*علي لطيف
ذلك الذباب الأسود على يديّه المجعّدتين، ما تبقّى من أسنانه البنيّة، زيّه التقليدي الرّث، وقبّعته التقليدية الباهتة مثل لون رمال الصحراء، كيس الخبز القماشي المرقّع الذي كان يحمله. كان ينظر إلى الفراغ أمامه كأنه تمثال بشع نُحِتَ على عجل، ومتّكئ على جَهنَّمية ميّتة بحديقة مهجورة.
كان الرجل العجوز جالساً أمام المخبز، على عكسنا نحن، الرجال القلقون الواقفون في طابور غير منتظم. «بعد نصف ساعة يخرج الخبز»، سمعت أحد الرجال يقول.
لا أعرف لِمَ!، لكن ذلك العجوز ذكّرني بالسلالم الحمراء الصدئة خارج بيت عائلة صغيرة في طرابلس. السلالم كانت تقود مباشرة لسطح البيت. وكنا في يوم ما نتسكّع هناك كل ليلة. أربعة رجال يظهرون في الليل عندما تنقطع الكهرباء. كنا نسكن في منطقة واحدة، أحدنا ليس بعيداً عن الآخر.
التقينا خلال الحرب، أغسطس/آب عام 2011. كنت أبحث عن محلّ سجائر، في شارعنا الصغير، لم أجد. وكوني من ذلك النوع من الأشخاص المنطوين، فلم أكن أعرف أيّ أحد من رجال شارعنا المدخِّنين.
كنت أقف أمام باب بيتنا، فرأيته. الكهرباء كانت منقطعة لثلاثة أيام، ولا أحد يعلم ما الذي يحصل في طرابلس، لكن صوت الرصاص والانفجارات كانت مستمرّة، إلّا أنهم كانوا يقولون إننا انتصرنا. وقف أمامي وابتسم. وأجل، المياه كانت مقطوعة أيضاً. سألني إن كنت أحمل قدّاحة. كنت أحمل واحدة ولا أعلم السبب. أشعل السيجارة وأعطاني أخرى. «لقد انتصرنا»، فكّرت في نفسي.
تحدّثنا قليلاً. كان انطوائياً أكثر مني. نحن- الانطوائيين- يشعر البعض منا بما يحسّه البعض الآخر. بعد مدّة التقيت به مجدّداً، تحدّثنا أكثر، كان حديثاً جيّداً، وهذا يعني الكثير لانطوائيّين: أخبرني أنه يقضي معظم وقته فوق سطح بيتهم في غرفة صغيرة بناها بيديه. أخبرني أنه يرسم ودعاني لرؤية لوحاته متى أردت. اتّفقنا على ليلة الغد، وسألته إن كان بإمكاني إحضار صديق معي. لم يمانع.
بعد أسابيع، أصبح سطح بيتهم مستوطنتنا نحن الأربعة. الشخص الرابع كان صديق طفولته الذي عاد إلى البلد من إحدى دول أوروبا الغربية نهاية عام 2011. كنا- الأربعة- ننحدر من مناطق مختلفة، قبائل معادية، وإرثنا العائلي السياسي والثّقافي كان متضادّاً حدّ العداء، أيضاً.
كان يجدر بنا أن يقتل أحدنا الآخر إن احتكمنا إلى المنطق السائد اليوم. إلّا أننا قرّرنا، ذات ليلة، أننا- وأبداً- لن نحمل السلاح، في حياتنا كلّها، ولو دفاعاً عن أنفسنا حتى. «إن ذلك عبث»، فكّرنا، وأن مقابلة الموت بابتسامة هي أمثل ما يمكن فعله.
كنّا مختلفين وافتخرنا بذلك، فهمنا الكثير من الأشياء وحدنا، شعرنا بالأسف لحال البلد في البداية، ثم باللاجدوى، ثم باللامبالاة. الحرب الثانية كانت قاسية على الجميع، وخاصّة علينا.
«الجميع تورّط»، قال أحدنا، بينما كنا جالسين فوق السطح في ظلام ليلة، دون كهرباء، ولا ضوء يُنيرنا إلّا نور جمرات سجائرنا الأحمر. «الجميع تورّط، أثبتت الحرب الأخيرة أن الشعب العظيم متورّط أيضاً، أنا لا أفهم الأمر، أعني: كيف يمكن لنا أن نعود إلى عصر الصحراء في الألفية الثانية»؟
«لهذا، نحن عدميّون»، قال صاحب السطح.
«نحن وُلدنا في وقت سيِّئ جدّاً من تاريخ البشرية»!. أجابه.
ضحكنا، ولم نتحدّث عن الأمر مجدّداً. لكن، الحياة تفاجئك دائماً، تتوقّع كلّ شيء، لكن، ليس كل شيء، هنالك، دائماً قطعة مفقودة يتسلّل منها القدر إليك، ليغدر بك.
حاولنا التأقلم على قدر الإمكان. كل واحد منا شغل نفسه بشيء، إمّا عمل أو دراسة. لكن الحرب الأهلية لديها طريقة معقّدة في تفريق الناس، ولو كانوا بعيدين عنها ولا يمثّل أي طرف من أطراف الحرب أحداً منهم. أعتقد أن الحروب لا تجعل الإنسان سيّئاً، إنها فقط، تُظهر مساوئه إلى العلن.
في النهاية، هزمتنا الحرب مثلما هزمت الجميع وجعلتهم متورّطين، بشكل أو بآخر. تورّط أوّل رجل فينا، الحالة المادّية السيّئة ومرض والدته وغلاء سعر الأدوية، جعلته يلتحق بأسرع طريق للكسب: وجد نفسه يُمسك سلاحاً.
ثاني رجل بدأ يعمل مع إحدى الجماعات السياسية، عائلته كلّها، تقريباً، في الجماعة، كان الأمر حتمياً.
ثالت رجل انطوى على نفسه، انعزل تماماً عن الجميع بعد مقتل أخيه في أحد الاشتباكات القبلية، خارج العاصمة. لا أحد تجرّأ منّا أن يتواصل معه بعد العزاء. كان ذلك آخر يوم يرى فيه أحدنا الآخر. وقفنا أمام المقبرة في طابور المُعزّين. «البقيّة في حياتك»، لم يسمع منا أكثر من تلك الجملة.
البقيّة في حياتك، ما معنى ذلك على أيّة حال؟ إنها مجرّد كلمة تعلّمنا أن نقولها في كلّ عزاء، ولا تعني أيّ شيء، وليس لها أيّة قيمة.
الحرب، الكِبر، أوّل شَيْبة في الرأس، المال، العائلة، القبيلة، الأعراف والتقاليد، النجاح، الفشل..، وهكذا تنسى ذاتك تحت ضغط كل تلك القوى، والوحدة التي تضعك على المسار العام: القبيح والتعيس والمكتظّ برجال عجائز مجعّدين، يعلو أياديهم ذباب أسود، جالسين أمام المخابز منتظرين خروج الخبز بعد نصف ساعة.
وكلّ وعودنا تلك: أن نكون نحن، أن نحافظ على إنسانيتنا، أن لا نتورّط أبداً مهما حدث.. إلخ.. كانت مجرّد بيانات حالمة، بين رجال ظهروا في الليل وتكلّموا في الظلام، ولم يتمكّنوا من مواجهة الشمس والنظر إليها مباشرةً والقول: نحن شيءٌ آخر!
رجال أعطوا ظهورهم للشمس، وردّدوا بائسين:
أليس من ذلك بُدّ؟
ليس من ذلك بُدّ. *
* ثيمة الرباعية الوترية السادسة عشرة، الحركة الرابعة، للودفيج فان بيتهوفن.. استعملَ الروّائي ميلان كونديرا هذه الثيمة في روايته «كائن لا تحتمل خفّته». ترجمة ماري طوق، دار نشر المركز الثّقافي العربي.
____
*مجلة الدوحة