*علي الدمين
خاص ( ثقافات )
صدرَ اليوم عن مكتبة (15/21) في موريتانيا ديوان ” Je Veux parler”- (أريدُ أن أبوح) لجبريل زكريا صال، الذي يشهدُ هذه الأيّام في نواكشوط، حالةَ منعٍ من السّفر خارج موريتانيا إلى الولايات المتحدة حيث يقطن أحد أبنائه. صدرَ الديوانُ الجديد وكأنه جاءَ بلسماً لجرح صاحبه العميق في وقتٍ عاصفٍ لئيم؛ وقتٍ مثّل فيه ردّة فعلٍ احتجاجيّة قويّة على الظلم الذي يتعرّض له الشاعر السبعينيّ بعد أن بلغَ عطاءَه أوّجه دون أن يأخذ شيئاً بالمقابل. جاء الديوانُ في هذا الوقتْ ليقولَ صاحبُه ما أرادَ أن يقوله، وفي الآن نفسه، ليقولَ بثباتٍ صموديّ: أريد أن أُسافِرَ أيضاً!
إنسانُ الكُلّ
أنا إنسانُ كُلِّ الألوان **
كُلِّ الأوجاع
كُلِّ المُعاناة
كُلّ الشّقاء
أنا إِنْسانٌ من كُلِّ الجهاتْ
غليظُ الشّفاهِ…مفتول العضلات
ياطالَماً كَدَحْتُ في فلاحةِ الأرْض بِسَاعِدَيّ
بِمَعوْلي فَضَضتُ بكارَة الحَقْل
ونَفَذْتُ إلى أعْماقِ الأرضِ
لأنْثُرَ بذورَ الإخاءِ في جداوِلَ من أمَلْ
جبريل صالْ، شاعرٌ موريتانيّ، من مواليد العام (1939-) على الضفة بمدينة روصو جنوب موريتانيا. درس المرحلة الإبتدائية بروصو، ثم التحق بالتعليم في بوكي وأطار بموريتانيا، ليواصل دراسته لاحقاً بثانوية “كوليج خافيير كبولاني” في العاصمة السنيغالية دكار، و التي تخرّج منها آنذاك بعضُ شخصيّات الجيل التأسيسي الوطنيّ في موريتانيا. بعد تخرّجه من الثانوية مارس صال التدريس بموريتانيا لسنة واحدة فقط، هي بالضبط السنة (1960) التي أعلنت فيها موريتانيا رسمياً الاستقلال عن الاستعمار الفرنسيّ. وفي سنة (1965) أصبح جبريل صال مُفوّضاً للشرطة بعد تليقه تكويناً في فرنسا. وهي وظيفةٌ سيشغلها جبريل لأكثر من ستة عقود طويلة لن يُوقفها إلاّ قرار الزّمن بالتقاعد. كُلّ ذلك بعد إزعاجٍ كثير للسلطات المتعاقبة عن طريق شعره المُضّاد الذي طالما صدح بقضايا الحقوق و الظلم والعنصرية والمعاناة في موريتانيا. وهو ما تسبّب له في مشاكل كثيرة آنذاك (كضابط شرطة) ليس أبسطها إخضاعه للتحقيق الأمني، ومنعه من نشر قصائده في الصحف المحليّة.
فيما بعد، فجأةً دونَ تخطيطٍ مُسبّق، وبفعلِ رغبةٍ صدفويّة عارضة، في ليلةٍ من اللّيالي بروصو، المدينة الأصل له، أراد صال وهو في الخامسة والعشرين من العمر أن يكتب الشعر. من حينها أخذ الشعر في ” التدفق بغزارة” منه. قلماً وورقة ورغبة عارضة: كُل ماتطلبُّه الأمر ليصبح شاعراً. شاءت الظروف أن تربطه صداقةٌ مع الشاعر السنيغاليّ ليوبولد سيدار سينغور، الذي ترأسَّ السنيغال. كان ذلك حينما أرسلَ جبريل صال في حماسٍ جنونيّ منه أشعاراً له إلى سينغور ليعطيه رأيه فيها. وهو رأيٌ سيطلبُه ويُعطَى له دائماً من قبل سينغور (كان سينغور يسألُه دائماً باستغراب: كيف استطاع الموافقة بين مهنته الرسمية كشرطي وبينه كشاعر؟) بأبوّته الشعريّة لكُلِّ شاعرٍ إفريقيّ فتيّ، حتى اكتمالَ نضارة غصنه الشاعريّ. لقد اعترف سيغنور به شاعراً مُتمكنًا. الآن لاشائبة تشوبُ شاعريّته الناصعة. هنا ظهرت مجموعته الشعريّة الأولى “أضواء سوداء” التي نُشرت في العام (1970). وهي مجموعةٌ تموقعت باكراً ضمنَ شعر “الزنوجة” الصاعِد آنذاك، لماتضمنته من إيحاءاتٍ ودلالاتٍ زنوجيّة واضحة. هذا لتتوالي إصداراته الشعريّة لاحقاً: “سويتو”-(1976)؛ “المقبرة المستقيمة”-(1977)؛ “العيون العارية”-(1978) إلى غير ذلك من الإصدارات المتتالية التي أكدّت أنَّ لصاحبنا شأنٌ وقدَرٌ شِعريَيْنِ عظيميْن.
المجروح في أمله
يعيشُ اليوم جبريل صال مُعاناةً صعبة تجسّدت في منع الدولة الموريتانية له من السّفر للخارج لقضاء بضعَ أيامٍ مع أحد أبنائه في الولايات المُتحدة. ماكان جبريل يتوقع في يومٍ من الأيّام، خاصةً الآن وهو في عمرٍ مُتقدّم، أن يُعامَل بهذه الطريقة القاسية. كيف يُمنع من السّفر؟ وهو الذي خدمَ موريتانيا لزمنٍ طويل، أعطاها عقودَ حياته شرطياً مُخلصاً لمبادئه؟ أعطاها خياله اللاّنهائيّ شاعراً؟ كيف؟ لاشكَّ أن في الأحداث تلك سوءُ تقديرٍ، هذا إذ لايُمكن أن يُعقل هذا الأمر الغريب البتة.
جبريل صال، بعمره السبعينيّ المتقدّم، يقفُ أمام الأمر باندهاشٍ تامّ. يُعلّق: ” لقد ظلمني الوطن. ماكنت أتوقع أنه سأمنع من الحصول على جواز سفر إلى الولايات المتحدة لأقضي أياما قليلة إلى جانب أحد أبنائي “. يسألُ باستغراب: كيف يصحّ تأكيد موريتانيّتي من خلال أولادي لامن خلالي كوالد؟ يبدو هذا بالنسبة له مُستحيلاً. لذلك يقولُ: ” لن أترك الفرصة لأحد كان أن يشكّ في كوني موريتانياً، بل إني أعتبرُ نفسي مواطناً يجبُ الاقتداء به في خدمة الوطن، لكن على من منعوني من حقي كمواطن أن يُراجعوا أنفسهم”. لايطلبُ جبريل أكثر من حقه كإنسانٍ ومُواطن في التنقل والسّفر. إنه يؤكدُ على ذلك دائماً. يقول جبريل لصيحفة الأخبار مُعلّقاً ” أنا معروف بالبلد، فقد ولدت في 23 إبريل 1939 بروصو، أحمل عقد ازدياد برقم 11-1939، ونصوصي الأديبة تدرس منذ 2008 في جامعة نواكشوط”.
الشاعر الموريتانيّ الذي مثّل البلاد في عدّة منابر ثقافية دولية معروفة يواجه اليوم مصيراً مُحزنا يتمثّل في حرمانه من حرية التنقل والسّفر بناءً على حجج غير مقنعة بالمرّة (إحضار وثائق تفيد تقييد جميع أولاده بيومترياً، وهو أكدَّ عليه في حالة الأولاد الموجودين في موريتانيا) قُدّمِت من قبل الإدارة المدنية في موريتانيا، وهي حججٌ مظلمة، خاصةً في حالةٍ مثل حالة صاحبنا صال جبريل الذي عُرفَ بجانبيْ نشاطه: أولاً؛ بوصفه ضابطاً نزيهاً لعدّة عقود، وثانياً؛ بوصفه شاعراً كبيراً.
يأتي هذا كُلّهَ ضمن تاريخ طويل من المضايقات التي تلقاها جبريل صال على مدى عمره منذ أصبح شاعراً. وهي مُضايقاتٌ إقصائيّة تعرّض لها بعض زُملاء الشاعر من الشّعراء الزنوج الموريتانيين مثل صديقه الشاعر تين يوسف كي (اشترك جبريل صال مع تين يوسف كي في نهاية السبعينات في التحضير للمهرجان العالمي للفنون السوداء بنيجيريا) الذي مات عام 1988 في سجن مدينة النعمة بعد أن تعرّض لأنواع التعذيب في سجن ولاتة شرقي موريتانيا أوانَ الانتهاكات العنصريّة السلطويّة في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات. هي حالةٌ من اللاّ استقرار تظهرُ بين الفينة والأخرى فارضةً نفسها، بين الشاعر وموطنه الخؤون، تؤكدُ وجود صراعٍ متقلّبٍ لاينتهي. مع ذلك فإنّ جبريل صال اليوم وهو يعودُ إلى حديقته البديعة في بلدته الأمّ (هاري أمْبارْ) يبقى مُصراً على مقاومة الظلم الذي يتعرض له هو وكُلُّ إنسانٍ حُكِمَ عليه بالمُعاناةِ ظُلماً.
أقسِمُ باللّه
وباسمِ كُلّ القديسين
أقسِمُ باسمِ أبي
أقسِمُ باسم أمِّي
أن أنتزعَ لنفسي موطأَ قدمٍ في هذا الوجُود
أقسِمُ أن أبقى ناسكاً حتى آخِرِ نَفَسْ
عن استباحةِ حُرمةِ إنسَان
أقسِمُ باللّهِ
أن أبْقَى كمَا أنَا في جَوْهري البشريّ
وفيّاً لإخْوتِي في الأرْضِ
أقسِمُ أنْ أقولَ: لاَ!
أنْ أقُولَ لا لكُل ما يحطُّ مِنْ جوْهرِي البشريِّ
إذْ أنَا الوجُودُ المنفيّ
والرُّعْبُ الأليفُ
حتى آخرَ فَصْلٍ منَ المأساة
_____________________________
** المقاطع الشعريّة المُضمّنة مُقتبسَةً من قصيدة طويلة للشاعر جبريل صال تحت عنوان “سَويتُو ستُصبِح حُره”؛ مترجمة من قبل: الحاج ولد إبراهيم ومولاي أعلي ولد الحسن.