من ذاكرة الزقاق / حامض حلو


* ناصر الريماوي


خاص ( ثقافات )
لا، لن أحتمل التأنيب، أو عتابا إضافيا من أحد..!!
لقد مرّ زمن طويل على تلك الحكاية، ذلك الزمن نفسه الذي عَبَرَ ثقيلا من خلال زقاقنا المترب وأبوابه المطلية كيفما اتفق، وجدرانه المتلاصقة، المقشرة، والتي كانت تسند عطفة الزقاق بأكتافها وتصل بين شارعين، يطوق الزقاق السّاحة المحاصرة بين سور المدرسة الابتدائية، وبعض الجدران الخلفية لبيوت الحارة الأخرى، أبواب “الزينكو” تلك، كانت رقيقة، وبلا أجراس، كان الطرق على أي باب منها يوقظ حارتنا بأكملها، الغريب أن كل باب كان يصدر صوتا خاصا به، بإيقاع مختلف يتردد عاليا، حتى أنه يمكن لأي كان في الزقاق أن يحدد البيت المستهدف بذلك القرع.
وماذا بعد؟
تبرز العتبات الأسمنتية كمضافات خارجية، محدودة، تندلق من كل باب، إلى منتصف الزقاق، دون أن تسدّه بالطبع، وقد تتسع كل عتبة في أقصاها لجارتين أو ثلاثة، يفترشنها معاً… 
لكن ما الجديد؟ 
كل الحارات تقريبا تتشابه، في كل شيء.
ربما الناس، وربما تشابك العلاقات، وأنواعها، ربما حدّتها في التصعيد، هو ما قد يختلف من حارة لأخرى. أو يميّزها عن غيرها. 
“ابراهيم”، بائع الجرائد مثلا، ابن الجارة الطيبة التي كانت تفيض سكرا بقطع الحلوى الصغيرة البيضاء من قبضة يدها، لتصبها في حلوقنا، كلما مررنا بباب بيتها، صدقا لم تكن رشوة ولو أن الأغلبية منّا قد فسّرها كذلك في حينه، لكن أمي كانت تؤكد لنا بأنها معذورة، وهل كان علينا ونحن صغاراً أن نفهم ما تعنيه، كنّا صغارا وكفى، أم إبراهيم، تجتاحها الحسرة ويتهدج صوتها بعد أن تمنحنا حلواها وهي توصي بمرارة وصبر: إبراهيم طيب، دعوه يلعب معكم، ليس مؤذيا، خلقة الله هكذا.. فماذا نفعل؟
تتنقل بين مصاطب البيوت في الزقاق، تشتري ود الجارات بأعذب العبارات، وقد تستجدي عطفهن بيدها، ترفعها أو تضعها، ولا تترك رؤوسهن إلا وقد أصطحبنا ولدها إلى السّاحة على طرف الزقاق، كي نشركه في اللعب معنا.
******
في القاعة التربوية للاجتماعات، أعدتُ للرفاق ما قلتُ، وانا أضحك: لن أحتمل التأنيب، أو عتابا إضافيا من أحد، يكفي ما جرى…!
– حتى بعد هذه الصدفة؟ بعد عشرين عاما مرّت قبل هذا اللقاء؟
أجبته : وحتى آخر العمر.
كان ” لإبراهيم” ملامح قرد، وكنّا نلقبه بالسّعدان، كانت شفتاه ترسمان ابتسامة لا تفارق وجهه بفك سفلي بارز، فوضى الشَّعر الكثيف في وجهه وحاجبيه لطفل في مثل عمره، تزيدان الطين بلّه، لكنه محظوظ … وهذا ما كان يغيظني ولا أعرف له سببا، تلك الإبتسامة الفطرية، المرسومة على فمه كخلقة ربانية والتي لا شأن لوعيه المكتسب دورا بها، أرهقتني، حتى عندما عثر الأستاذ ” مربي الصف” على علبة الطباشير الملونة في شنطته المدرسية، كان يبادل الطرف الحانق في غرفة الإدارة برودا مألوفا بتلك الابتسامة المقعّرة، المثبتة على وجهه بعناية إلهية، دون انفعال حقيقي، حتى وهو يتسلم خطاب النقل التأديبي لمدرسة أخرى بعد سلسلة طويلة من الأخطاء المماثلة، كان يبتسم.
أمه تبرر، بأنها “خلقة الله” وهي تتملق الجارات، و”مرام” الفتاة الشّامية التي كانت محطّ انظارنا جميعا في ذلك الزقاق، كانت تحبّه، وتفضله علينا جميعا، ترافقه حين تلتقيه صدفة عند مدخل الزقاق ثم تفترق عنه مكرهة عند بوابة بيتها المقابل لبيتنا، وحين ننظر إليها بتفجع، ترمقنا في إزدراء، وتستخف بنا. كانت تطاله قذائف الماء المجهولة والتي تنفجر بتزامن مدروس مع بالونات الغبار الأبيض الناعمة، ذات المصدر المجهول، وحين يقف مشدوها وسط الزقاق ، يقطر منه الطين وينزّ من ملابسه الجديدة وشعره المتحرر مرحليا من فوضى تجاعيده المزمنة، بمسحات ( زيت / كاز) سخية، من يد أمّه المبلولة على الدوام بالسّكر، كانت ” مرام” تهرع إلى الزقاق بمنشفة قطنية، تلفّه بها ثم تقوده بلطف وعناية، تسير إلى جانبه حتى تعيده إلى بيته، وهي ترصد أسطح الغرف الواطئة على جانبي الزقاق بعينيّ صقر جميلتين، لكن في كدر بالغ.
يتضاعف نفورها منّا، كلما طالته قذيفة مائية جديدة، حتى تحول نفورها مع الوقت إلى نوع من الاحتقار، لكنها لم تخبر احداً بما رأت وأبقته لنفسها.
لماذا تشفق عليه؟ 
لا، إنها تحبه. على الرغم من كل شيء، إلا أنها تحبه. رغم كل الفوارق الخلقية، فهي تحبّه!!
وأنا لم أحتمل أن تتم جارتنا حديثها المستفز، لم تعجبني نبرة التشفي بتلك الحماسة في حديثها وهي تشارك أمي مصطبة الدار، ففررّتُ إلى السّاحة، وألّبتُ رفاقي عليها، فطال “حوش” بيتها النظيف، المشرع على السماء، بعض تلك القنابل المائية المتزامنة مع زوبعة كثيفة من الغبار الرملي، حطّت هناك، ليشفي شيئاً من غليلي، صياحها المجنون، الذي تسلّق سكون الأمسية وأفزع الزقاق ذلك اليوم.
في العطلة الصيفية من ذلك العام، عاد إلى توزيع الجرائد، لكنه لم يلبث أن فقد عمله في الوكالة، كان هذا بعد أيام قليلة على ترشيحه لنا أنا والبعض، لدى مدير الوكالة، أخذنا نعمل في بيع الجرائد برفقته وتحت إشرافه، وحين تم طرده، لم نبح لأحد في الحيّ بالسبب، كنتُ أكثر صدقا معه، فساومته، فأذعن صاغرا، وعمد إلى تجاهل ” مرام “، كانت تقف إلى النافذة أو تمشي صوب الشارع مشوشة وحائرة، وأمه تلح على الجميع لمعرفة السبب، ثم عادت لتغدق علينا بحلوى “الناشد” و قطع ” الملبّس “، ولكننا لم نعترف لها، بعد أسبوع واحد تملكتني رغبة جامحة بالبوح “لمرام”، أصغت إليّ باهتمام، وأنا أحكي لها بأن المسؤول في الوكالة قد ضبطه متلبسا بالسرقة لبعض مقتنيات الوكالة، وبأنه كان يدّعي مرارا إضاعة الصحف المخصصة للتوزيع، وهكذا… لكنها لم تصدقني، هزّت رأسها وقد أضمرت شيئا لم أعرفه في حينه.
فاحت بعد ذلك رائحة تشي بالمؤامرة، حتى أمي حاصرتني في زاوية الحوش، أستلت عود الرمّان ولوحت به لتنتزع مني إعترافا وقّعتُ عليه أمامها بفخر: نعم أنا والبقية من كنّا نسرق حصته من الصحف، ونحن من وضع له مقتنيات الوكالة في شنطة التوزيع، حملقت باستغراب شديد وهي تصغي، قلت لها : ليس هذا فحسب، أنا والبقية من تسبب في نقله نقلا تأديبيا من المدرسة، انا من كنتُ أورطه المقالب، وأضع الطبشور الملون في حقيبته، أنا من كان يرجمه ببالونات الماء والرمل من سطح بيتنا.. “مرام ” تعلم، كانت تلمحني فوق سطح بيتنا، ولكنها لم تخبر أحدا بذلك!
رحلت ” مرام ” برفقة أهلها إلى مكان مجهول، وللمرة الأولى كنت ألمح ” ابراهيم ” وهو ينتحب سرا، لكنني لم أشفق عليه. وحتى ذلك اليوم البعيد، الذي رافق فيه والدته وهبطا معا نحو الشارع الرئيس، حيث ودعا أهل الزقاق للمرة الأخيرة، وأنا أحتفي بضغينتي له كشيء ثمين.
إنتهى الاجتماع التربوي للآباء، مشى بيننا “إبراهيم” بقامته الممشوقة حقا، التي تبدّلت كملامحه، ونحن نغادر القاعة لنستقل سياراتنا، ونغادر، عند باب المدرسة الابتدائية، اندفع أولادنا نحونا، وأقتربت سيدة أنيقة ممسكة بيد طفل، من إبن حارتنا، إبراهيم. قال لنا في رصانة وتلك الابتسامة الصافية لا تفارقه: هذه زوجتي وأم ولدي الوحيد، درسنا، وتخرجنا من كلية الطيب معا… بربكم، الم تعرفونها؟ 
– تشرفنا … لكننا لم نعرفها!
– ” مرام” … جارتنا وإبنة حارتنا.
ثم أخرج ” ابراهيم ” من جيبه تشكيلة فاخرة من قطع الحلوى، راح يوزعها بإصرار على أطفالنا وهو يقول: هذا ولدي، دعوه يلعب معكم في ساحة المدرسة، ليس مؤذيا، خلقة الله هكذا.. فماذا نفعل؟
_______________
* قاص من الأردن

شاهد أيضاً

قصة “الظل” لإدغار آلان بو

(ثقافات) قصة الظل[1]. إدغار آلان بو ترجمة: عبد القادر  بوطالب                أنت الذي تقرأ ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *