*زهرة الكحلي
خاص ( ثقافات )
لم يتفق المؤرخون والنقاد العرب ، القدماء والمعاصرون ،على تحديد دلالة المصطلحات المرتبطة بالحكاية ، مثل ” الحكاية الشعبية والحكاية الخرافية والحكاية السحرية والحكاية العجيبة وحكاية الجان ..الخ ” فقد استخدموا جميع هذه المصطلحات دون الدلالة على النمط .
وقديماً ، وتحديداً في القرن الثاني الهجري حين بدأ السرد يفارق مكونه الدلالي الاعتباري الديني ، نشأ قصٌّ من رحمه لا يهتم بالدقة الموضوعية وصحّة الخبر وصدقه وبقي الجذر اللغوي لكلمة ” خرافة ” ، يُحدّد ماهيّة الحكاية عند النقاد المعاصرين . وهذا ما نقرؤه عند بطرس البستاني إ ذ يقول : إنّ الخرافة ( تدلّ على اعتقادِ أمورٍ منافية للدين الصحيح [ و إنّ كلّ خرافة ] تستلزم فساد التصوّرات في الأمور الدينية ، وإنّ الخرافة تنشأ من أوهامٍ وتصوراتٍ باطلة )
ولأنّ الأوهام والتسلية يخرجان من نطاق الاعتبار ، تُـنجز الحكاية في فضاء مظلم ، ويكون الليل موطن الخرافة ولكنّ ذلك لا يحدّد أنواع السرد الحكائي وأنماطه ، فتبقى بذلك مفارقة الحكي للقيمة الاعتبارية مجالاً لتحديد فضاءات القص من دون تحديد الأنماط . فنرى تسميات عدّة لدلالة واحدة . ومن ذلك أنّ تحديدَ النمط القائم على الخارق تتجاذبُهُ مجموعة من التسميات ؛ فنبيلة إبراهيم وعزّ الدين إسماعيل وعبد الملك مرتاض يسمونه بـ ” الحكاية االخرافية ” ويسميه التّكريتيّ ” الحكاية السحريّة ” ويسميه عبد الحميد يونس “حكاية الجان ” . بينما يربط آخرون بين الحكاية الخرافية والحيوان . فا بن النديم يختم الفن الأول من كتابه “الفهرست “بقوله : كانت الأسمار والخرافات على ألسنة الحيوان وغيره ) . فيقرِن الخرافاتِ والأسمارَ بالحيوان ، و إنْ لم يحددها به فقط . في حين نجد محمد رجب النجار يقرنها ويحددها بالاسم ، فيقول : ( حكايات الحيوان في التراث العربي ) في حين يربط صاحب بيان شهرزاد بين الخرافة والحيوان ( نقصد بالخرافة [ … ] حكاية الحيوان )
هذا التباين في تحديد المصطلح لم يطل النقد العربي ، بل أيضا النقد الأجنبي . ففي تمييز ” فون دير لاين ” للحكاية الشعبية مِن الحكاية الخرافية لا يخرج بنتيجة واضحة تحدّد النمط ، و إنّما بآراء انطباعية لا تقوم على تحديد المكوّنات السردية .
لعل سبب ذلك التباين ، وعدم التحديد الدقيق يعود إلى تداخل الأنماط الحكائية في كثير مِن الحكايات أولاً ، و إلى مفارقتها المنطقي والموضوعي ثانياً ، و إلى تحميل بعض الكائنات الحيوانية الطاقة الرمزية لمقابلها الإنساني ثالثاً ، و إلى غياب الدراسات العلمية المتخصصة التي تبحث في المكوّنات السرديّة لكل نمط مِن الأنماط الحكائية رابعاً .
وكان مِن نتائج ذلك أنّ الدارسين للحكاية صنّفوها وفق ملاحظاتهم الانطباعية ؛ فكان مَن قال ” حكاية الحيوان ” لهيمنة الشخوص الحيوانية ، ومَن قال “الحكاية الخرافية ” ويَقصدُ حكايةَ الحيوان لتحميل الحيوان قدرةً خارج طبيعته الحيوانية كالحكمة ، ومَن قال “الحكاية الخرافية ” أو” العجيبة ” أو” الخارقة ” لمفارقتها الممكن والمنطقيّ …الخ .
ويمكن الخروج مِن ذلك ، كما نرى ، إلى تصنيف ثلاثيّ :
1 ـ الحكاية الشعبية : وتمثـّل العنوان العام لكلّ الأصناف والأنماط الحكائية ؛ لارتباطها بالعامة من دون أنْ تشير إلى نمط محَدّد ، كما جاء في تصنيف شوقي عبد الحكيم
2 ـ الحكاية الشعبية الخرافية : تتكون شخوصها مِن الإنسان والحيوان ، أو مِن الإنسان والحيوان والجن والعفاريت ، وكلّ الكائنات التي تخرج في نطاق حركتها عن الواقعي والمُمكن ، وضمن إطار النوع .
3ـ الحكاية الشعبية الواقعية : تتكون شخوصُها مِن الإنسان . وتتشكل دائرة حركتها ضمن حدود الطاقة البشرية ، وترتبط بما هو واقعي وممكن . وتهتمّ بالقضايا اليومية لحياة البشر .
سنطبق ذلك التصنيف على الحكايات الشعبية المضمنة في كليلة ودمنة لحضورها في ذاكرة المتلقي .
تتشكل الحكاية المضمَّنة في كليلة ودمنة مِن الأنماط الآتية :
1ـ حكاية شعبية خرا فية . العدد / 32/ حكاية
2 ـ حكاية شعبية واقعية . العدد /20/ حكاية
ولأنّنا ميّزنا بين النمطين ” الواقعي والخرافي” بحضور المفارق / الخارق لطبيعة الشخوص و إمكاناتها ، فإننا نلاحظ أنّ بعض الحكايات دخلتْ تحت تصنيف النّمطِ الواقعيّ, وشخوصُها مِن الحيوان والإنسان ، مثل حكاية ” القرد والنّجار ” وذلك لعدم حضور المفارق فيها ، إنْ كان بالنسبة إلى الحيوان أو الإنسان ، أو بالنسبة إلى طبيعة العلاقة فيها بين الإنسان والحيوان . في حين نجد حكاية أخرى تتألـّف شخوصُها مِن الإنسان والحيوان أيضاً ، ولكنّنا صنّفناها في النمط الخرافي ، مثل حكاية ” النّاسك والفأرة المُحَوَّلة جارية ” أو حكاية ” الملك والطَّيرُ فنْزَة ” لحضور المفارق لطبيعة الحيوان والإنسان والعلاقة بينهما في كلتيهما .
ولكنّ ثنائية التوزيع النّمطيّ لا تتوافر في الحكاية المُضمَّنة حين تكون الشخوص مِن طبيعة واحدة ” إنسان / إنسان ” مثل حكاية ” ابن الملك وابن الشريف وابن الأكار ” ، أو ” حيوان / حيوان ” مثل حكاية ” الأرنب والأسد ” . ففي الطبيعة الأولى ” إنسان / إنسان ” لا يخرج نطاق الفعل السردي عن الممكن في الطبيعة البشرية ، ولذلك نجد أنّ كلّ الحكايات المضمَّنة التي شخوصها محدودة بالإنسان هي من النمط الواقعي ، في حين أنّ جميع الحكايات التي تكون شخوصها محدودة بالحيوان هي من النمط الخرافي ؛ لحضور المفارق للطبيعة الحيوانية في علاقة الحيوانات فيما بينها . ويتجلّى ذلك المفارق في إكساب الحيوانات بشكل عام صفات إنسانية ، مثل العقل والكلام والحكمة والمشورة …إ لخ . إضافة إلى إكسابها صفات اجتماعية ونفسية ، كالتجمّع والدفاع عن المكان والغدر والخيانة والوفاء والتعاون …الخ .
أ ـ النمط الواقعي ” بلاغة الممكن ”
نعرّفُ الحكاية المُضمَّنة في النمط الواقعي بأنها وحدة سردية مستقلة بذاتها ، تُجسِّد فعلاً أو حادثاً ما ،تنجزه شخصيات تتحرّك ضمن فعل الممكن باختلاف أشكال التنظيم ، إنْ كانت بسيطة أو مركّبة وباختلاف أطوال الوحدات السردية ؛ لأنها جميعاً تـُـنجـِــز وظيفة أو وظائف إبدالية للحكاية الإطار .
ولتحليل تلك الوحدات السردية سوف نستعين بما طورته المدرسة البنيوية للنقد الأدبي في مجال الأبنية السردية من حيث فعل الحكاية ، والعمل على فحصها داخلياً ووظيفياً ؛ لكي نبتعد عن التقديرات الذاتية والمسائل البلاغية و التوصيف الشكلي .
ووفقا لتلك الغاية ، علينا القيام باختيار وتكييف الأساليب المنهجية المعاصرة وفقا لخصوصية الحكاية التي نريد تحليلها ووضعناها تحت بند ” النمط الواقعي ـ بلاغة الممكن ” ولكي نطبّق تلك المفاهيم المنهجية على النمط الواقعي في حكايات كليلة ودمنة سيكون من الضروري ملاحظة أنّ حكايات ذلك النمط تَعرضُ مجموعة مِن الحوادث ؛ ولكنها تتضمَّن وظيفة واحدة ، وفي أقصاها ثلاث وظائف ؛ إلا أنّ كلّ وظيفة تأخذ دلالتها مِن السياق الحكائي الخاص بها .
وقد سمح تماثل الوظائف ومحدوديتها بتصنيف الحكايات في فئتين وظيفيتين كبيرتين ، يمكن تشعبهما داخلياً ، وهما : حكايات الاعتلال القيمي وحكايات الإيجاب القيَميّ .
أـ حكايات الاعتلال القيَميّ :
تُمثـّل حكايات الاعتلال القيَميّ الدالّ على النقص والاختلال في السلوك الإنساني /10/ حكايات من أصل /15/ حكاية ، أي ما يعادل/69%/ من مجموع حكايات النمط الواقعي في نص كليلة ودمنة. ويمكن إدراجها تحت ثلاث وحدات وظيفية ، هي / 6/ حكايات في السرقة ، و/ 3/ حكايات في مكر المرأة ، وحكاية واحدة في التواكل . وكل حكاية تحكي وظيفة أو أكثر. وسوف نمثل لذلك بحكايتن ، هما حكاية ” الخِبّ والمُغفـَّل ” وحكاية ” المرأة والمُصوِّر والعَبد ”
• تقول حكاية “الخِبّ والمُغفَّل ” : اشترك الخِبّ و المُغفَّل في تجارة ، وفي طريقهما وجدا كيساً مِن المال واتفقا على دفنه تحت شجرة ليأخذا منه وقت الحاجة . ولكنّ الخِبّ عاد فيما بعد وسرق الكيس . وحين احتاج المغفَّل إلى المال طلب مِن الخِبّ الذهاب لإحضار المال ولكنهما حين حفرا تحت الشجرة لم يجدا الكيس ,واتّهم الخِبُّ المغفَّلَ بسرقة المال , ورَفعَ الخلافَ إلى القاضي . وكان الخِبّ قد اتفق مع والده على الاختباء في الشجرة لكي يجيب عن سؤال القاضي بدلاً مِن الشجرة عن سرقة المال . ولكنّ القاضي حين حضر ، وسأل الشجرة شكّ ، وقرّر حرقها لقطع الشكّ باليقين ، فخرج والد الخِبّ مذعورا واعترف بخديعة ولده وسرقته للمال ، فحكم القاضي بعودة المال للمغفّل .
لا تحدد الحكاية سمات شخصية الفاعل بغير السمات العامة لمواصفات الفعل الذي ينجزه . فالخِبّ هو الغشاش والمخادع؛ وهي إبدالات لمظاهر النقص في سلوك الإنسان, يقا بله المخدوع و المغفل . أي أنّ الحكاية تُنجَز من خلال حضور قطبين في السلوك ، هما الخادع والمخدوع ، ولابد من حضورهما لتحقيق الاعتلال القيَميّ . غير أنّ تناقضهما وظيفياً لا يعني إكسابهما سمتين متناقضتين : سلبية ” الخِبّ ” و إيجابية ” المغفل “؛ لأن صفة الغفلة ليست إيجابية ، ولكنها في الوقت نفسه تفتح المجال للخِبّ لممارسة غشه وخداعه . والقطبان يحققان بذلك شرط حضور الاعتلال في السلوك الاجتماعي . إلا أنّ هذه الوظيفة لا تأخذ أهميتها في صورة السرد الكلّي للنمط الواقعي إلا من خلال تكرارها الوظيفي عبر حكايات الاعتلال بصور متباينة ودلالات مختلفة ، وضمن السياق الحكائي . وهي في الوقت ذاته تُقدِّم ، على مستوى البناء الداخلي ،أكثر من وظيفة ؛ فالفعل الواقع في الحكاية مُنجَز على ثلاثة مستويات وظيفية :
1 ـخيانة الشراكة التجارية .
2 ـ خيانة الأمانة .
3 ـ السرقة .
• تقول حكاية ” المرأة والمصوّر والعبد “كان هناك تاجر لديه خازن مال ، وكان بجانب دكان التاجر مصوّر ماهر هو صديق الخازن . فاتفق المصوّر والخازن على سرقة التاجر بالحيلة ؛ وهي أنْ يلبس المصوِّر ملاءة امرأةٍ ويمرّ في الظلام بجانب كوةٍ من المخزن تطلُّ على الطريق ، فإذا رآه الخازن رمى له بشيء مِن البضاعة المخزّنة . وهكذا تتكرّر السرقة في كلّ ليلة إلى أنْ رآهما يوماً صديقُ خادم المصوِّر ، فطلب منه الملاءة ، وقام بتجربة ما رآه ، فاكتشف السرقة .
كذلك لا نجد في الحكاية سماتٍ نوعية محدِّدة للشخصيات ، و إنما سمات مِهَنيَّة توطِّئ للوظيفة أو الفعل الذي سينجزه السرد ؛ التاجر = المال . الخازن = الأمانة على المال . المصور = الاحتيال . فأركان الفعل تتحقق عبر التوطئة لحدوث الاعتلال القيَميّ ، عبر أكثر من وحدة وظيفية تقدّمها الحكاية ، ويمكن رصدها في وظيفتين :
1 ـ خيانة الشراكة التجارية
2 ـالسرقة
وهما وظيفتان إبداليتان لـ”1 ” و “3 ” في الحكاية الأولى . يضاف إلى ذلك حضور وسائل جوهريّة واحدة للبناء الوظيفي في الحكايتين ، تتكرّر في حكايات الاعتلال القيَميّ بشكل عام ، وتتمثل في الحيلة واكتشاف فعل النقيصة ” اليقظة ” .
ففي حكاية ” الخِبّ والمغفل ” يلجأ الخِبّ إلى الحيلة مرتين : الأولى حين يرفض اقتسام المال بحجّة حرصه على قيم الشراكة . والثانية حين يقنِع والده بالتواري داخل الشجرة . وفي الحكاية الثانية ” المرأة والمصوِّر والعبد ” تهيمن الحيلة على النص ، ولكنها لا تشكل وحدة وظيفية ، و إنما تبقى في إطار الوسيلة للبناء الحكـائي عبر شخصية المُصوِّر ، بوصفه ” المحرك للفعل ” وفق تصنيف ” بريمون ” ولذلك فهو مصوِّر ماهر ، لاحظ وجود كُوَّة في جدار المخزن ، كما أنه أوجد حيلة “ملاءة” المرأة .
ولأنّ الانتصار للقيمة وليس لاعتلالها تُكتشف السرقة في الحكايتين ؛ مرة بحضور القاضي اليقظ ، ومرة بحضور صديق خادم المصور اليقظ أيضاً . والشخصان يحملان صفة تقع على نقيض الاعتلال القيَميّ ، مما يحيل النص الحكائي بشكل عام , ومرة ثانية ، إلى ثنائية تقابلية أخرى تتشكل من طرفين : السارق↔ الأمين .أو إبدالهما : الاعتلال ↔ الإيجاب . أو الخطأ ↔ الصواب .
ب ـحكايات الإيجاب القيَميّ :
تمثل حكايات الإيجاب القيَميّ و إبدالاتها في النمط الواقعي في نص كليلة ودمنة خمس حكايات ، أي بنسبة / 34%/ من مجموع حكايات النمط . ويمكن تصنيفها في فئتين وظفيَّتين
1 ـ حكايات الحكمة و إبدالاتها في المشورة والتدبر و إعمال العقل والخضوع للمنطق .
2 ـ حكاية القدر عبر إبدالاته الوظيفية في الإيمان به سمة ً من سمات العقل .
ونمثل لذلك بحكايتين : حكاية ” ا لتاجر وبنيه ” وحكاية ” إيلاذ وبلاذ و إيراخت ”
• تقول حكاية ” التاجر وبنيه ” كان لرجل شيخ ثلاثة بنين ، بدّدوا مال أبيهم ولم يحترفوا حرفة , فقال لهم ناصحاً : يابنيَّ إنّ صاحب الدنيا يطلب ثلاثة أمور لن يدركها إلا بأربعة أشياء , أمّا الثلاثة التي يطلب : فالسّعة في الرزق ، والمنزلة بين الناس ، والزاد للآخرة . أمّا الأربعة التي يحتاج إليها ، فهي اكتساب المال مِن أحسن وجه يكون ، ثم حُسن القيام على ما اكتسب منه ، ثم إنفاقه فيما يُصلح المعيشة ويرضي الأهل والإخوان ، فيعود عليه نفعه في الآخرة . فاتّعظ الأبناء من قول أبيهم وعملوا به .
• لا حدود أو سمات تبيّن شخصيات الحكاية . والعبارة الوصفية في ” رجل شيخ ” هي سمة توطّئ للفعل أو الوظيفة المتمحورة في الحكاية . فالرجل الشيخ يمتلك خبرة الحياة بحكم سنّه ، وبالتالي فهو يوجز الحكمة في السلوك الإنساني . أما متلقو الحكمة فلا توجد علامة ما تدلّ على شخصياتهم سوى أنّهم أبناء الشيخ الحكيم ؛ ممّا يبيّن أنّ العلاقة بين الطرفين ” الحكيم × غير الحكيم ، أو الشيـخ الكبـير الخبير × الابن الصغير المفتقِر إلى الخبرة “هي التي ستخلق فضاء الوظيفة / الحكمة ، من خلال المساحة التي تُباعد بينهما؛ وهي مساحة التجربة التي أدّى افتقادها عند الأبناء إلى الإسراف في المال . وأدّى حضورها عند الشيخ إلى توليد الحكمة المُنجزة نظرياً بوصفها خطاباً مهيمناً بتفصيلاته على النص الحكائيّ .
• تقول حكاية” إيلاذ وبلاذ و إيراخت ” رأى الملك” بلاذ ” في منامه ثمانية أحلام أفزعته ، هي : 1ـ سمكتان حمراوان قائمتان على ذنبيهما . 2 ـ وزَّتان طائرتان من خلف ظهره . 3 ـ حيّة تدبّ على رجله اليسرى 4 ـ دم خُـضِّب به جَسدُه . 5 ـ غَسَل جسده بالماء . 6 ـ وقفَ على جبل أبيض . 7 ـ على رأسه شيء شبيه بالنار . 8 ـ طائر ضرب رأسه بمنقاره
استيقظ الملك فزِعاً ، وجمع نـاك البراهِمَة ليفسّروا له رؤياه . وكان البَراهِمَة يكرهونه ، فطلبوا منه التخلص من أصدقائه وزوجته وابنه لكي ينجوا بنفسه ، كما تقول الرؤيا ، فاغتمَّ الملك لذلك .ودخلت عليه زوجته ” إيراخت ” وسألته عما هو فيه من همّ . فحكى لها رؤياه وما قال البراهمة . فنصحته بسؤال ” كباريون “الحكيم . فامتثل لرأيها ، وسأل ” كباريون ” فقال الحكيم : إنّ رؤيا الملك تحمل الخيرَ والرزق والرسل المحملين بالهدايا مِن الملوك التابعين والمحبّين والمخلصين . ولم يمض وقت قليل حتى تحقق تفسير كباريون الحكيم
على الرغم من أنّها حكاية ” حُلمية ” وفيها العبارة الموطّئة للحُلم ( نام الملك ذات ليلة فرأى في منامه ) ثم حضور الحُلم وتفسيره ، إلا أنّ الحُلُمَ ليس هو الوظيفة التي تريد الحكاية إنجازها ، و إنما ” الحِلْم ” بكسر الحاء وتسكين اللام ؛ أي الحكمة في التصرف ، فلولا ها لقضى الملك على المخلصين له ، وتغلّب عليه أعداؤه . غير أنّ صبره وتدبّره وتفكيره في العاقبة أهدوه إلى شاطئ النجاة على يد الحكيم المخلص ذي العلم الواسع .
تنجز الحكايتان ، إذاً ، وظيفة واحدة عبر أحداث مختلفة ؛ ولكنْ بحضور الرجل الحكيم في كلتيهما . ” الرجل الشيخ ” في الأولى ، و”كباريون ” في الثانية . في الأولى هيمنتْ خبرة الشيخ على الحكاية وفي الثانية هيمنت أيضاً خبرة كباريون الحكيم ، فأصبح العنصر المشترك هو الحكمة بإبدالاتها وتنوعاتها “الخبرة ـ العلم ـ العقل ..الخ ” .
إنّ حكايات ” النمط الواقعي ـ بلاغة الممكن ” تنجز بلاغتها من واقع الحياة اليومية وتفاصيلها في السلوك الإنساني ؛ أي لا مجال فيها للخرافي والمفارق ، بل تقترب من تفصيلات المألوف والاعتيادي . فهي استبطان للجوهر الإنساني ، ولما يمثله مِن طبائع وعواطف وأفكار . وتعتني بإبراز منطق الاختلال وصور النقص والتشوّه ، ولا تهتم بالشخصيات إلا بوصفهم أفراداً يمثلون نمطاً في ” ذاكرة النوع ” بغض النظر عن أسمائهم وسماتهم الشخصية . فهم تجليات للاعتلال ؛ ولذلك نراهم يُقدَّمون بصفاتهم الدلالية الموطِّئة للوظيفة ، مثل السارق والناسك والتاجر ..الخ .
إنّ الاهتمام بالتفاصيل اليومية للحياة في النمط الواقعي نقيضٌ للرمز والكلّيّ والعام الذي سنراه في النمط المفارق ؛ فالخيانة والسرقة والمكر مثلاً، موضوعات تتناولها الحكاية الشعبية من الحياة ، وتستند إلى شخصيات يحكمها منطق الإمكان ، وتعبّر عن تجارب إنسانية ملموسة .
ب ـ النمط الخرافي ” بلاغة المفارق “
تهيمن في النمط المفارق الرمزية الحيوانية على النصوص الحكائية ، وذلك عبر تنوع الشخصيات ، إنْ كانت حيوانية فقط ، مثل حكاية ” الغراب و الثعبان وابن آوى ” أو كانت حيوانية و إنسانية ، مثل حكاية ” الملك والطير فنزة ” أو كانت حيوانية وجماداً، مثل حكاية” الثعلب والطَّبل” . وما ذلك إلا لأنّ الشخصيات في النمط المفارق لا تهتمّ بحدود الشخصيات وملامحها ، و إنما تقدمها بوصفها تجسيداً للنوع ، مثل الأسد و الثعلب وابن آوى والثعبان ..الخ . أي أنّ الشخصيات تفدَّم بوصفها أصنافاً وطبائع مكثَـَّفة ومجرّدة ، رسبّها في الذاكرة اللقاء المرجعي المتكرر مع صورها ؛ فالأسد كائن لحمي ، قوي ، مفترس . والثعلب حيوان ماكر ، مخادع . إنّ هذا التكثيف يفضي بالكائنات الحيوانية إلى تشخيص حكمةٍ أو مثلٍ في نهاية الحكاية ، مثل القول في نهاية حكاية” ابن آوى والأسد والحمار ” هذا مثل الرجل الذي ( يطلب الحاجة فإذا ظفر بها أضاعها )
وتسعى القصديّة في تجليّات الرمزية الحيوانية إلى تمثُّل المواقف والصفات والعواطف والصراعات الإنسانية عبر تمثيلها في الشخصيات الحيوانية . يقول كيليطو ( إنّ الحكمة في الخرافة توضع على ألسنة الحيوان … الخرافة تحاكي القيمة الرمزية التي يجسّدها كل حيوان ضمن مجموع الحيوانات .وكل ّخطاب ينطق به حيوان يكون مطابقاً للموقع الذي يمثله هذا الأخير في مجْمع الحيوان والدورِ الذي يلعبه فيه . يختلف دور الأسد عن دور ابن آوى، والثعلب والتمساح … وتستهدف المحاكاة الطريقة التي يجب أنْ يتصرف بها ويعبّر بها [ كل حيوان ] والنتيجة هي استنتاج نمط قد حُدِّدت سماته بصورة نهائية )
إنّ الفعاليّة الرمزية في الحكاية المفارقة ” حكاية الحيوان ” تتخطى نطاق الشخصية الحيوانية المفرَدة وأوصافها إلى وظيفتها الرمزية من خلال علاقاتها التقابلية مع المعنى المجازي الذي يستحضره المتلقي ليفسر به المعنى الوظيفي في الحكاية عبر التأويل .
إنّ هذا التعالق بين القطبين : المعنى المباشر والمعنى المجازي يُكسب النص الحكائيّ المفارق جوهره التخييلي عبر الاستبدال والتخفيّ في تمثيل الخبرة والسلوك الإنساني ، ممّا يمنح الدوالَّ القدرة على كشف التقاطبات الكبرى ، عبر مدلول حيواني ينتهي في السياق التخييلي إلى تغليب طبع على طبع ،والانتصار لسلوك على سلوك ، وفق ما يشترطه العقل والمثال الإنساني .
ثنائية التقابل في النمط
توزِّع الناقدة العراقية فريال غزّول صور التخييل في قصص الحيوان إلى نمطين تخييليين، هما : النمط” التأرجحي ” والنمط ” التغريبي ” . في الأول تتحوَّل الشخصيات الحيوانية وأوضاعها السردية من حال إلى حال نقيض ، تـَنْتُج عنه تقابلات بلاغية عريضة في السياق بين الرمزيات الحيوانية والقيم الإنسانية التي تترجمها . أمّا النمط التغريبي ، فلا تحضـُـر فيه الشخصيات الحيوانية لإثبات القيم التي ترمز إليها فقط ، ولا لبيان غلبة صنف على آخر، و إنما توظَّف لإثبات فكرة أو موقف إنساني عام ومحايد عبر تحولات الأحداث التي تشارك فيها الرموز الحيوانية المتعارضة . والنتيجة هي تحصيل صورة حُلمية متعالية ، تشكِّل المثال الخُلُقي الأعلى .
وترى الجبوري ، في النمط الأول ” التأرجحي ” ، أنّ المحور ثابت ومنزلة الشخصيات متحوِّلة . وفي الثاني ” التغريبي ” الشخصيات ثابتة والمحور متحول . ويفرض النمط التأرجحي ـ الكلام مازال للجبوري ـ النظرة المحيطة بمجموع العلاقات الداخلية في القص بينما يفرض النمط التغريبي ازدواجية المنظور ، وبالتالي يخلق توتراً إدراكياً يحلّ لصالح فكرة ما ..وينبع النمط التأرجحي من متابعة ما يجري ، أمّا الثاني من مقارنة ما يجري
يعود مصدر التوزيع النمطي عند غزّول إلى قلق الشخصيات الحيوانية وانتقالها بين الأعلى والأدنى ،في صيغة تقابلية ، أو ثباتها لخلق ثنائية تقابلية بين مجموع الحيوان والمتخيَّل الإنساني . ولذلك يسمّي صاحب ” بيان شهرزاد ” النمط الأول عند جبوري بالنمط “الطباقي ” استناداً إلى البلاغة العربية الكلاسيكية . ويسمّي النمط الثاني بالنمط ” التراسلي ” لظهور التقابل المرجعي في ذاكرة النوع بين أصناف الحيوان ، مما يستدعي ظهور تقابلات متعددة جزئية متراسلة تكوِّن بمجموعها الطرف الأول في صيغة التقابل في النمط التغريبي عند غزّول جبوري
ولأنّ قصص الحيوان لا تتشكل بنيتها وفق الصيغتين في النصوص جميعها ، فإننا نرى أنّ هذا التوزيع قاصر عن إدراك الصورة الاستقرائية الشاملة ، والأجدى من ذلك توزيع قصص الحيوان على نمطين مرتبطين بالوظيفة التي تقدّمها حكاية الحيوان ؛ مما يدعو إلى تصنيفها بنوعين : داخلي وخارجي .
النمط الأول ” داخلي ” يقابله ، في التصنيفين السابقين ، التغريبي أو التراسلي. وتتوجه فيه القصدية الدلالية إلى داخل النص ، عبر السرد الذي يهتم بما يجري من أحداث ومتابعتها من قبل المتلقي ، من دون الاهتمام بالعالم الخارجي أو مقابله الإنساني في لحظة المتابعة الجزئية للسرد .
إلا أنه ، وبعد انتهاء السرد ،تتوالد من عملية التلقي المقارَنة بين عالمَيْن ، عالم الحيوان وعالم الإنسان ، للحصول على الرمزية الحيوانية والتقابلات الرمزية التي تنتِج لنا الحكمة المقصودة من الحكاية . أي إنّ العامل الخارجي ينجزه فعل التأويل المنجَز مِن قبل القارئ الحكيم أو الفيلسوف ، كما أراد كتَّاب مقدِّمات كتاب كليلة ودمنة . يقول علي بن الشاه الفارسي ( وجعله [ أي مؤلِّف الكتاب ] على ألسن البهائم والطير صيانة لغرضه الأقصى فيه من العوام ، وضنــَّــاً بما ضمنه عن الطغام وتنزيها للحكمة وفنونها ومحاسنها وعيونها إذ هي للفيلسوف مندوحة ) :
ونمثل لهذا النمط بحكاية ” الغراب والذئب وابن آوى والجمل ” :
ماخص الحكاية
” الغراب والذئب وابن آوى والجمل “
كان في غابة أسد ومعه ثلاثة أصحابٍ أتباع ، هم : الذئب وابن آوى والغراب . ثم ورد على الأسد جملٌ ضلَّ طريقه فأكرمه الأسد وأمَّنه على حياته وجعَله صديقاً له . وحصل أنْ عاد الأسد يوماً من الصيد مثخَن الجراح بعد معركة خاسرة مع فيل ضخمٍ وقعد مريضاً وجائعاً . ولم يستطع أصدقاؤه تقديم الصيد الكافي له ولهم . فتشاوروا في أمر قتل الجمل لأكله , ولكنّ الأسد رفض فكرتهم لعهده مع الجمل وصداقته له . ولم يُقلع الأصدقاء عن فكرتهم ودبّروا خديعة يقدّم فيها الجملُ نفسه للأسد ويرضى الأسد بعدها بأكله .
اجتمع الجميع عند الأسد وبدأ كلّ حيوان يقدِّم نفسه للأسد ليأكله وكان الآخران يعترضان بحجّة أنّ لحمه ضار أو لا يشبع.. فلم يجد الجمل حين جاء دوره إلا أنْ يكون وفياً لصديقه فقال :أنا لحمي قوي ومفيد ويكفي الجميع ، فوافق أصحاب الخديعة بسرعة على العرض وانقضّوا على الجمل وقتلوه
إنّ الأصناف الحيوانية الحاضرة في الحكاية ، هي الأسد والفيل والغراب والذئب وابن آوى والجمل ، ولكنّ العنوان لم يستحضر الأسد والفيل وأبقى على الغراب والذئب وابن آوى والجمل . ويمكن وفق ذلك تصنيف الحيوانات الحاضرة في الحكاية إلى ثلاثة أنماط :
النمط الأول : غائب عن العنوان ويمثله الأسد والفيل ، والحيوانان يمثلان عالمين متناقضين من حيث الطبيعة :
الأسد: وحشي ، مفترس ، قوي ، لحمي .
الفيل : ضخم ، قوي ، عشبي .
الحيوانان يتكافآن في الصراع ، ولا يستطيع أحدهما أن يطرد الآخر . وتُنجز البلاغة الأسلوبية ذلك التوازي عبراللغة السردية الملحمية إذ يقول الراوي : ( إنّ الأسد مضى في بعض الأيام لطلب الصيد فلقي فيلاً عظيماً ، فقاتله قتالاً شديداً وفلـَتَ منه مثخناً بالجراح، يسيل منه الدم )
النمط الثاني : “الحاضر الأول ويمثله الذئب والغراب وابن آوى ” مجموعة من أصناف الحيوان ، مشتركة في ذاكرة النوع المتراكمة بصفات المكر والخديعة والعيش على بقايا الطعام الذي تتركه إليه الوحوش القوية ، كالأسد ، ولذلك تعيش في الحكاية على ما يرميه لها الأسد من فريسته , وحين يمرض الأسد لا تستطيع أنْ تصطاد ما يكفي جوعها ، فتلجأ إلى الصفة المشتركة فيما بينها ، وهي المكر ؛ ولكنه ليس المكر الصادر من فرد واحد و إنما من مجموع ما يُستـَحضَـر لانتصار الشر مِن المكر والكثرة في العدد . وهذا يستدعي مقابله ” البراءة والمفرد ” الممثـَّل في التقابلات الرمزية في الحكاية في النمط الثالث .
النمط الثالث : ” الحاضر / الجمل ” وهو حيوان يستدعي في ذاكرة النوع صور السذاجة ويساوي البراءة في الرمزية الحيوانية المترجمة للقيمة الإنسانية . فهو حيوان ضخم الجثة ، عشبي أليف .
بتلك الصور التقابلية تقدم الصورة الذهنية الأولية للعنوان الصيغ التقابلية الآتية :
الأسد : قوي ـ مفترس ـ لحمي
الجمل : قوي غير مفترس ـ عشبي
الأسد : قوي ـ مفترس ـ صياد لحمي
الثعلب وابن آوى والغراب : ضعيف ـ ماكرـ طفيلي ـ لحمي
الجمل : عشبي ـ ساذج وبريء ـ مفرد
الذئب والغراب وابن آوى : لحمي ـ ماكر ـكثرة
إنّ حضور الأسد والفيل في السرد هو بمثابة التهيئة للفعل الدرامي المنتج للحكمة المـنجـَزة من خلال صور التقابل بين المكر والكثرة من جهة ، والبراءة والضعف ” بسبب الإفراد ” من جهة أخرى. لأنّ ظهور الفيل هو سبب نشوء الصراع بينه وبين الأسد ، وتكون نتيجته مرض الأسد وقعوده عن الصيد ؛ مما يتيح المجال لبروز دور المجموع الماكر ” الذئب والغراب وابن آوى ”
يضاف إلى ذلك أنّ الأسد والفيل لا يوسمان في ذاكرة النوع بسمة المكر ؛ ولأن هذه السمة مع مقابلها في القيم الإنسانية البراءة ، تشكل الصورة المهيمنة في الحكي المنتِج للحكمة ، فإنه لا مبرر لذكر الأسد والفيل في العنون ؛ ولذلك تم ذكر المجموع الماكر بالتتابع ثم أتْبعَ المجموع المفرد المناقض ” الجمل = البراءة ” مما يعني أنّ التقابل الرمـزي المهيمن ليس بين الأسد والفيل ، وليس بين الأسد ” اللحمي ” والجمل ” العشبي ” ، وليس بين الأسد والمجموع الماكر ، و إنما بين المجموع الماكر والمفرد البريء . وهذا ما برر التوازي في الصراع بين اللحمي ” الأسد ” والعشبي ” الفيل ” ؛ ولولا ذلك لانتصر الأسد ” اللحمي ـ المفترس ” على الفيل ” العشبي ـ غير المفترس” . ولكنّ السرد لا يُخرج الأحداث عن الطبيعة الحيوانية للشخصيات . فيتابع المتلقي الأحداث إلى نهايتها ، ولا يفاجأ بما يخالف تلك الطبيعة ؛ فقانون الغاب الذي يحكم مسار العلاقة بين الحيوانات يقود إلى انسحاب الفيل والأسد من الصراع المتكافئ ، ويحشر الذئب والغراب وابن آوى في مرتبة التبعية للأسد لأكل بقايا طعامه، ويؤدي أيضاً إلى افترس الجمل من قبل الأسد. أي أنّ منزلة الشخصيات لم تتغير في الرتبة .
وفق ذلك تنغلق دائرة الحكي على افتراس الجمل . وتنتهي متابعة المتلقي للأحداث . وبعد انغلاق الدائرة يمكن أنْ نتحدث عن متلقيَيْن . يأخذ الأول الجانب الهزْلي للتسلية ، كما يقول ابن المقفع : ( وأمّا الكتاب فجمع حكمة ولهواً، اختاره الحكماء لحكمته والأغرار للهوه ) . ويأخذ الثاني بالتأويل ؛ لصياغة الحكمة ، وذلك عبر المقارنة بين قصدية السرد وتأويلها في القيم الإنسانية ؛ أي أنّه ينقل النص من عالم السرد الداخلي للشخصيات الحيوانية ، إلى عالم القيم الإنسانية الخارجيّ والمُسقط على دلالة الأحداث .
النط الثاني” الخارجــي ” يقابله في التصنيفين السابقين النمط التأرجيحي / التطابقي . وتتوجه فيه القصدية الدلالية إلى العالم الخارجي ، ولا تنغلق فيه دائرة السرد على ما تفرضه الطبيعة الحيوانية للشخصيات وتصنيفها النمطي . وتنتقل فيه الشخصيات من منزلة إلى منزلة ، فما هو فوق في الطبيعة الحيوانية يصير في رتبة التحت ، والعكس صحيح . وتصبح فيه القراءة التأويلية فعلاً منجزاً داخل السرد وليس متمماً له بعد انتهائه. وبذلك يكون فيه النص أكثر مفارقة للطبيعة الحيوانية من النمط الداخلي وأقلّ تسلية وهزْليّة ؛ لأنّ الخطاب فيه يرقـــى مباشرة إلى استحضار القيمة الإنسانية لفهم ما يجري من أحداث ، على عكس النمط الداخلي حيث يمكن أنْ يفهم المتلقي ما يجري وهو داخل نسق الخطاب الحيواني ، ثم بعد ذلك يلجأ إلى التأويل . أي أننا في النمط الخارجي نلتقي مباشرة بنتائج التأويل ، لأنّ السرد لا يسير في الأحداث وفق الطبيعة الحيوانية للشخصيات ، و إنما وفق مدلولها وترجمتها للفعل الإنساني . أما في النمط الداخلي فإننا أمام مستويَيْن للخطاب : الأول داخلي يرتبط بالطبيعة الحيوانية ، ويُنجَز ضمن سياق منغلق على القانون الذي يحكم العلاقة بين الحيوانات . والثاني خارجيّ يرتبط بفعل المقارنة بين ما جاء في السرد عبر الشخصيات الحيوانية ، وما يمكن أنْ يجري في الحياة الإنسانية . أي أننا نلجأ في النمط الداخلي إلى المقارَنة والتفسير لانتقال الخطاب من المجال الحيواني إلى المجال الإنساني ، أمّا في النمط الخارجي فإنّ التفسير ينجز مع السرد في كلّ جزئية أو متوالية .
ونمثل للنمط الخارجي بحكاية “الأرنب والأسد ” 35
نص الحكاية
” الأرنب والأســد “
قال دمنة : زعموا أنّ أسدًا كان في أرض كثيرة المياه والعشب، وكان في تلك الأرض من الوحوش في سعة المياه والمرعى شيء كثير ، إلا أنه لم يكن ينفعها ذلك لخوفها من الأسد. فاجتمعت وأتت إلى الأسد وقالت له : إنك لتصيب منا الدابة بعد الجهد والتعب ، وقد رأينا لك رأيا فيه صلاح لك وأمن لنا ، فإن أنت أمنتنا ولم تخفنا ، فلك علينا في كل يوم دابة ، نرسل بها إليك في وقت غدائك . فرضي الأسد بذلك ، وصالح الوحش عليه ووفين له به.
ثم إن أرنبا أصابتها القرعة وصارت غداء الأسد . فقالت للوحوش : إن أنتنّ رفقتنّ بي فيما لا يضركنّ ، رجوت أن أريحكن من الأسد . فقالت الوحوش : وما الذي تكلفينا من الأمور ؟ قال : تأمرن الذي ينطلق بي إلى الأسد أن يمهلني ريثما أبطيء عليه بعض الإبطاء . فقلن لها : ذلك لك . فانطلقت الأرنب متباطئة حتى جاوزت الوقت الذي يتغدى به الأسد ، ثم تقدمت إليه وحدها رويدا ، وقد جاع ، فغضب وقام من مكانه نحوها ، فقال لها : من أين أقبلت ؟ قالت : أنا رسول الوحوش إليك ، وقد بعثـْـنني ومعي أرنب لك فتبعني أسد في بعض تلك الطريق ، فأخذها مني وقال : أنا أولى بهذه الأرض وما فيها من الوحش ، فقلت له : إن هذا غداء الملك ، أرسلت به الوحوش إليه ، فلا تغضبه ، فسبك وشتمك . فانطلقت مسرعة لأخبرك . فقال الأسد : انطلقي معي ، فأريني موضع هذا الأسد . فانطلقت الأرنب إلى جب فيه ماء غامر صاف ، فاطلّعت فيه وقالت : هذا المكان فاطلَّع فرأى ظلّه وظلّ الأرنب في الماء . فلم يشكّ في قولها ، ووثب على الأسد ليقاتله ، فغرق في الجب ، فانقلبت الأرنب إلى الوحوش ، فأعلمتهن صنيعها بالأسد .
مرة ثانية يُنجز العنوان صوراً ذهنية للتقابل ، ولكن بآلية مختلفة ودلالات متباينة . ف” الأرنب والأسد ” صيغة لمفردَيْن من الحيوانات ” الأرنب ” و ” الأسد “؛ أي لا وجود للكثرة والتعدد مقابل الإفراد . يضاف إلى ذلك الحضور المهيمن لسمتين في ذاكرة النوع : الضعف ” الأرنب ” والقوة ” الأسد ” . الأول ضعيف ، عشبي . والثاني قوي ، لحمي . وقانون الغاب الذي يحكم العلاقات الحيوانية يقضي بافتراس الأسد للأرنب بسهولة ويسر لتنغلق دائرة الحكي على ذلك . ولكنّ الافتراس لا يقع ولا تنغلق دائرة الحكي على ما يقضي به قانون الغاب ، و إنما على عكس ذلك ؛ فالأرنب الضعيف يقضي على الأسد القوي . ولذلك بدأ العنوان بذكر الأرنب ، أي الضعيف أولاً وأتبعه بذكر الأسد . ولكنّ السؤال يبقى مغلقاً على كيفية انتصار الضعف على القوة . و الجواب تنجزه الجُمل المتوالية في السرد ولكنْ عبر الإشارة وليس العبارة ؛ فالأرنب الذي جاء دوره ليفترسه الأسد ، يعمل الحيلة ، ويستدرج الأسد القوي إلى البئر ويوقع به ، فينجو الأرنب ومعه الحيوانات الأضعف من الأسد .
تٌنجِز الحكاية ، إذن ، تقابلين عريضين : في الأول طرف غائب عن السرد ، يحضر ذهنياً بحضور السمة ” الضعف ” و ” القوة ” فقط . ولكنّ هذا التقابل معطَّل عن العمل في السرد وغير فاعل ؛ إلا من خلال تأكيد بطلانه في الحكي . بينما يَنهض التقابلُ الثاني بقوة الفعل السردي , وهو التأكيد على دور العقل والحيلة مقابل القوة والغطرسة . أي أننا أمام تقابل سياقي في مدلوله الإنساني مباشرة , ولا يمكن لنا أنْ ننجز قراءة الأحداث أو أنْ نتابعها دون حضور ذلك التقابل وذلك المدلول ، وكأننا أمام قراءة ثنائية : الأولى غير متماسكة أو متجانسة أو متسقة مع الضعف والطبيعة الحيوانية والقانون الذي يحكمها ، وتدلّ عليها أفعال الحيوانات في النص . والثانية قراءة متسقة على مستوى النسق الإنساني على الرغم من غياب الشخصيات الإنسانية في الحكاية فاعلاً سردياً ؛ ولكنها حاضرة فعلاً رمزياً من خلال حضور سمات الإنسان ” العقل ، الحيلة …الخ ” في مقابل القوة والغطرسة . فالحكاية تلتقي بالعالم الخارجي مباشرة ، وتلتصق به ، ولا تُفهم إلا على أساس حضوره ، ولا تنغلق دائرة الحكي إلا على إ نجازه ، وليس على نهاية الأحداث في الفعل السرد ي .
وتبقى النتيجة في النمطين التخييليَّيْن ، و إنْ اختلفا في طريقة التخييل ، واحدة في الانتقال إلى العالم الخارجي لاستكمال النص السردي . أي أنّ القصدية الإنسانية في القص ، أو إنجاز الحكي هي البنية الدلالية القارة . فالنمط الداخلي يكتمل مع التأويل الذي ينقله إلى العالم الإنساني ” الخارجي ” والنمط الخارجي يكتمل سرده عبر تأويله المباشر وربطه بالعالم الإنساني ” الخارجي “
ويختلف النمطان من حيث السمات الآتية :
1 ـ الشخصيات في النمط الداخلي ثابتة في منزلتها في التصنيف الحيواني ، فما هو فوق كالأسد يبقى في مرتبته ، وما هو تحت ، كالجمل ، يبقى أيضاً في مرتبته ؛ ولذلك افترس الأسد الجمل . أمّا في النمط الخارجي فمنزلة الحيوانات متحولة ؛ ولذلك قضى الأرنب ” التحت ” على الأسد ” الفوق ” وتحوّلت منزلة كلّ منهما
2ـ يبقى التقابل في النمط الداخلي في نطاق الصنف الحيواني ” لحمي × عشبي ” والانتصار للأول ضمن إطار العلاقة الحيوانية . وفي النمط الخارجي يتغيّر التقابل لصالح العبرة ، ولا يستطيع القوي أنْ يأكل الضعيف ، لأنّ الضعيف قوي بعقله ، بينما الأول قوي بجسده . .
3ـ الفاعل في السرد في النمط الداخلي هو المنتصر والأقوى ضمن نطاق العلاقات الحيوانية ، مثل “الذئب والغراب وابن آوى ” . والجمل متلقٍ للفعل ، ولا يقوم برد الفعل إلا بما يوافق غاية المنتصر. أمّا الفعل في السرد في النمط الخارجي فهو الأضعف في الصنف الحيواني أو معادله في القيمة الإنسانية ” العقل ” ويكون رد الفعل للأقوى في الصنف الحيواني ” الأسد ” ، ويكون رد فعله تحقيقاً لمطلب الأضعف جسدياً والأقوى دلالياً في رمزية القيم الإنسانية .
4ـ يهيمن التأويل المباشر على الأحداث لفهمها في النمط الخارجي ، بينما تهيمن المقارنة ، في النمط الداخلي ، بين عالمَيْن : عالم الحيوان وعالم الإنسان لإتمام دلالة النص الحكائي .
_________
ـ السرديّة العربية ـ عبد الله إبراهيم ,.. المركز الثقافي العربي . الدار البيضاء 1992 ص 16 وما بعدها
ـ دائرة المعارف العربية بطرس البستاني ,.. بيروت 7/355
ـ الغائب ،.عبد الفتاح كيليطو . الدار البيضاء . دار توبقال ط1 1987 ص 11
ـ راجع : قصصنا الشعبي ، من الرومانسية إلى الواقعية . نبيلة. إبراهيم , بيروت دار العودة 1974 . و القصص الشعبي في السودان . عز الدين إسماعيل ,.. بغداد دار الشؤون الثقافية العامة 1986 . ألف ليلة وليلة ، دراسة سيميائية تفكيكية لحكاية حمّال بغداد. عبد الملك مرتاض ,.. بغداد . دار الشؤون الثقافية العامة 1989
ـ بيان شهرزاد . شرف الدين ماجدولين ,.. المركز الثقافي العربي . الدار البيضاء 2001 ص 64
ـ ا لحكاية الشعبية . عبد الحميد يونس .. القاهرة . المؤسسة المصرية العامة دار الكتاب العربي 1968.
ـ الفهرست . محمد بن النديم , .. تحقيق : رضا تجدد . طهران 1971 ص367
ـ حكاية الحيوان في التراث العربي .محمد رجب النجار ,.. مجلة عالم الفكر . الكويت وزارة الإعلام . سنة 1995 . المجلد 24 العدد 1 ـ 2 . وانظر : التراث القصصي في الأدب العربي ، مقاربات سوسيوسردية. محمد رجب. النجار, ،. الكويت 1990 ص111
ـ بيان شهرزاد 160
ـ الحكاية الخرافية . فريدريش فون دير لاين ,.. ترجمة نبيلة إبراهيم . سلسلة الألف كتاب . العدد 561 القاهرة ص 96
ـ الحكاية الشعبية العربية . شوقي عبد الحكيم ,.. بيروت . دار ابن خلدون 1980 المقدمة
ـ كليلة ودمنة . عبد الله بن المقفع ,.. تحقيق ومراجعة عرفان مطرجي . بيروت 2002 ص 87
ـ قام بروب بتطوير مفهوم الوظيفة في ضوء أهميتها بالنسبة إلى الكشف عن السرد الحكائي. وقد لاحظ بروب أنّ الوظائف لا تتغير على الرغم من تعدد الشخصيات . لذلك قام بفصل الفعل عن الشخصية التي تقوم به. وأصبحت بذلك الوظيفة وحدة مستقلة تمثل الفعل والمغزى . وطبقاً لملاحظته فإنّ الأفعال المتماثلة قد تكون لها دلالات متماثلة أو العكس. وعليه يمكن النظر إلى النص الحكائي على أنه سلسلة من الوظائف. راجع : مورفولوجية الخرافة . فلاديمير بروب ,.. ترجمة : إبراهيم الخطيب . الدار البيضاء 1986
ـ الخِبّ : المخادع . لسان العرب . ابن منظور م 1 مادة ” خبب “
ـ كليلة ودمنة ص10
ـ كليلة ودمنة ص114
ـ ـ بنية النص السردي . حميد لحميداني . المركز الثقافي العربي . الدار البيضاء . 1993 ص 34
ـ كليلة ودمنة ص 68
ـ كليلة ودمنة ص 192
ـ بناء النص التراثي . فدوى مالطي دوكلاس ,.. بغداد . دار الشؤون الثقافية . د. ت 161
ـ بيان شهرزاد ص 266
ـ بيان شهرزاد 82
ـ كليلة ودمنة ص 84
ـ كليلة ودمنة ص 176
ـ كليلة ودمنة ص 77
ـ كليلة ودمنة ص 167
ـ المقامات ، السرد والأنساق الثقافية . عبد الفتاح كيليطو,.. ترجمة عبد الكبير الشرقاوي . الدار البيضاء . دار توبقال 1993 ص 33
ـ قصص الحيوان بين موروثنا الشعبي وتراثنا الفلسفي . فريال غزّول جبوري ,.. القاهرة . مجلة فصول سنة 1993 المجلد 13 .العدد3 ص 138
ـ بيان شهرزاد ص 160
ـ أراد الطير والحيوان وأوغاد الناس . يقال : هذا طغامة من الطغام للذكر والأنثى وللواحد والجمع. ولا ينطق له بفعل . ولا يعرف له اشتقاق . لسان العرب م 12 مادة ” طغم “
ـ متسعة . لسان العرب م2 مادة ” ندح “
ـ كليلة ودمنة 13
ـ كليلة ودمنة 98
ـ كليلة ودمنة ص 57
___________
المصادر والمراجع
ـ ألف ليلة وليلة ، دراسة سيميائية تفكيكية لحكاية حمّال بغداد . عبد الملك مرتاض .. بغداد . دار الشؤون الثقافية العامة 1989
ـ بناء النص التراثي فدوى مالطي دوكلاس ,.. بغداد . دار الشؤون الثقافية . د. ت 161
ـ بنية النص السردي . حميد لحميداني . المركز الثقافي العربي . الدار البيضاء . 1993
ـ بيان شهرزاد . شرف الدين ماجدولين .. المركز الثقافي العربي . الدار البيضاء 2001 ص 64
ـ التراث القصصي في الأدب العربي ، مقاربات سوسيوسردية . محمد رجب النجار. الكويت 1990
ـ حكاية الحيوان في التراث العربي محمد رجب النجار . مجلة عالم الفكر . الكويت وزارة الإعلام . سنة 1995 . المجلد 24 العدد 1 ـ 2 .
ـ الحكاية الخرافية. فريدريش فون دير لاين. ترجمة نبيلة إبراهيم . القاهرة . سلسلة الألف كتاب . العدد 561
ـ الحكاية الشعبية العربية شوقي عبد الحكيم ,.. بيروت . دار ابن خلدون 1980
ـ ا لحكاية الشعبية . عبد الحميد يونس ,. القاهرة . المؤسسة المصرية العامة . دار الكتاب العربي 1968.
ـ دائرة المعارف العربية بطرس البستاني ,.. بيروت
ـ دراسة في مقامات الحريري عبد الفتاح كيليطو,. الغائب ،. الدار البيضاء . دار توبقال ط1 1987
ـ السرديّة العربية . عبد الله إبراهيم ,.المركز الثقافي العربي . الدار البيضاء 1992
ـ .الفهرست . محمد بن النديم . تحقيق : رضا تجدد . طهران 1971
ـ قصص الحيوان بين موروثنا الشعبي وتراثنا الفلسفي فريال غزّول جبوري . القاهرة . مجلة فصول سنة 1993 المجلد 13 .العدد3
ـ القصص الشعبي في السودان عز الدين إسماعيل ,.. بغداد دار الشؤون الثقافية العامة 1986 .
ـ قصصنا الشعبي ، من الرومانسية إلى الواقعية نبيلة.. إبراهيم , بيروت دار العودة 1974 .
ـ كليلة ودمنة . عبد الله بن المقفع . تحقيق ومراجعة عرفان مطرجي . بيروت 2002
ـ لسان العرب . ابن منظور, أبو الفضل جمال الدين. . ط3. بيروت. دار صادر.1994
ـ المقامات ، السرد والأنساق الثقافية عبد الفتاح كيليطو. ترجمة عبد الكبير الشرقاوي . الدار البيضاء . دار توبقال 1993
ـ مورفولوجية الخرافة . فلاديمير بروب . ترجمة : إبراهيم الخطيب . الدار البيضاء 1986
_____________
جامعة محمد السادس.
المحمدية