بدور القاتل هنكس)، ومن ثم اقدام هذا الأخير على قتل احد الزعماء الفاشلين بضراوة وسط القاعة وأمام ذهول الحضور، عندما يرفعه و”يفقأ” عينية بأصابع يده أمام جمع الحضور المرعوب، وذلك بهدف تخويفهم ودب الخوف بصدورهم، ثم يتوجه الزعيم بنظراته لجيمس بوند الواقف بالطابق العلوي ويأمر بملاحقته بلا هوادة في شوارع روما.

وتكمن نقطة الضعف هنا هي أننا لا نعرف شيئاً عن باقي الأنشطة الإرهابية للعصابة العالمية المتنفذة سوى توقها الشديد لتجميع المعلومات، من منطلق بديهي أصبح معروفاً (فالمعلومات قوة)، وهي لا تفيد شيئاً في ظل غياب المحللين والجواسيس وأصحاب القرار!

هناك استعادة وتكرار وتنوع وتجدد للشخصيات، ابتداء من “جودي دينش” المتوفاة بآخر مشاهد فيلم “سكاي فول” والتي ظهرت بشريط فيديو تحث بوند على قتل زعيم الفرع المكسيكي للعصابة العالمية، ثم مروراً بكل من (إم وكيو) و”موني بيني” (مساعدة بوند السمراء المخلصة)، والشخصيات الجديدة (سي وتانر وماركو سيارا) والشقراء الحزينة “مادلين سوان”، ثم (استريلا ولوسيا)، وقد أبدع كل من “دانييل كريغ وكريستوف والتر” (وقد بدا لي بأحد المشاهد وكأنهما توأمان شقيقان من حيث تصميم الوجه والشكل العام والحجم)، ثم ننتقل للممثلين (رالف مينيس، ومونيكا بيلوسي ونعومي هاريس وأندرو سكوت) وقد أبدعوا جميعاً بأداء هذه الأدوار وبتقمص الشخصيات بتكامل هارموني وصولاً للممثل المكسيكي “أليساندرو كريمونات” الذي قتله بوند بضراوة بعد إسقاطه من المروحية بمكسيكوسيتي.

يستهل الفيلم برسالة غامضة تكشف وجود منظمة إرهابية عالمية جديدة تدعى الشبح (سبكتر)، كما يستعرض محاولات إم (رالف مينيس) للحفاظ على وحدة الخدمات الاستخبارية، فيما يسعى بوند جاهداً للكشف عن حقيقة منظمة الشبح منفرداً وبلا دعم استخباري أو لوجستس رسمي، ولكن بالحق فقد بدا بوند “سمجاً” للغاية وهو يقتل هذا العدد الكبير من الحراس والأشرار، ودون أن يتمكن أحدهم من إصابته ولو بجرح طفيف، وهذا أحد مثالب هذه السلسلة، كما بدت عظامه ومفاصله وكأنها مصنوعة من معدن التيتانيوم المقوى وخاصة وهو يواجه “ماكينة القتل” في قطار الصحراء السريع، ودون أن يعاني من أية كدمات أو كسور، ثم نراه ينجح أخيراً بمعونة صديقته الطبيبة النفسية من قذف القاتل “هينكس” خارج القطار السريع وقتله!

يكشف “كيو” لبوند سر خاتم “سيكارا” الذي يتضمن رسماً مصغراً لأخطبوط، ويحتوي على بيانات رقمية تقوده لمكان وجود “أوبرهاوزر” قائد منظمة الشبح، وعندما يقوم هذا الأخير بأسر بوند وصديقته يخبرهما بحقيقة تواطؤ “سي” (الممثل أندرو سكوت بدور غير مقنع تماماً)، وأنه يعمل كعميل مزدوج مدسوس مستغلاً وظيفته الرفيعة بالحكومة البريطانية وكرئيس “بيروقراطي” مباشر لـ”إم”، ثم يتضح لنا أن “سي” هذا يسعى جاهداً لدمج المؤسستين الاستخباريتين البريطانيتين الرئيستين، كما يبذل قصارى جهده لتوقيع اتفاق عالمي يسمى “العيون التسع” ويضم الدول التي تقاوم الإرهاب العالمي ومن ضمنها “جنوب أفريقيا”، كما ينكشف “سي” كعميل عضو بالمنظمة الإرهابية مزوداً إياها بالبيانات والمعلومات، وحيث لا نعرف مغزى ذلك! ثم يتم لاحقاً كشف ذلك وقتل “سي” بإسقاطه من مبنى مرتفع قبل أن يتم تفخيخ المركز القديم لمنظمة “إم 16″، قبل أن يهرب “أوبرهاوزر” باللحظات الأخيرة، ولكن بوند ينجح وصديقته في إسقاط المروحية التي يركبها، ثم نرى بوند يمتنع عن قتله بعد أن جرح، ويسلمه للاعتقال من قبل “إم”، ويفضل أن يغادر مع صديقته عبر نهر التايمس في نهاية سعيدة متوقعة.

في المشاهد ما قبل الأخيرة يقبض قائد سبكتر على بوند وصديقته مادلين سوان، ثم يقيده ويعرضه لأجهزة تعذيب روبوتية متطورة، مهدداً بثقب عينيه وجمجمته، وكالعادة ينجح بوند بفك وثاقه وتسليم ساعة صغيرة مبتكرة ذات توقيت لصديقته لكي ترميها باتجاه “أوبرهاوزر” لتنفجر بعد دقيقة، ولينجو بوند وصديقته.
تطلب مشهد الاستهلال المدهش في نيومكسيكو واحتفالية “يوم الموتى” المهيبة مساهمة ألف وخمسمائة من الكومبارس، واستخدام عشر جماجم بشرية ضخمة و250.000 من الورود الورقية الزاهية، كما صورت مشاهد بالنمسا وجبال الألب، وبشوارع روما والمدرج الروماني الشهير، وصورت مشاهد عديدة بلندن، وتم استعراض سيارتي “جيمس بوند” أستون مارتن القديمة وجكوار الحديثة بمطاردات “لاهثة” بشوارع روما ولندن، وتم تصوير مشاهد بقاعة المدينة بلندن ونهر التايمس الشهير، كما صورت مشاهد عديدة بطنجة و”أوجدا وجروفوند” بالمغرب. 

تشبه تركيبة سيناريو هذا الفيلم المتاهة التي تنقل بوند من طرف خيط لنهايته ثم لطرف خيط جديد وهكذا… فهو يعارض بالبداية تعليمات رئيسه وينتقل لروما لحضور جنازة (سيكيارا) الذي قتله بالمكسيك (ينطبق عليه المثل: يقتل القتيل ويمشي في جنازته!)، ذاهباً لمواساة أرملة القتيل “المكلومة-المحبطة” (مونيكا بينوشي التي ينقذها من موت محقق)، لمعرفة تفاصيل عن المنظمة التي كان زوجها يعمل بها، ثم ليحضر اجتماع قمة المنظمة الإرهابية، ولتتم ملاحقته بشوارع روما بمطاردة سيارات شيقة… ويطير بعدئذٍ للنمسا لمقابلة مستر وايت المحتضر الذي يطلب منه البحث عن ابنته المختفية بجبال الألب، والتي تعمل كطبيبة نفسية (منزوية ومحبطة أيضاً)، تلك التي ستقوده بدورها لأوتيل “لا أمريكان” بطنجة بالمغرب (ليقع بغرامها لاحقاً)، ثم ليتعرفا على مركز عمل المنظمة “الرقابي—المعلوماتي” الضخم… لكن “ماكينة القتل” الضارية تلاحقه من مكان لمكان بأسلوب “القط والفأر”، وللطرافة فالفأر الظريف الذي ظهر له بجناح مستر وايت بالأوتيل المغربي هو الذي قاده للغرفة السرية المحاذية! وحيث نلاحظ “أسلوب ميكي ماوس” البوليسي في معظم مطاردات الفيلم، فالقاتل يسبقه دائماً بخطوة ثم يلاحقه وهكذا… وهذا هو السر الخفي للسيناريو، وربما يجيب هذا الكشف عن بعض الأسئلة الواردة أدناه: 

بالإضافة لما سبق فهناك أشياء عديدة تحتاج للتوضيح بهذا الفيلم، ومنها سبب إقدام “شخص ما” على تسميم “مستر وايت” بالتاليوم قبل مقابلته لبوند وإقدامه على الانتحار، وسبب عزلة وانزواء ابنته الدكتورة “مادلين سوان”، وسبب ملاحقة القاتل لها بجبال الألب، وكيف تمكن الأب “مستر وايت” (العضو السابق بمنظمة الشبح) من بناء غرفة سرية ملاصقة لجناحه الخاص بأوتيل “لا أمريكان” بطنجة بالمغرب، وبسرية ودون أن يلاحظ ذلك أحد سوى بوند؟! ثم ما الهدف الحقيقي من كثرة تسجيلات الفيديو والصور المتعددة والخرائط المتعددة إذا كانت خريطة واحدة ستقود لمكان المنظمة السري ولمخبأ القائد “بلو فيلد”؟… وكيف ولماذا اختفى هذا الأخير منذ عشرين عاماً ونجح بتزييف وقائع موته الوهمي؟ ثم كيف نجح بوند ورفيقته بالهروب ببساطة من هذه القلعة المحصنة بوسط الصحراء؟ ثم كيف ينجح “بلوفيلد” (الاسم الحركي لأوبرهاوزر) بالنجاة أيضاً وينتقل فجأة وبسرعة لمركز “الإم 16” بقلب لندن ليفجره خلال ثلاث دقائق، مقيداً سوان داخله؟ ثم كيف يتمكن بوند بمهارة فائقة من إسقاط طائرة بلو فيلد الهارب باللحظات الأخيرة؟ أما السؤال الأخير فهو عن مغزى استخدام ممثل “نمساوي” باسم ألماني “أوبرهاوزر”، وهل يشير ذلك “لبعد نازي” استخدم مراراً بهذه السلسلة؟! 
أسئلة كثيرة لا يتم طرحها عادة، فالمتوقع هنا أن نتقبل كل ما يحدث بهذه السلسلة الشيقة من أحداث بنيت على مفهوم العميل الخارق (جيمس بوند 007)، المؤهل تماماً والمزود بإمكانات وتقنيات مذهلة وكفؤة، ولكن على الرغم من أن مشاهد الإبهار والأكشن ودمج المؤثرات قد تطورت لحد بعيد، مع هيمنة مؤثرات الخيال العلمي وفانتازيات الكوميكس المصورة، فإن المنطق والسببية ضروريان تماماً لاستيعاب مجريات الأحداث ولالتقاط الأنفاس بدل حبسها أحياناً، ثم لتحقيق مستوى متوازن من تركيز الوعي واليقظة لإحداث التشويق والدهشة وتحقيق الانبهار المشهدي مرة تلو الأخرى بهذا الشريط الطويل الحافل بالأحداث والشخصيات والجغرافيا المتنوعة، ولكني حقاً افتقدت ذلك بالعديد من المشاهد بعد مضي الساعة الأولى من الفيلم، كما أن أهمية العنصر البشري المدرب بمجال الجاسوسية معروفة وبديهية ولا تحتاج “لحبكة معقدة” مكلفة لإقناعنا، فالمعلومات قوة ولكنها تحتاج “للتحليل واتخاذ القرارات الصائية”! هكذا تعمق المخرج وكاتب السيناريو والمصور وباقي الطاقم الفني والتمثيلي بالبعد الشكلي للأحداث على حساب المضمون والمغزى وربما المنطق أحياناً، وهنا تكمن نقطة الضعف الرئيسية، وربما لهذا السبب بالغ بعض النقاد بالقول بأنه ربما يعد أسوأ أفلام جيمس بوند خلال ثلاثة عقود.
_______
*كاتب وناقد فني من الأردن.

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *