سرّ الضعف


*صالح العامري


1- طووط، طوووط
لا أعرف لماذا تخيّرني من بين الثلاثة الذين كانوا واقفين هناك؟. حاولتُ أن أقول له إنني طارئ هنا وأنني غريب، وأنّه من المفترض أن يؤوي الغرباء مثلي لا أن يتخذني طعاماً سائغاً له، أو على أقل تقدير كان عليه بأن يبدأ بأسّ البلاء بيننا نحن الثلاثة، وهو الشخص المبالغ في هندامه والذي كان يقف على يميني؛ إذ حدستُ ذلك من رائحته المريبة. فكرت بأنه ربما انتقاني في نزوة عارمة لا تفرق بين الأشخاص، أو لأنني كنت قبالته تماماً عندما دخل علينا ونحن واقفون في صدر الخيمة الفسيحة، أو لأنه اختصني دون أدنى تفكير لأن أكون فأر تجاربه الشنيعة.
لم يكن الخلاص ممكناً من غطرسة وقفته أمامي، وبعينين حادتين من لهب، وبحركة سريعة، أخذ يجرح كتفي بمشرط حاد. حاولتُ أن أكتم ألمي، وأن أغالب هذا الشر الخنزيري المتجسد في شخصه الضخم. وفي حركة أخرى قام إليّ وهز رأسي كأنه يعبث بشجرة زنبركية أو كأنه ينفض من ذلك الرأس سائلاً مخبأ أو سراً لا أفقهه. ترنحتُ بعد فعلته الغريبة لكنني لم أسقط أرضا. ثم ما لبث أن فاجأني برفسة موجهة إلى ما بين فخذيّ، صعد على إثرها وجع عنيف إلى منخريّ معتصراً جسمي كله في أفيون الاحتقار العبثيّ وزئبق الثأر المسوف. حاولتُ أن أهرب، لكنني كلما ركضتُ بعيداً ألفيتُهُ يستخدم أسلحته الوقحة في جسمي وأعضائي دون وازع من ضمير أو رادع من أحد.
عدوتُ لاهثاً إلى الفضاء الطلق، لأتنفس أكبر كمية من الهواء، لكنني كنتُ في متناول يديه الطويلتين. استمررتُ في ركضي الموتور، وما إن وجدتُ نفسي على سطح عمارة شاهقة أشبه بناطحة سحاب حتى قفزتُ منها إلى الماء لكي يبتلعني البحر أو ينجيني. كان الخنزير البشريّ ورائي تماماً، يلاحقني كما لو أن محاولة هربي مجرد نكتة سخيفة بالنسبة له. وعندما سقطتُ على سطح القارب البخاريّ الذي جاءت به المصادفة أو المقادير كان بمقدور ذلك البشريّ المتعجرف أن يخطفني بيمينه ويمضي بي بعيدا. لكن ما حدث آنذاك فعلاً هو أن محرك القارب السريع كان يدوي في خضمّ الموج ويسحب القارب بقوة إلى الأمام، وعلى أول دفق من ذلك الهدير الصوتي، انطلقتُ فاتحاً حلقي على مصراعيه، مردداً ذلك العواء الإلهي الذي يحرك القارب «طووووط، طوووووط. طوووط، طووووووط….».
ما إن انخرطتُ في ذلك الصوت الذي يشبه القوقعة التي كنتُ أحتمي بها، حتى اختفى شبح الجريمة، أو ذلك الشر المتجسد في ذلك اللئيم، أو ذلك الشخص الوقح الذي كان يطاردني.
أدرك الآن، بأن تلك النبرة، التي صعّدتُها مع هدير المحرك، تشبه إيلاج خيط النجاة في ثقب إبرة الأمان، وأنّ الصوت مع الصوت قد التحما وصنعا حياة جديدة لي. أدرك أيضاً، وهذا هو الأهمّ، أنني اكتشفتُ أنّ هنالك نقطة ضعف ما في كلّ كائن جبار متغطرس، وأنّني أحدس أنّ الطووووط طووووط تلك، قد رشّت على وجهه غبار الخزي، إنها محقته تماماً من أيّ فعل أو مشهد أو سيناريو محتمل قادم.
2- الجنازة
أفكر في أمي، وأنا أنشب في رأسها فكرة امتناعي البات عن حضور أيّ عزاء، صديقاً كان أم عدوا، لسبب منطقيّ جدا، وهو أنني ليس بمقدوري أن أعيد الميّت إلى الحياة، ولن أتمكن من أي شيء خارق آخر سوى بضع كلمات جاهزة، بالغة الرثاثة، يرددها العقلاء الكذابون أمام الملأ أو يهمسون بها قريباً من أذن المفجوع بفقيده.
يخطر في بالي ذلك، بينما كانت الجنازات تترادف الواحدة وراء الأخرى، مهرولين بالنعوش إلى حيث المقبرة، أو إلى مهزلة الديدان والبؤس الأرضيين. لم يكن في حسباني أن أعد الجنازات التي مرّت عليّ فلم أكن أكترث بمن عاش وبمن وُلِد، ولا بحفلة العرس أو مأدبة المأتم، لكن ساقتني المصادفة، وأنا أقرأ كتاب الشفق، أن رأيتُ جنازة صامتة، لم يكن يهرول فيها أحد، بمن فيهم حاملو النعش. شيء حزين صامت يقطر هناك، الأرجل تتحرك كما لو أنها سائخة في التراب ثم إنها تنزلق بصعوبة إلى الأمام. يبدو الأمر أشبه بحركة سينمائية بطيئة للتدليل على أن الزمن متخثر أو عالق في الحنك أو ملتصق كعاهرة أو مسمار على جدار ليل حالك السواد.
أما الجنازة الثانية، فكانت على النقيض من الأولى، في صخب مشائيها وحملة نعشها. إنها جنازة تحتج على طريقة موت صاحبها، أو تتبرم بطريقة غامضة من تلك النهاية التي أردتْ الشخص أو أودتْ به.
أمّا الجنازة الثالثة، فقد مرّت في ذات اللحظة التي كنتُ غارقاً فيها في قراءة مقطع يتعلق بسماع أحد السجّانين العتاة، في وخزة من وخزات الضمير، لصوت سجين كان قد قتله ذلك السجّان منذ مدة طويلة. رفعتُ نظري عن الكتاب، مستغرقاً في تأمل النعش، الذي يبدو مضحكاً بعض الشيء، كما لو أنّه قد رُتِّبَ كيفما اتفق، أو كأنّ أسرة الفقيد قد أدخلته إلى التابوت على عجل وغطته بغطاء أخضر امتقع لونه حتى صار كالحا. لا أعرف لماذا تدخلتُ حينها متوجهاً صوب النعش، صارخاً كأنني معتوه من العصر الحجريّ بأن ميّتهم لا يزال حيّا، آمراً إيّاهم بأن ينزلوا التابوت أرضا كي يتأكدوا من صحة كلامي.
ما إن توقفت الجنازة، وأنزل التابوت، حتى ارتفعت قليلاً ركبة الساق اليسرى للميّت، وهو الأمر الذي أحدث هلعاً بين المشيعين، حيث تراكضوا على غير هدى إلى نواح وجهات مختلفة، بينما بقيتُ لوحدي مع الميّت. كشفتُ الغطاء عن وجهه، فعرفتُ فيه وجه الرسّام والمصور الفوتوغرافي الذي كنت أعرفه منذ سنوات بعيدة خلت.
حرّضتُ الميّت، الذي يبدو أنه ليس ميّتاً تماماً، على أن يستيقظ ويفتح عينيه كي يخرج سريعاً من هذه اللعنة التي ينام بين ألواحها. توسلت له لكي يصنع وجهه الجديد. كنت أدعمه بكلماتي المنفرة وضراعتي في التحول إلى أن يكون شيئا آخر لكي ينهض مجددا، ويحرث أرضاً أخرى، ويتحدث كملاك أو يرسم لوحته الأخيرة، أو يتناول عشاءه الأخير.
لأول وهلة، وبعد أن ألقيت نظرة خرساء على هيئته، ألفيتُ وجهه متأثراً بفعل زمن يحب أن تكون فيه وجوه البشر طولية وليست كلثومية. حاولتُ أن أدفعه دفعاً إلى النهوض كما لو أنه جرح مرتبك أو لعنة حميمة لا تنسى.
ورغم أنني لا أعرف أمر تأويل الأحلام، فقد رأيتُ الجسد المرصوص في تلك البقعة التابوتية، وهو يخرج مثل نمر ذهبيّ صغير، مضيّعاً كلّ جنازة، باصقاً على أيّ تابوت. الجسد يغني، والروح كذلك، والميّتُ لم يعد ميّتاً، بل راكضاً وقد فلعته الأزمنة وضمخته المسافات.
______
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *