في لحظة واحدة قالت للجنة: لا



*نداء يونس


خاص ( ثقافات )

في لحظة واحدة قالت للجنة: لا، وأدارت ظهرها.
تقول الرواية التوراتية بأن الحمل والإنجاب كانا عقابها، فيما مجَّدت الأسطورة فعل الإنجاب، وأعلته، كونه انعكاساً لفعل الخالق، أو مرآة لفعله الاستثنائي.
إذا ما تغاضينا قليلاً عن الجدل الفقهي حول صحة الحديث التوراتي والإسلامي عن خلق الله آدم على صورته، واعتماداً على أن حواء هي النفس الأولى التي خُلق منها آدم، و”خلق منها زوجها”، كما أوضح العلامة عدنان إبراهيم، وأنه خلقهن “من أنفسكم”، أي من نفس النوع للتجانس والمماثلة، وليس من جسدكم، أي من البدن، كما قطع الأصفهاني والشيخ محمد عبده، وغيرهما، فإن سؤالاً يطرح نفسه بلا مواربة حول تطابق فكرة صورة الخالق، ليس فقط مع وظيفة المرأة البيولوجية، بل ومع تكوينها النفسي الذي يجنح نحو التجريب والمعرفة. 
بشكل ممنهج، تم تطويع ووأد مسألة أن المرأة هي المخلوق الأول، دينياً وتاريخياً وفنياً وأدبياً، لما يترتب على ذلك من استتباع الرجل للمرأة، والتي قامت على نقيضها التفسيرات الدينية في الأديان الثلاثة، وغالب الاجتهادات الفقهية والفنية والأدبية، وخلافاً لقليل من الأصوات التي يمكن بكل حال البناء عليها لتجديد الخطاب الديني والفقهي والفكري، والنأي عن أحادية الفكر الذي يبني على مكتسبات عدة حازها الرجل خلال تاريخ طويل من التغييب الذي أمعن في التبشير بتبعية المرأة للرجل كونها كما أسلف، خلقت منه أو من ضلع أعوج فيه أو أنها، بحال أخرى، استلَّت منه، الأمر الذي يخالف المنطق، لمن يعتمد منهج العقل، ويخالفه النص القرآني، لمن يعتمد المنهج الديني. إن مراجعة سريعة لقوانين الأحوال الشخصية تكشف عواراً وتمييزاً سلبياً مقَوْنَناً تجاه النساء في كثير من الدول العربية، مثلاً، ناهيك عن منظومة القيم الاجتماعية التي تلبس لبوس الأديان السماوية الثلاثة. 
عملت الأسطورة التوراتية على كيِّ الوعي الثقافي والفكري للإنسان الأول، وإنسان عصر النهضة، ما أثَّر على رساميها ومفكريها مثل مايكل أنجلو في لوحته المشهورة “خلق آدم، في بداية القرن السادس عشر والمعلقة في سقف كنيسة السيستيان بالفاتيكان، وقبل ذلك، انسلت إلى المفسرين المسلمين، وكانت جلية في تفسيرهم لمسألة الخلق في الإسلام، والتي بنيت على ضوء الكثير مما تسرب من أحبار اليهود مثل ابن سلام وغيره إلى الصحابة والتابعين، ومنهم أبو هريرة، وشكل ذلك كله أرضية تم استبطانها للتفسير والاجتهاد، وإلى اليوم، وشكلت منطق أفكار كثير من العلماء، كما صارت لغة العامة ومرجعيتهم الفكرية في التعامل مع المرأة. 
تقوم الأسطورة التوراتية، وما تأثر بها من فكر، وما بني عليها، على الإشادة الواضحة إلى طاعة آدم للخالق، تبعية المصنوع إلى الصانع، أفلا يستوجب الإيمان بهذه الاسطورة، أيضاً، وبشكلها الاستتباعي هذا، الدفع باتجاه تأكيد تبعية آدم ذاته بالمحصلة لمن أنجبه أو خلقه وهو المرأة؟ هل هذا التناقض ورفض التبعية للمرأة أصل لكل التناقضات اللاحقة التي بنيت عليها فكرة العقاب والانتقام بدل الاستئناس، والتي قامت على التغاضي الواضح والممنهج عن حقيقة أن آدم هو بداية الغواية، إذ إنه من وسوس إليه الشيطان أولاً ومباشرة، “فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ”؟ 
موروثات اجتماعية ودينية وثقافية طويلة ساهمت باغتيال طبيعة المرأة الباحثة المتمردة التي تحمل النار المقدسة، ففي العصور الوسطى، ساد ما اتفق على تسميته بالنموذج الاستتباعي، كما أوضح العلامة عدنان إبراهيم، ويقوم هذا المنهج على أساس أن الرجل هو الرأس وهي البدن، هو السيد وهي العبد، كخلاصة لنقاش عقدت لأجله عدة مؤتمرات حول هل المرأة ذات روح أم أنها بلا روح أصلاً، علماً بأن البعض ادعى أن روحها حيوانية. العرب في جاهليتهم آمنوا بأن أرواح النساء شيطانية وبأنهن مدنسات، وكانت حيواتهن غالباً على المحك، فيما يعتبر اليهود جسد المرأة نجساً، فأثناء العلاقة معها، والتي تتم من خلال ثقب في قطعة قماش كبيرة، تتم العملية الجنسية، الأمر الذي اتبعته الكنيسة لاحقاً في العصور الوسطى، حيث تمت العملية من خلال فتحة في صليب على قطعة قماش، وفي الفكر التلمودي، لم يقتصر اعتبارها نجسة على العلاقة الجنسية معها، بل اعتبر جسدها كله واجب الإخفاء، فاخترع الفكر التلمودي الشادور أو النقاب الذي يغطي وجه المرأة وبالمحصلة، جسدها كاملاً، ومنه تسرب إلى غلاة المتشددين من المسلمين تطبيقاً، واستتبع كل ذلك إنكار لحقوق المرأة الجسدية والنفسية والحقوقية والوجودية والجنسية وحقها في تقرير مصيرها، بل واتباعها بالكامل لإرادة الرجل، فكانت جزءاً من التركة يتم تقسيمها، وتم تشريع ختان الفتيات في دول تعتبر أنها إسلامية تحكمت بشكل فاضح بكل ما يتعلق بالمرأة من قرار واتزان عقلي ومظهر وادعاء الحاجة إلى الوصاية عليها، وميزت سلباً تجاهها فيما يتعلق بتطبيق العقوبات. 
هل أحتاج إلى مناسبة لأقول بأن قصة التفاحة، رغم أنها توراتية، تعجبني وتثير غروري الأنثوي إلى أبعد مدى ممكن، وأن آدم كان بداية الوسوسة أمر لا يعنيني، كما لا تعنيني أيضاً محاولات البعض حمل العصا من المنتصف بتحميل الاثنين: آدم وحواء، المسؤولية المشتركة، ونفي التهمة عن المرأة كاملة، فهي، أي القصة التوراتية، ليست دليل إدانة من زاوية رؤية مختلفة، بل وسيلة تقدم شرحاً عن المرأة يمكنه، إن فهم على حقيقته، أن يصيبها بغرور جميل، إذ إن هذه الرواية توضح سبب الخوف من الإجابات الواضحة لأسئلة جوهرية تتعلق بالمرأة وما تمثله من قيم الجرأة مقابل خوف الرجل، ورغبتها بالتغيير مقابل نكوصه واكتفائه بالحلول المباشرة، وحاجتها الطبيعية إلى الاكتشاف مقابل ركونه إلى المعرفة التلقينية الجاهزة، فهناك فرق بين من تعلم الأسماء ومن تضحي لتدركها، ومن يستكين إلى ما لديه ومن تنزع روحها إلى التحليق والاكتشاف والتمرد على فكرة الخلود السلبي، بما تمتلكه من أدوات القلق الشرعي تجاه فعل الخلق، والحساسية تجاه مسألة الفلسفة، والرغبة بالتجريب الحر، فإذا نظرنا إلى الأسطورة من هذا الجانب، يتضح أن الله خلق المرأة على صورته، فيما سعى الرجل طوال تاريخ طويل من الطمس والإلغاء إلى “صناعة صورة رمزية تتماشى مع مكانتها [التي أراد لها] سواء في الأساطير أو القيم الأخلاقية أو الأديان أو التشريعات القديمة”، كما يؤكد الباحث محمد مقصيدي، واستناداً إلى ذلك، يمكننا أن نعيد قراءة تلك الأسطورة عن سارق النار: بروميثيوس، فمن الذي سرق النار المقدسة من شجرة الجنة ونزل بها إلى أبنائه البشر في الأرض، ونشر المعرفة، أنها حواء. رواية الأسطورة من زاوية ذكورية، ساهم في حمله تشويه ومحاولة استلاب. بالمقابل القليل، اتجهت الحضارة المصرية إلى نسب فكرة الخلق لحواء/ إيزيس، وتأخرت كثيراً في التخلص من الأيقونة المؤنثة في الألوهية والحكم؟
تمت شخصنة النظام الاجتماعي من خلال الأقوى جسدياً، والقادر على الحماية، وعند الحديث عن النظام، سواءً كان سياسياً أم دينياً، فإن استمراره يستوجب خلق أدوات تلتزم بالطاعة المطلقة، واعتبار كل مخالف مرفوضاً، بل عدواً، وإذا ما استلهمنا تحليل الإعلامي سلامة كيلة لحاجة الأنظمة أو الطبقات المسيطرة في كل بلد إلى العسكر وما يسمى بالأمن الداخلي، لخدمتها والحفاظ على مصالحها، وما يلزم لذلك من تطويع واستخدام “نظام التعليم والسيطرة الأيديولوجية”، و”الدين”، والقضاء، ومن ثَمَّ الإعلام” لهذه الغايات، فإن فهماً أشمل وأعمق لتلك النماذج النسوية التي ساهمت عبر التاريخ في تطويع المرأة ومهاجمتها نيابة عن الرجل لحفظ مصالحه وامتيازاته التاريخية، تلك المربيات اللواتي لم يعدن من فئة المُجَهلات والبسيطات والساذجات والخائفات واللواتي يعملن على توريث تلك التنميطات التي أراد الرجل/ السلطة أن ينقلها من جيل لآخر، ليحافظ على امتيازاته، بل أصبح جزء منهن يحملن شهادات عليا مثل الدكتوراه ويدرسن في معاهد الأزهر، إضافة إلى المدارس والكليات، لخلق أجيال جديدة تؤمن أن كشف المرأة لذراعها أو شعرها أو صوتها أو اعتراضها على الظلم خطايا كبرى. تلك النماذج التي تتلمذت على أيدي الرجال، وتعلمن كيف يخفن ما نار أغلبهن وقودها إن لم يلتزمن بوصفاتهم السحرية، والتي هدفت إلى إخضاعهن، بل وأصبحن ملوكيات أكثر من الملك ذاته. 
الخطر الأكبر الذي تعمل تلك النسوة على تعميقه هو الاستمرار في عملية كيِّ وعي النساء وأعينهن، من خلال تدريبهن اليومي على الحكم على أنفسهن من خلال عيون الآخرين، الرجال تحديداً، فكيف يمكن أن تنجح امرأة باكتشاف ذاتها والتعبير عنها والتمتع بكينونة مستقلة، ما دامت لا تمتلك القدرة على النظر إلى العالم من خلال عينيها هي؟ كيف تعود إلى صورتها الأولى وهي تخاف من جسدها وصوتها وفكرها وتحاكم أعضاءها تبعاً لمقدار تأثر الرجل بها؟ 
إذاً، لنعد قراءة الأسطورة، وموروثاتنا الفكرية والعقائدية في ضوء الطبيعة الأولى، فالتمرد الذي قادته المرأة منذ خلقها، تم قمعه خلال عصور، والمطلع على تاريخ الإلغاء والإقصاء يستطيع أن يرى كيف تم إنكار قصة الأمازونيات اللواتي جرى في عروقهن دم حواء النقي، عند جمهرة من الدارسين، لأنهم رفضوا فكرة الاستتباع التي تمحورت حولها الأسطورة، كما يستطيع أن يتتبع كيفية اجتراح نصوص ليست من الدين، وتفسير النصوص الدينية في سياق إخضاع المرأة وإلغائها، وما بني على ذلك من مناهج تعليمية، وأنظمة اجتماعية وفكرية وثقافية، كما يمكن، لأغراض الاستدلال أيضاً، التركيز على أن النساء الناجحات كن مجرد نماذج شاذة، وتتبع كيفية استهداف الأسطورة، وتحويل الآلهات الفينيقيات والكنعانيات والآشوريات والإغريقيات، اللواتي ارتبط بهن الخلق والخصب والحياة، تدريجياً إلى آلهة ذكور، وصلت إلى حد أن يقتل الإله مردوخ الإلهة تيامات ليسيطر على الكون، ويشهد موت الأسطورة.
عندما تبع آدم تمرد حواء، اكتشف فردوس الجسد، وقتل وقاتل لنيل لحظة عابرة منه، واكتشف الحياة التي نصر جميعاً على عدم مغادرتها، فإذا كان الرجل ما زال مقتنعاً بما يحلو له تسميته الخسارة الكبرى، والأمر لا يتعلق بخسارة الجنة، فما الذي سيخسره أكثر، لماذا يخاف ويصر على تغطية المرأة وإقصائها وعزلها، وإذا كان حقاً يرفض فكرة الاستتباع لأصله و/ أو ينتقم لقصة الخروج، فلماذا يصر على أن الرواية الدينية ستكافئه بالحوريات، وهن على ما وُصِفْنَ به: نساء أخريات جميلات. 
هل خاف آدم في جنته أن تقول له حواء ابق وحدك، أريد أن أنعم بتمردي، فتبعها، ثم خاف أن تطلب إليه أن يعود إلى الجنة وحده، فهي لم تشبع بعد من تمردها، فجعلها تدفع ثمن خوفه من وحدته، وسماها عورة، واخترع القيود والعقود والنظم الاجتماعية والعقائدية. 
يقول أديب روسي: “أنا أحب وأنا أذوب”، فكيف يمكن لقطعة ثلج أن تحب ولا تذوب؟ وبالتالي، فإن كسب الشيء تقابله الخسارة. “الجنة/ الخلود” ليست المسألة، المسألة الحقيقية تكمن في قيمة الخسارة، فأي قيمة لخسارة الخلود الممل، وهو نفس المنطلق الذي بسببه خلق الله البشر، ولم يكتف بالكون والملائكة والهدوء السماوي. هناك إحساس، لدى الصانع، ويبدو أنه إحساس فطري لدى النساء، بالكثير الذي ينتظر خلف اللحظة الراكدة وبحتمية التجريب، فكيف تجتزئ أسطرة الحكاية هذا الاحتمال من التفافها على الحكاية الأصل، والذي نجح على علاته الواضحة.
هل يخاف آدم الوحدة ويخاف المغامرة المعلنة، ويخشى قدرة حواء على أن تقول في أي وقت: لا للجنة، لا أريدها، دفعة واحدة؟.
_______
*شاعرة وإعلامية فلسطينية. 

شاهد أيضاً

العولمة بين الهيمنة والفشل

(ثقافات) العولمة بين الهيمنة والفشل قراءة في كتاب “ايديولوجية العولمة، دراسة في آليات السيطرة الرأسمالية” لصاجبه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *