*عصام شرتح
خاص ( ثقافات )
لا شكّ في أنَّ الشعريَّة المتألقة هي سيرورة دائمة، وحركة مستمرة؛ ورؤى منفتحة؛ وإيقاع روحاني شعوريّ داخلي عميق قبل أن يكون إيقاعاً خارجياً؛ وما من شاعرٍ متألق إلاَّ لتألقه حركة جوانيّة دائبة؛ مصطهجة، مزدحمة بالرؤى، والمشاعر، والمتراكمات النفسية؛ التي تنتج شعريَّة منفتحة؛ تمتدُّ كامتداد الأفق؛ وتتسع كاتساع الحياة، والخلق، والكون؛ تدفع بجسارتها بعيداً في ميدان التأمل، والتفكر، والاستغراق في جوهر الكينونات الوجوديَّة، والجدليَّات المستمرة؛ والشاعر جوزف حرب شاعر اختلافي ينزع إلى الإبداع؛ ليس فقط على مستوى التشكيل النصّيّ؛ وإنما على مستوى الرؤية، والأفق الشعري؛ والتطلع الدائم إلى المغايرة، والاختلاف؛ فهو يملك حساسية رؤيوية نافذة إلى باطن الأشياء؛ إذْ يستطيع أن يخلق من البساطة السرديَّة رؤية عميقة؛ ينفذ منها إلى ما يريد باقتصاد لغوي، وجسارة تصويريَّة عظيمة؛ تدهش القارئ بأنساقها المراوغة، وتدفقها العاطفي، وحسِّها المرهف، وبداعة إيقاعها؛ إذْ إنَّكَ تُحسُّ أنَّ لكلِّ جملة إيقاعاً، وفضاء تأمليًّا مُتَفَرِّداً رغم تواتر إيقاعها على المستوى التركيبي؛ وكأنَّ الجملة – لديه- صناعة فنية، وولادة جماليَّة من رحم المعاناة؛ وبداعة الحس، وعمق التأمل؛ وهذه الطبيعة الشعريَّة المتفرِّدة التي يملكها جوزف حرب تجعله شاعراً عظيماً يستحق أن يكون المُجَلَّى في ميدانِ اللغة، والحس، والتأمل، والفن الشعريّ؛ إذْ إنَّ الفن يقود كلماته، ويرسم صداها بريشة حساسة لا تزوّق الأشياء بقدر ما تخلقها خلقاً؛ فالكلمة الشعريَّة – عند جوزف حرب- تكتسب حُلَّة جديدة؛ وتلبس لبوساً جديداً لم نعهدها عند غيره على هذه الشاكلة من التوهُّج، والألق، والتدفق الشعوريّ؛ وهذا الأسلوب المتفرّد في توظيف الكلمة، وتشكيلها جماليًّا هو ما يجعله فناناً تشكيليًّا قبل أن يكون شاعراً، إنساناً نبيلاً برؤاه وأفكاره، ومواضيعه الشعريَّة، الملتقطة لتجميل الحياة، وتزويق الكون الذي شابته المغريات الماديَّة، وقتلت معالم جماله جسارة الحضارة الماديَّة الجافة بقسوتها المدنيَّة الجارفة؛ ولهذا فإنَّ الشاعر جوزف حرب انصرف إلى الطبيعة، فَعَّلَها، عاش في أحضانها، وتربَّى في كنفها؛ فكانت كلمته الشعريَّة من مدادها، وإيقاع قصائده من خفيف أشجارها، وتناغم أطيارها، وصوره من نبعها، وخرير مياهها؛ فكان شاعراً تشكيليًّا يرسم الطبيعة بريشة فنية بارعة؛ يزركشها بالألوان، ويلوِّنها بالظلال، والإضاءات، والخطوط المتداخلة، لتنتج قصائده لوحاتٍ شعريَّة تثير القارئ بصريًّا كما تثيره إيقاعيًّا وإيحائيًّا؛ وما من شكّ في أنَّ هذه الشعريَّة الاختلافيّة لابُدَّ أن تؤسس لها فضاءً شعريًّا مغايراً على مستوى الألق، والإبداع، والزخم الشعوري، والنفس العاطفي الحار، إذْ ميَّزَتْهُ من غيره من شعراء الحداثة في وطننا العربي الكبير، ليس بالتقنيات الفنيّة التي تملكها نصوصه الشعريَّة فحسب؛ وإنما بالنبض الدافئ، والشعور الداخلي، والحس الإبداعي، والتنسيق الرهيف بين إيقاع قصائده البصريّ والصوتي معاً؛ لتبدو قصائده عزفاً على إيقاع الحس الرهيف، والألق التصويري، والنبض الشعوريّ، والترسيم المشهدي الدقيق للصور الشعريَّة؛ فلا يستطيع القارئ حيالها إلاَّ الوقوف مذهولاً أمام هذا النبع المتدفق سلاسةً، ورقَّة، وعذوبة، يستميل روحه وقلبه؛ ويجذبه إليه جذباً؛ وكأنَّه توأم روحه، ينبض بنبضه، ويتنفس بأنفاسه؛ وهذه القدرة هي التي تجعله شاعراً اختلافيًّا؛ متمرِّداً على القوالب الثابتة؛ أو الأشكال الكتابيّة الشائعة؛ ليخلق لنفسه أفقاً شعريًّا متألقاً، متجدِّداً مع إشراقة فجر كل قصيدة من قصائده؛ لتحكي ولادة جديدة؛ وتبشِّر بعالم نقي خالٍ من دنس الماديّات، وصخب الحياة وضجيجها، وروتينها المميت.
وإننا في تدقيقنا واستقرائنا البحثي، تمثّلت أمامنا بعض مظاهر شعريَّة الاختلاف/ أو شعريَّة (اختلاف الاختلاف) عند جوزف حرب؛ ممثلة بالنقاط الاختلافيّة التالية:
1- اختلاف الاختلاف [اختلاف الرؤية/ والأُفق الشعري]:
ما من شكّ في أنَّ لكلّ شاعر رؤية خاصَّة به تميّزه عن غيره؛ وأُفقاً متفرداً يبثُّ من خلاله تطلعاته، ورؤاه، وتأملاته الوجوديَّة؛ والسؤال الذي يطرح نفسه أمامنا؛ كيف يتحول هذا الاختلاف إلى جسارة شعريَّة؟، وكيف يتحوَّل هذا الاختلاف إلى تميّز، وإبداع، وألق دائم؟! خاصّة وأنَّ تجارب الكثير من الشعراء متحاثية، أو متقاربة من حيث المنحى، والاتجاه العام؟…
إنَّ الشعر ليس شعوراً فحسب؛ وليس حيازة تشكيليَّة مراوغة، وليس عصفاً دماغيًّا لتوليد رؤية جديدة؛ أو فكرة جديدة؛ إنَّ الشعر الحقّ هو الشعر الاختلافي الذي يختلف ليبصم، ويؤسّس؛ لا ليحايث، ويشاكل؛وبشابه؛ ومادام الشعر – في جوهره- اختلافاً؛ فهذا يعني أنَّ رسالته مغايرة لكل ما هو سائدٌ، ومألوفٌ، ومتداول؛ ومادامت رسالته مغايرة لابُدَّ من أن تولِّد من إيقاع الاختلاف منظوراً مغايراً، ورؤية مغايرة تحرِّك عجلة الحياة، وتولّد رؤية جديدة ومنظوراً مغايراً للحياة.
والشاعر جوزف حرب شاعر حساس مدرك لأبعاد الوجود ولكينونة الحياة؛ لهذا، دائماً يختلف عن الواقع، واختلافه لا لتشويه الواقع، وإنما لإكسابه نظرة جماليَّة؛ فهو لا يكتب في برج عاجي؛ وإنما يكتب من صميم الواقع، ومأساة الحياة، والوجود؛ يكتب من أنين الجراح وعرق الكادح الفلاح، ومن جراح العمال،ومن حلم البائسين؛ ورعشة الفقراء؛ إنَّه شاعر يتلمَّس الأنات؛ ويبث – من خلالها- إيقاعات شعوريّة مرهفة، تزيد قصائده بهجة، وقشعريرة فنية، تختلف لتبدع، وتنقد لتفتح أفقاً خصباً، غني بالرقة، والمثيرات الوجوديَّة، والمعارف والمعتقدات؛ إنَّ شعريَّة جوزف حرب الاختلافية شعريَّة تنحاز إلى الألق الجمالي، رغم بساطة التراكيب أحياناً؛ واستغراقها في تكريس الجمل السرديَّة الممطوطة في بعض الأحيان؛ ولعلَّ هذا التنوُّع في تكثيف الرؤى، وتشعيرها بالإطناب والاقتصاد اللغويّ في آن؛ يجعلنا ندرك مدى هذا الأفق المفتوح الذي يُفَعِّله جوزف حرب في قصائده بين الفينة والأخرى؛ وهذا ليس بغريب على شاعر امتلك ناصية اللّغة؛ وحلّق في أجنحة الكلمات، ورسم أصداء معاناته؛عبر نفثات شعورية عميقة؛ ونبضات دفاقَّة بالحبّ والغزل الشفيف؛ كما في قوله:
“حَبْيِبِيْ سلاماً لِنَومِكِ قُرْبِي بَعْدَ الغروبِ.
سلاماً لريمَ التي زَيَّنَتْ ديرَ قلبي كغرفةِ شمعٍ ببيتِ الضَّبَابِ مُضَاءَهْ.
سلاماً مقلتاها كنيسَةُ وادٍ يُصَلِّي بها راهبانِ: ملاكٌ وَوَرْدُ
وَبَعْدُ
على الصفحةِ الأربعينَ بقلبِ كتاب القراءهْ، وبَعْدَ رسومٍ لجدولِ ماءٍ وحقلٍ من اللَّوزِ غَطَّتْ عليهِ الطيورُ، وبيتٍ لَهُ باحةٌ ذاتُ بئرٍ تُظَلِّلُهَا خوخةٌ تَحْتَها امرأةٌ تُغْزِلُ الصوفَ،
رسمٌ لبنتٍ لها لونُ عينيكِ، مجدولةِ الشعرِ مثلكِ، بيضاءَ، في وجهها الحُلْوِ أنفٌ صغيرٌ كأَنْفِكِ، ثَغْرٌ شهيٌّ كثغركِ، غافٍ وأحْمَرُ، واسْمُكِ مثل اسْمِهَا: رِيْمُ
منذُ متى تعرفينَ الذي لوَّنَ الصورَ الحلوةَ الرسمِ في الكُتُبِ المدرسيَّةِ حتَّى أحبَّكِ مِثْلِي؟!
حَزِنْتُ لأَنَّا تركناكِ في الصفحةِ الأربعينَ إلى ما تَبَقَّى لنا من دروسِ القراءةِ.
كيفَ نُخَلِّيكِ فيهَا ونَمْضي إلى الصفحاتِ التي بعدها وَحْدَنا؟!/ كيفَ كُلُّ تلامذةِ الصفِّ لم يعشقوا وَجْهَكِ الحُلْوَ مِثْلي؟!
وكيفَ يدي لم تُمَزِّقْ من النُّسَخِ الصفحةَ الأربعينَ لأحفظَ كُلَّ رُسُومَكِ عندي؟!.
ولمَّا ابْتَعَدْنا قليلاً، رجعتُ إلى الصفحةِ الأربعينَ، وقلتُ: على صفحةٍ قَبْلُ جدولُ ماءٍ، تَعَالي لِنَسْبَحَ فيه. فلم تَسْبَحِيْ.
قلتُ في صفحةٍ بئرُ ماءٍ، تعالي نُشَاهِدُ بها وَجْهَنَا. لم تَجْيِئِي. وقلتُ: على صفحةٍ حَقْلُ لوزٍ، تَعَالي نَنَمْ تحتَ لوزِ الحُقُولِ.
فَلَمْ تَتْرُكي الصفحةَ الأربعينَ. وقد كُنْتِ قبل مَجيِئي إلى الدَّيْرِ، لمَّا أُنَادِيْكِ تأتينَ مِثْلَ اليمامةِ أو غصنِ خَوْخٍ. فَهَلْ صِرْتِ بعدَ غيابي تُحِبِّينَ غيري؟.
لقد صارَ ثوبُكِ أقْصَرَ./ كَمْ تَطُولُ البنتُ في سنةٍ!/ كَمْ تُغَيِّرُ عُشَّاقَهَا حين تحيا قريباً من النَهْرِ، حَيْثُ تَظَلُّ قميصُكِ لاصقةً فيكِ من كَثْرَةِ الماء! هل تسبحينَ وحمزةَ في النَهْر؟/ من تحتِ لوزِ الحقولِ يَنَامُ بقربِكِ؟/ أيُّ صبيِّ يُعَلِّمُكِ الآنَ صيدَ العصافيرِ من بَعْدِ ما عَلَّمَتْكِ يدي صيدَ قلبِي؟/ أُقَبِّلُ ما فيكِ من خُوْخَتَيْنِ ومن ياسمينْ./ أما كان في الدَّيْرِ يَكْفِي بأنِّي طِفْلٌ حَزِينْ،/ لكي لا يَظَلَّ لَدَيَّ سِوَى صورةٍ منكِ في الصفحةِ الأربعينْ(1)
أعتقد أنَّ شعريَّة هذه القصيدة [شعريَّة اختلافيَّة] تؤسِّس حركتها الجماليَّة على تركيز الحس الشعوريّ؛/ وتكثيف الإيحاء الداخلي للتأجج العاطفي؛ برؤى تميل إلى تقريب المشهد الغرامي التذكري، المشتق من الطبيعة/ وأوصافها الجماليَّة؛ فالتراكيب الشعريَّة مبتدعة؛ في مسارها الجماليّ؛ إذْ نلحظ فيها اختلافاً نسقياً إبداعيًّا عمَّا شاهدناه عند غيره، إذْ يزاوج إيقاع قصيدته بين التمطيط الوصفي/ والاقتصاد اللّغويّ، مشعرناً إيقاعها بالتوصيف السرديّ الشاعريّ الذي يشتق مظاهر جماليَّاته من أوصافه الدقيقة ذات الانسياب العاطفي/ والتشكيل البصريّ، كما في قوله: “حَبْيِبِيْ سلاماً لِنَومِكِ قُرْبِي بَعْدَ الغروبِ./ سلاماً لريمَ التي زَيَّنَتْ ديرَ قلبي كغرفةِ شمعٍ ببيتِ الضَّبَابِ مُضَاءَهْ./ سلاماً مقلتاها كنيسَةُ وادٍ يُصَلِّي بها راهبانِ: ملاكٌ وَوَرْدُ/ وبَعْدُ” إنَّ هذه الشعريَّة النسقية اختلافيَّة في منحاها/ شاعريَّة في إيحائها؛/ تفجر المداليل الكامنة التي تستشرف آفاق الحس الجمالي؛ كما لو أنَّ تزييح اللّغة/ والترسيم الجمالي في تشكيلها يقود الجمل/ ويرسم وميضها الإيقاعي/ وحسها الرومانسيّ؛ فالطبيعة تنبض في شعره بألق تصويري؛ وكأنَّها تلتف بالقارئ من حيِّز البساطة/ والسرد التوصيفي السهل إلى حيِّز القصّ التصويري المغرق في التجسيد والتحديث البصريّ للأنساق التشكيليَّة؛ وقد كان الناقد علي جعفر العلاَّق محقاً فيما ذهب إليه من أنَّ النصَّ حركة للروح/ وقشعريرة لتحفيز الإبداع، إذْ يقول: “إنَّ الدعوة إلى الاهتمام بالنصّ لا تعني إهمال كلِّ شيءٍ يقع خارج العمل الشعريّ أو الأدبي، وإلاّ لأبْطَلْنا الطابع الإنسانيّ لذلك العمل. إنَّ ما تعنيه تلك الدعوة هو أننا لا نأتي النصّ مدفوعين بضغوط الواقع ونداءاته؛ بل تعني عكس هذا الاتجاه تماماً؛ أنْ نندفع بقوة النصّ إلى الحياة….إنَّ عزلة النصّ، وهي ما يدعو إليه بعض نقَّادنا الجدد، تفتيت لحيويته، وإفساد لجدارته بالحياة. ولاشكَّ في أنَّ عزلة كهذه تسقط الفارق الهائل بين الإبداع والعبث. وتحوِّل النصّ الشعريّ إلى تمرينات لفظيَّة؛ أو كلام يمضي مسرعاً صوب نهايته دون أن يخلف رجفة في الروح، أو بللاً في الذاكرة”(2)
لاشكَّ في أنَّ الرجفة الفنِّيّة، أو القشعريرة الشعريَّة هي ما تولِّده شعريَّة جوزف بإيقاعها الاختلافي، أو تشعيرها اللاّ متوقع لحيِّز الرؤية، والأنساق التشكيليَّة المراوغة؛ فتراه في كل المساقات التشكيليَّة شاعراً اختلافيًّا يخلق الدهشة؛ ويولِّد الإثارة، كما في قوله:
“ليتَ اللهَ فيَّ لكي أُعِيْدَكَ مثلما تشتاق روحي أنْ تُعِيْدَكَ./ غيرَ أنِّي لستُ أملكُ غير طينٍ كُلُّهُ ألمٌ/ وماءٌ كُلُّهُ دَمْعٌ./ فَكَمْ هو مُؤْلِمٌ أنِّي أُحاولُ أنْ أعيدَكَ عندما لا تستطيعُ أكفُّ شوقي أنْ تعيدكَ يا أبي، إلاَّ بجسمٍ لا أُحبُّكَ فيه./ غِبْ جسداً/ وظَلَّ أمامَ عينيْ صُوْرَةً./ واتْرُكْ لآلامي ودمعي أنْ يَكُوْنَا في يدي طيناً وماءً لا يَخْلقِكَ من جديدٍ؛ بَلْ لأصنع منهما جَسَدَ الكآبةِ في غيابِكَ،/ واْئتِ في الأشياءِ/ واذهبْ في الجَسَدْ./ للآنَ لم تَمْلِكُ من الأشياءِ رُوحِي غير صورتِهَا./ سأبقى هكذا./ فأنا الغنيُّ بصورةِ الأشياءِ./ لم تَمْلِكْ حياتي مرَّةً بيتاً، ولكن صورةً للبيتِ./ لَمْ أَملِكْ بيومٍ غيمةً في الأرضِ، ولكنْ صورةً للغيمِ/ فالأشياءُ أملكُ شكلَ صورتِهَا وأخسرُهَا جَسَدْ./
لا شيء قد أحببتُهُ وَوَجَدْتُهُ يوماً بِكَفِّي، منذُ ما قَدْ كُنْتَ أنْتَ أنا؛ وكُنْتُ أنا وَلَدْ./ فتعال بالأشياءِ واذْهَبْ/ لا شيءَ إلاَّ كانَ في جَسَدٍ، وأصبحَ بَعْدُ زيتوناً ومَوْجَاً./ إنْ مَضَى جَسَدٌ تحوَّل بَعْدَهُ الزيتونُ تمثالاً لَهُ؛ والموجُ أصبحَ صوتَهُ./ لا تَقْطَعُوا الزيتونَ، لا تَمْحُوا حفيفَ الموجِ، هذا ما تَبَقَّى من أبي./ لا قبرَ للزيتونِ أو للموجِ قبل مجيء قبري./ والذي يرثُ القليلَ من الشموعِ أمام هذا الليلِ يَحْتَمِلُ السوادَ./ وذكرياتُكَ عن وجوهِ الغائبينَ أحَبُّ من نسيانِهِمْ. لابُدَّ من أنْ نرتَدِيْ حتَّى الذي رَثَّ من أشجارنا في الريحِ./ لا شُطْآنَ يأتي مَوْجُهَا إلاَّ ويمضي. يا أبي،/ يا مَنْ أتَى، وَمَضَى، وبالكونِ اتَّحَدْ،/ فَتَعَالَ في الأشياء..واذهبْ في الجسدْ”(3) .
إنَّ جماليَّة القصيدة تكمن في حيِّزها الاختلافي لإثارة ألقها الجمالي؛ فالشاعر يرثي والده رثاءً حميميًّا، فيه من الشاعريَّة، والسلاسة السرديَّة، والهندسة التشكيليَّة؛ ما يجعلنا نؤكِّد تفعيله الشاعري لمختلف المساقات؛ والرؤى، والاتجاهات؛ فالقصيدة تنبض بالعاطفة الإنسانية الشفيفة؛ والحرص على خلق المشاهد بإيقاعيَّة تصويريَّة تتضافر فيها جلَّ المقوِّمات لإنتاج شعريَّة متفردة، شعريَّة تنطلق من حيِّز البساطة، وتمُّدُ جسورها لترتقي سلمّ الإثارة،والدهشة، والإبداع؛ فلو تأملنا هذا القول: “لَمْ أَملِكْ بيومٍ غيمةً في الأرضِ، ولكنْ صورةً للغيمِ/ فالأشياءُ أملكُ شكلَ صورتِهَا وأخسرُهَا جَسَدْ./ لا شيء قد أحببتُهُ وَوَجَدْتُهُ يوماً بِكَفِّي، منذُ ما قَدْ كُنْتَ أنْتَ أنا؛ وكُنْتُ أنا وَلَدْ””؛لوجدنا تكامل الشعريَّة من تكثيف هذه الشعور العاطفي، والرهافة التشكيليَّة في تضافر الإيقاع الباطني العاطفي مع الإيقاعي الخارجي الفني التشكيلي، لإثارة القشعريرة الفنيَّة، أو الهزَّة الشعوريَّ إزاء هذا النسج الفني رغم إيقاعه السردي التوصيفي البسيط؛ الذي ينمّ على بساطة في الرؤية؛ ووضوح في المدلول؛ ويُعَدُّ هذا التنويع في الأسلوب الشعريّ من حيِّز التشكيل الفني إلى حيِّز البساطة السرديَّة؛ تتماشى وحركة نصوصه الشعريَّة؛ مما يجعله محلِّقاً في سماء الفن، والقدرة المباغتة في جلّ المساقات حتى ولو كانت المواضيع بسيطة، والرؤى سهلة واضحة؛ وهذا الأسلوب ينمّ على شاعريَّة جسورة، قادرة على إثارة الحراك الفني للوصول إلى نقطة التلاقح الروحي، أو التماس الروحي بين القارئ والنصّ الذي يقود إلى جوانية المبدع؛ فنقطة اختلافه هي – إذن- نقطة تميّزه؛ وهذه النقطة تكمن في تشعير الرؤية من جهة، وانفتاحها وتدفقها الإيحائي المستمر من جهة ثانية.
2- اختلاف الاختلاف [اختلاف البناء/ وتشكيل المشهد]:
إنَّ الشعريَّة المتألقة ليست شعريَّة ثابتة البناء؛ أو مقولبة بقوالب محدّدة، بمقاسات معينة، وأبعاد ثابتة؛ وإلاَّ أصبحت الشعريَّات متواترة، ومحدَّدة بمعايير منضبطة؛ وتقنيات محدَّدة تسدل صرامتها على النصوص؛ فتفقدها بريقها؛ ولذا؛ فإنَّ الشعريَّة المنفتحة هي شعريَّة مغايرة شكلاً؛ ومعنى؛ تحايث عالماً مبتكراً، عالماً حرًّا فسيحاً ممتداً كامتداد الفضاء الوجوديّ لعالمنا المعيش؛ وكُلَّما حلَّق الشاعر في هذا العالم كُلَّما تفتقت أمامه أفق جديدة؛ ورؤى منفتحة ترى ما لا يراه الآخرون؛ وترسم العالم بألوان وأصداء جديدة؛ والشاعر جوزف حرب يدرك أنَّ الشعريَّة هي زخم شعوريّ، وومضٌ عاطفيّ متدفق، يفيضُ فجأة كبحيرة ساكنة/ أو ينفجر كبركانٍ مصطهج، ولمَّا كانت الشعريَّة الحداثية – أساساً- شعريَّة المغايرة والاختلاف فإنَّ الانجذاب إليها هو الانجذاب إلى حاجة شعوريَّة داخليَّة تنبثق من الصراع الداخلي بين الذات والآخر؛ والواقع والخيال، وما من شاعرٍ على الإطلاق يملك بذور الشاعريَّة الأصيلة إلاَّ ولديه هذه الشرارة المتقدة التي تفجر فاعلية هذه المغايرة والاختلاف؛ لإنتاج نصّ شعري متميز؛ نص يحمل في باطنه شرارة الإبداع، ودهشة التنامي الجمالي، والتكثيف الإيحائي؛ ليحدث التلاقح الروحي بين المبدع والمتلقي بواسطة قناة الاتصال الوحيدة التي ندعوها [النصّ الأدبي]؛ وكلّما كانت هذه القناة مغايرة في أنساقها؛ جديدة في مسارها، وتشكيلها النصيّ كلّما جذبت إليها المتلقي، ودفعته إلى المغامرة في اكتشافها من خلال فضائها، وتفكيك شيفراتها؛ لتحقيق المتعة؛ في التلقي، واللذّة في التأويل، والاكتشاف؛ ولعلَّ ما يحفز نصوص جوزف حرب هذا الإيقاع الاختلافي في تشكيل نصوصه، ومشاهده الشعريَّة؛ لتبدو مبتكرة في مسارها، وفضائها التشكيلي الكاليغرافي على بياض الصفحات.
وتُعَدُّ قصائد جوزف حرب مثالاً فنيًّا يُحْتَذَى في التشكيل النصيّ، فقصائده متغايرة في منحاها التشكيلي، وبنائها المعماري؛ من خلال جماليَّة النسق الشعري المجسد، إذْ ترسم الجملة منحاها النفسي الذي يخرج من ذاته الحساسة، بدفء اللحظة الشعوريَّة الحساسة؛ وألق النبض الشعوري الدافق؛ فتتضح أبعاد القصيدة بتشكيلها الكتابي على بياض الصفحات الشعريَّة، كما في قوله:
“ذاتَ يَوْمٍ،
سأَلتني الرَّاهِبَهْ
في الدَّيْرِ:
أينَ بَيْتُكُمْ؟
من بَعْدِ ما أخبرْتُها بأنَّ هذا الزيتَ في السراجِ ليس صافياً./ لو تُشْعِلينَ عند
تمثالِ المسيحِ:
زَيْتَنَا.
قلتُ لها:زُوْرِي برفقتي البيوتَ كُلَّهَا فأيُّ بيتِ، عندما نخرجُ مِنْهُ، تسقطُ الدمعةُ من جفني على
طريقِهِ، يكونُ بيتنا(4).
يعتمد الشاعر الفضاء الكتابي ميداناً للتعبير عن شعوره الداخليّ؛ ليأتي التعبير عن مدارك الذات النفسية، مرتبطاً بالفضاء الكتابي، وبتوزيع الكلمات والأسطر الشعريَّة توزيعاً يتناسب مع الموجة الشعوريَّة المكثفة من خلال حواره مع الراهبة؛ ليأتي المشهد تصويريًّا، كاشفاً عن شعوره، وحنينه إلى منزله الذي غادره؛ فترك هذا المنزل بصمة في داخله؛ وأنَّةً صامتةً تبثُّ حزنها من خلال هذا السطر المطوّل الذي يشي بموجة شعوريَّة عميقة، وحس تحناني غريب، كما في قوله: “زُورِي برفقتي البيوتَ كُلَّهَا، فأيُّ بيتٍ، عندما نخرجُ مِنْهُ، تَسْقُطُ الدمعةُ من جفني على طريقِهِ يكون بيتنا”؛ والملاحظ أنَّ الشاعر يرسم حسّه الشعوريّ عن طريق توزيع الكلمات؛ بشكلها النفسي الذي تخرج منه في باطن الذات؛ ولعلّ ما يؤكِّد ذلك أنَّ قصائده مكتملة فنيًّا؛ فلا تلحظ في قصائده تجييراً لجملة، أو قصراً؛ أو نشوزاً، أو انقطاعاً في الدلالة؛ وهذه السمة سمة القصائد الفنيَّة العالية المستوى التي يقول فيها الناقد علي جعفر العلاَّق ما يلي:
“إنَّ القصيدة الحقَّة، أو النصّ المكتمل، ليس جهداً شكليًّا محضاً، خالياً من دفء الذات؛ وليس حشداً من المفرداتِ المرصوفةِ بعناية؛ بل هو مغامرة الروح، وهي تبتكر، في اللغة وفي اللغة، كياناً حسيًّا لعذابها الوارف، أو انتصارها العصيّ على التحقق. إنَّه لغة تَنْضَحُ بما تَشْتَمِلْ عليه الذات المبدعة من مرح، أو حيرة، أو تماسك. لذلك؛ فإنَّ تقنيات الشعر لا تأتي على حساب هذا المخزون الروحي المحتدم. ومن أبرز البراهين على اكتمالِ الموهبة قدرة الشاعر على توظيف هذه التقنيات، والاجتهادات الأدائيَّة لتكون في خدمة رؤياه، وهو يكشف عن ينابيعِ روحه الفوَّارة بالرؤى والانفعالات”(5).
والمثير – حقَّاً- في تجربة جوزف حرب أنَّها دائماً تملك توثبات روحيَّة؛ وقدرة تصويريَّة تنسجم مع الألق الروحي؛ بشكلها الكتابيّ على منحنيات النسق الشعريّ المُجَسَّد لتجربته؛ بمعنى أنَّ إيقاع قصائده الكتابي إيقاع اختلافي نسقي منزلق، أو متغاير؛ لا يستطيع القارئ أن يحدِّد سيرورة الأنساق؛ إذْ إنَّها دائماً تنساب مع نفثه الشعوري؛ لهذا، تتشعب رؤاه تبعاً لتشعب مثيرات الزخم الشعوري التي تنبث في محاور القصيدة كلها على الإطلاق؛ من دون أن تترك للقارئ ثغرة، أو هَنَّة تشكيليَّة، أو سقطة إيقاعيَّة، أو لغويَّة؛ وهذا يدل على اكتمال موهبته ونضجها؛ ويناعة ثمارها المعطاءة؛ فهو يوزِّع أسطره الشعريَّة توزيعاً فضائياً، معزِّزاً لرؤية القصيدة، وتناميها الجماليّ، انظر إلى هذه الرقِّة، والتلاؤم الجماليّ في توزيع الأسطر الشعريَّة في قصيدته الموسومة بـ “نبي”؛ إذْ يقول فيها:
“هَلْ… أنا الطِّفْلُ الذي قالُوا: فمي تفاحةُ الوقتِ؛
وبيتُ الغيمِ في الأُفقِ
جَبِيْني؟
وَيَدِي راعٍ
يسوقُ الأرضَ تَرْعَى ورقَ الشمسِ،
وأعشابَ السنينِ؟
وغداً
عرشي ترابٌ. وعلى رأسيَ
أوراقُ كُرومٍ. وملاكُ القمحِ خُبْزٌ عن يساري،
وملاكُ العِشْقِ
وردٌ عن يَمْيِنِي؟
وسأُلْغِي ببيانٍ أبيضٍ أسلحةَ الدُنْيَا.
وأبني للذينَ اشْتَغَلُوا فيها، بيوتاً
تُنْتِجُ الأحذيةَ الزرقاءَ للأطفالِ، والحَلْوَى،
وماءَ الياسمين؟
فلماذا عندما أعْطَيْتُ عن مائدةِ الديرِ رغيفاً لفقيرٍ صلبوني؟”(7).
إنَّ توزيع الأسطر الشعريَّة بفضاءات بصريَّة؛ تؤكِّد مدى تلاعب الشاعر بالفضاء الكاليغرافي النصّيّ؛ لتبدو القصيدة ذات مسارب دلاليَّة متعدِّدة؛ تبث إيقاعها الشعوريّ النفسي من خلال توزيع الكلمات وتنسيق أبعادها، تبعاً لنفثاته الشعوريّة المبثوثة من أعماقه؛ إذْ يفاجئنا الشاعر – دائماً- بألق جمالي من خلال تشكيل القصيدة؛ وهندستها بأشكال كتابيَّة تفرض أنساقها الجماليَّة على القارئ؛ وتفاجئه من حيث لا يحتسب، فما أجمل هذا التآلف الإيقاعي في نهاية الجمل التالية: [الياسمين- السنين-( جبيني- صلبوني)]”؛ خاصَّة عندما بثّ نفثاته الشعوريّة دفعة واحدة في ختام القصيدة، مكثفاً أبعادها الجماليّة؛ ومثيراتها النفسية: “[فلماذا عندما أعْطَيْتُ عن مائدةِ الديرِ رغيفاً لفقيرٍ صلبوني”]؛ إنَّ ما يميّز إيقاع قصائد جوزف أنها دائمة تخترق الألفة البسيطة؛ لتحقق رسمة جماليَّة؛ أو لقطة ومضية ساحرة؛ تبهر القارئ بصريًّا؛ وتوقظ فيه قشعريرة الّلذة، أو قشعريرة الإيقاظ والالتفات والتفكر حتَّى ضمن قصائده التي يغلب عليها الإيقاع السرديّ القصصي؛ وهذه الشعريَّة الاختلافية التي تسعى إلى الاختلاف التشكيلي، وخلق الّلذة في المسار السرديّ قلَّما اتجه إليه الشعراء المعاصرون؛ إذْ إنَّ جلّ اهتمامهم كان منصبَّاً حول بداعة الصورة، ونقل المشهد، وترسيم الحدث الشعريّ بدقة للمتلقي؛ ونسوا جانباً مهماً من جوانب الشعريَّة، وهي الشرارة التي توقظ القارئ؛ وتدفعه إلى تأمل الطابع السرديّ بعين ثاقبة وذهنية متقدة؛ خاصّة عندما يمطط الشاعر في جمله، ويستقصي في تتبع جزئياتها وتفاصيلها الصغيرة؛ وتأسيساً على ذلك، يمكن القول: إنَّ شعريَّة جوزف حرب مغايرة للمألوف بأنساقها البنائيَّة، وتشكيلها الفني الكاليغرافي للمشهد الشعريّ تشكيلاً يعتمد الومضة الخاطفة، أو الصورة الشرارة التي تترك بريقها الخاطف، لتدفع المتلقي إلى ممارسة ضغطه على النصّ؛ لتفكيك شفراته، والتفاعل مع بؤرة الرؤية المجسدة للقصيدة.
3- اختلاف الاختلاف [كينونة وجوديَّة/ وألق دائم]:
لاشكَّ في أنَّ الكثير من التجارب الشعريَّة لا تحقق كينونتها الوجوديَّة؛ أو هويتها الإبداعيَّة؛ بسبب اندغامها بالتجارب الأخرى أو محايثتها للتجارب الأخرى بشكل مباشر؛ أو تأثرها بالتجارب الأخرى لدرجة التماثل أو التطابق التام، بالأسلوب، والمنحى الشعريّ العام؛والاتجاه والمواضيع والمعاني والرؤى والدلالات وكأنها نسخة أخرى ولهذا؛ تبقى مثل هذه التجارب ضحلة، عديمة الفائدة، رغم السيط الإعلاميّ القويّ الذي تأخذه تِلْكُمُ التجارب من قبل تُجَّار الكلمة، والإعلام؛ لترويح تيار شعريّ؛ أو أسلوب شعريّ متبع؛ أو شعريَّة غوغائية زائفة ما هي إلاّ مجرّد تكرار لتجارب سابقة؛ بقوالب متجدّدة؛ أو رؤى مستمدة من تجارب متميزة عظيمة؛ بغية إكساب شرعيتها الأدبية، أو الشعريَّة؛ والشعريَّة الحقَّة – من منظورنا- هي الشعريَّة الاختلافية التي تشكل بصمتها على جدار الزمن؛ دون أن تحايث أحداً إلاّ ذاتها؛ ولا أعني بذلك أن تنقطع التجارب عن بعضها بعضاً انقطاعاً تاماً؛ وإنما أعني أن تستشف التجارب الأخرى، استشفافاً، بحيث يكون التأثير خفياً، أو غامضاً لا يكاد يبين؛ وإلاّ غدت هذه التجربة نسخة مصغرة، لتلك تماماً وكأنها صورة فوتغرافيَّة؛ وهذا يؤخِّر القصيدة، ولا يرتقي بها؛ بل يزيدها تحجراً، وجموداً، وعزلة عن التطور، والتنامي الجمالي.
وما من شكّ في أنَّ الشاعر جوزف حرب قد أضفى على قصائده طابعاً جماليًّا؛ باختلافه النسقي، وتشكيله لكينونة نصّيَّة مبتكرة جديدة، أو هوية شعريَّة متميزة؛ فالقصيدة – لديه- ليست كشفاً إيحائياً مباشراً، ووضوحاً سرديًّا بسيطاً؛ وإنما هي سيرورة دائمة، وألق مستمر؛ إنها نبع جماليّ يستقي جلّ معالمه من الطبيعة؛ والأنثى، وصراع الوجود بين ثنائية [الجسد/ والروح]؛ و[الواقع/ الخيال أو الحلم]؛ لهذا، نجده دائماً في حركة، وتطور، وانفتاح؛ ابتداءً من أول إصدارته؛ وهو ديوان “زهرة الأكاسيا”، وانتهاءً بآخر إصدارته، وهو ديوان “أجمل ما في الأرضِ أن أبقى عليها”. والمثير – حقاً- أنَّ نزوعه الإبداعي نزوع دائم في كل قصائده إلى التجديد في معالم القصيدة على المستويات كلها؛ فلا نجد قصيدة مشتتة ذهنياً، أو قصيدة فضفاضة الرؤى غير مهندسة فنياً، أو مرتسمة تشكيليًّا بأنساق ساذجة بسيطة؛ بل نجد أنَّ الأنساق اللغويَّة متفاعلة، لترسيم هيكليَّة نسقيَّة، غاية في التفاعل، والتنامي، واللّذة التصويريَّة؛ رغم بساطة اللغة السرديَّة أحياناً؛ نظراً لتتابع التوصيفات السرديَّة في لغة القص الشعريّ، على نحو ما نلحظه في قوله:
“رَغْمَ أنَّ اللَّوْحَ مثل السهلِ أخْضَرْ،
والطباشيرَ أراها دائماً قطْعَةَ سُكَّرْ.
رَغْمَ أنْ لا شيءَ في الصفِّ خريفيٌّ وأسود،
كُلَّما قالتْ لي: اصْعَدْ، أتصوَّرْ: أنَّهُمْ قد فتحوا البابَ قُبَيْلَ الفجرِ، سَلَّمْتُ مديرَ السجنِ مكتوباً لأُمي.
أقبل الكاهِنُ. صَلَّى فوقَ رأسِيْ.
ألبسوني وأنا أبكي قميصاً أبيضاً للموتِ.
قادوني منهاراً كماءٍ.
كُنْتُ أمشي. جسدي ظِلٌّ نحيلٌ، شَفَتِي كُحْلِيَّةُ اللّون، ذراعي وردةٌ في الشمسِ، قلبي رَقْصُ زنجيٍّ أمامَ الزَّرْعِ. وجهي قَمَرٌ في الغيمِ يَعْرَقْ.
ليت أُمِّي الآنَ قُرْبي،
ليتني أُصْبِحُ عصفوراً، هواءً.
ليتَ هذا الشجرَ العاري في السهلِ يراني أخضراً.
ليتَ سماءَ الفجر تمتصُّ دَمِي: أصْفَرَ للشمسِ، وللآفاقِ أزرقْ. غير أنِّي، خطوةً بَعْدُ، وأُشْنَقْ”(8)
إنَّ هذه السلاسة السرديَّة التي يرتقي فيها الشاعر حيّز البساطة السرديَّة، إلى الأناقة التصويريَّة، والترسيم التخييلي للمدركات البصريَّة؛ تجعله شاعراً اختلافياً بامتياز؛ وهذه الاختلافية تسعى إلى تحديث النصّ والرؤية معاً؛ وتغيير المنظور السائد للقصيدة من منظور السقسقة بالمفاعلات اللفظية، والمجاذبات الإسناديّة إلى منظور الخلخلة الرؤيوية، والتكريس المتتابع للإسنادات الفجائية المغايرة؛ على نحو تدفع القارئ إلى التأمل في مداليل الانزلاقات اللّغويّة الفنيَّة العالية، كما في قوله:” كُنْتُ أمشي/ جسدي ظِلٌّ نحيلٌ، شَفَتِي كُحْلِيَّةُ اللّون، ذراعي وردةٌ في الشمسِ، قلبي رَقْصُ زنجيٍّ أمامَ الزَّرْعِ/ وجهي قَمَرٌ في الغيمِ يَعْرَقْ”؛
والملاحظ أنَّ شعريَّة جوزف حرب – في جلّ قصائده- شعريَّة تأمليّة استبطانيَّة لما خلف الرؤى البصريَّة المجسدة؛ إنَّ شعريته شعريَّة حلميَّة، تُحَلِّق بأجنحة الكلمات، وتجوب فضاءً ما ورائيًّا غير مدرك، على الرغم من أنَّ عناصر هذه الشعريَّة لا تنفصل عن جراح الذات وصدامها مع الواقع المحيط؛ فالشاعر مسكون بالهاجس الحلمي للتحليق في الفضاء الجمالي الرحيب، لكسر قيود الروتين، وهاجس الواقع الرديء؛ فصوره الشعريَّة – على اختلاف مشاربها- وإن جسدت الواقع، وحايثته بصريًّا فإنها تنأى عنه روحياً؛ وتسعى إلى تأسيسه جماليًّا؛ فعلى الرغم من تأطير قصائده للمآسي، والفقر، والجراح، والدموع، والأحزان؛ فإنها تسعى جاهدة إلى خلق عالم حلمي [ما ورائي]؛ يزوّق فيه الرؤى؛ لتطغى في قصائده النزعة الجماليَّة المرتسمة رسماً، دقيقاً،وفق ما أسميناه بـ [الصور الرومانسيَّة الشفَّافة.. والأنساق التركيبيَّة ذات الرهافة الشعوريَّة]؛ والأنويَّة الضبابية المنصهرة في الآخر، كما لو أنَّ الذات – لديه- غيريَّة يتحدَّث عنها بضمير الغائب؛ لتغدو – لديه- الذات وكأنها ذات ضبابيَّة، أو ممزوجة بإيقاع الجسد المتلاشي، كتلاشي الأشياء، وتذويب كينونتها الوجوديَّة؛ فالكينونة الوجودية – عند جوزف حرب- ليست كينونة نرجسيَّة، وليست كينونة متعالية؛ إنَّها كينونة إنسانيَّة شفافة، تسعى إلى أنسنة الأشياء، وبث المشاعر الإنسانيَّة فيها؛ لخلق حالة من التواؤم بين شفافية الذات، وشفافية الآخر؛ بمعنى أنَّ كينونة الذات -عند جوزف – كينونة جماليَّة- إن جاز التعبير- تسعى إلى تزويق الآخر وتجميله، وتزويق المكان وترسيمه، وتزويق الأشياء لإثارة جمالها؛ لا لمجرد شعرنتها فحسب؛ وإنما لخلق الحس فيها؛ وإدراك ما وراءها من خفايا، ومدركات؛ فالكينونة – عند جوزف حرب- كينونة شعوريَّة مرهفة تسعى إلى تأسيس الآخر، وبنائه إنسانياً؛ لهذا؛ تطغى شعريته شعريَّة الحلم، أو تأسيس شعريَّة حلم الحلم، أو ما وراء الحلم؛ أي تِلْكُم الشعريَّة التي تسعى إلى الاستغراق في الأشياء، لإدراك كنهها، ومثيراتها الوجوديَّة؛ لتلمس مظاهر الصفاء المطلق؛ وخلق الوجود بعين جماليَّة؛ تصوِّر الواقع، لا لتعايشه فحسب؛ وإنما لترتقي به إلى عالمٍ فسيح غير مقيد بالجراح والآلام؛ يقول جوزف حرب في قصيدته “الأهل” ما يلي:
“وعِنْدَمَا عُدْنَا مِنَ الجنازةِ الغيمةُ لفَّتْ في حدادٍ جَسَدَ القَمَرْ.
وغَيمةٌ ثانيةٌ تَجَمَّعتْ فوق الضريح في أسًى، وانهمر المَطَرْ.
ومن بَعِيْدٍ في البَرَارِي لوَّحَ الشَجَرْ.
والحجرُ القاسِيْ لعلَّ دَمْعَهُ خَلاَّهُ هفًّا، ليِّناً، ولم يَعُدْ حَجرْ.
لا عُشْبَةٌ إلاَّ انحنتْ أكْثَرَ
لا عصفورةٌ إلاَّ وَغَصَّ، صَوْتُهَا، لا غُصْنَ إلاَّ اصْفَرَ وانكسر
وعندما جاءَ المساءُ، مُعَزِّياً مع الشتاءْ،
كانَ الجميعُ/ من يمامٍ، أو عريشٍ كانَ زيتونٌ، وَتِيْنٌ، ناحلٌ، وماءْ،/ كانَ الجميعُ مَعَنَا في مجلس العزاءْ”(9).
إنَّ الحركة النفسيَّة الهادئة في ترسيم المشهد الجنائزي؛ يبيِّن ألق الصور، وحسها الجمالي المرهف؛ فالشاعر لا يؤسِّس الحركة الجنائزيَّة على إشاعة السواد والحداد المطلق؛ بل يحاول الشاعر إشاعة لون من الحركة في عناصر الطبيعة؛ لتشاركه حزنه وألمه بوفاة والده؛ وهذه العاطفة لها رؤية تخفي حزناً عميقاً، وألماً صامتاً ممضاً يطال الروح لا القلب والجسد فحسب؛ لهذا، جعل الطبيعة الصامتة والمتحركة من شجر وغيوم وحجر وطيور تشاركه حزنه أسًى وألماً على فراق والده، وهذا ما تبدَّى في قوله: “لا عُشْبَةُ إلاَّ انحنتْ أكْثَرَ/ لا عصفورةٌ إلاَّ وَغَصَّ، صَوْتُهَا، لا غُصْنَ إلاَّ اصْفَرَ وانكسر”؛ إنَّ شعريَّة هذا التجسيد والأنسنة تبعث الحركة في الصور الشعريَّة، وتبعث الإحساس والشعور الداخلي لما يعتصر ذاته من تفكر، وأسًى وحزن؛ لعلَّ الطبيعة تخفف مصابه بمشاركتها إيَّاه أحزانه وأتراحه المؤلمة. ولو دققنا في مثيرات قصيدته “الوحشة”، لتبدَّى لنا هذا الشعور الإنساني الذي يخترق حاجز الرؤية البسيطة إلى التأمل العميق والحس الجمالي المرهف، رغم مظاهر الحداد والأسى المطلق الذي يغلِّف الصور، كما في قوله:
“وأُنَادِي!
كَمْ مُرِيْحٌ أنْ تُنَادِيْ يا أَبيْ المَوْتَى، وإنْ لم تُشْعِلِ القنديلَ في الليلِ، ولم يَنْشَقَّ بابُكْ.
وأُنادِيْ، ونِدَائِيْ ما صَحَا إلاَّ وقَدْ نامَ جوابُكْ.
يا لهذا العُمْرِ ما أَقْصَرَهُ!
يَبْلَى سريعاً قبلَ أنْ تَبْلَى ثيابُكْ.
لم يَكُنْ أشْهَى لَدَى كفَّيَّ لمسُ الشمسِ من لَمْسِكَ. لَكِنْ، ليس عنديْ يا أبي حتَّى تُرَابُكْ أهِ، كَمْ قاسٍ على قَلْبِيْ عذابُكْ.
أنْتَ تدري أنَّ هذا الشوقَ ذَنْبٌ.
كُلَّما ازددتَ اشتياقاً للذينَ ارْتَحَلُوا ازدادَ عقابُكْ
عندما أجْلِسُ في البيتِ وحيداً، دائماً أشْعُرُ أنَّ البابَ مفتوحٌ لكي تَدْخُلَ. لَكِنْ منذُ ما أصبحتُ وَحْدِي، لم يَجِيءْ إلاَّ غيابُكْ”(10).
إنَّ هذه الاستعارات الجماليَّة التي يخلقها الشاعر تزيد من طابعها الإيحائي وحسها الشعوريّ المرهف [نام جوابُكْ] [لم يَجِئْ إلاَّ غيابُكْ]؛ إنَّ هذه الرقَّة والشفافية المتناهيَّة؛ تبعث القارئ على التعاطف الروحي مع الشاعر؛ كما لو أنَّ مصاب الشاعر مصابه؛ وفقيد الشاعر فقيده؛ فالشاعر ما أراد بهذا الأسلوب مجرَّد التعبير عن حسه الشعوري الداخلي؛ بقدر ما أراد أن ينقل صورة الداخل إلى الخارج لتصنع نصًّا مكتنزاً رؤيا، وعاطفة،جمالاً، وأناقة شعريَّة؛ إذ يقوم الشاعر برسم الجملة عاطفياً بهالة شعوريَّة صامتة، تبث ألقها بحزنٍ شفيف ورهافة شعوريَّة نادرة، كما في قوله: “عندما أجْلِسُ في البيتِ وحيداً، دائماً أشْعُرُ أنَّ البابَ مفتوحٌ لكي تَدْخُلَ. لَكِنْ منذُ ما أصبحتُ وَحْدِي، لم يَجِيءْ إلاَّ غيابُكْ”؛ إنَّ هذا الترسيم الشعوري الجماليّ الهادئ يؤكِّد جماليَّة الهدهدة الرومانسيَّة وعمق التأمل في خضم حداده ومآسيه وجراحه المؤلمة؛ وهذا الهدوء الجمالي في ترسيم مشاهده الشعريَّة، يزيده ألقاً وتميّزاً؛ فالطابع الهيجاني الفوَّار يفقد الكثير من الصور جمالها، وألقها الشاعري المثير؛ إذْ إنَّ الشاعر بهذا الهدوء الشاعريّ يخلق شاعريَّة جماليَّة هي شعريَّة الهمس الداخلي الحزين؛ التي ترسم المشهد بروحانية اللحظة الحاضرة، وألق التأمل العميق بالأشياء؛ فيحركها بالأنسنة حيناً، وبالألق التأملي الشاعري حيناً آخر، ليخلق منها لحظة اللذة، بالتنفيس المطلق عن مكنون بمعزلٍ عن حالة الهيجان والفوران العاطفي، أو بعيداً عن دائرة الصخب اللفظي الذي صخب لفظي يمزِّق رومانسيّة الصورة أو طبيعة المشهد الشعري المجسد، لينساب المشهد انسياباً تأمليًّا وبإيقاع بطيء ينساب كخرير الماء الهادئ؛ أو كألحان الينابيع، وزقزقة الطيور في إشراقِ يومٍ صباحي مطير.
واستناداً إلى ذلك، يمكن القول: إنَّ إيقاع قصائده الاختلافي الذي ينزع إلى الترسيم الشعوري الدقيق، لخلق كينونة وجوديَّة شاعريَّة ذات منحى تأملي يزيد قصائده فاعلية، وقدرة على المباغتة الجماليَّة؛ لتبدو قصائده دائماً مغايرة للمألوف حتى في خضم توترها النفسي وقلقها الشعوري، مما يدل حقيقة على شعريَّة متألقة، تسعى إلى عكس الباطن على الخارج؛ لتبدو القصيدة نفثة شعوريَّة من نفثاته الهادئة؛ التي تخفي وراءها تأملاً عميقاً، وحساً جماليًّا مفرطاً بتمظهر الأشياء واعتصار مداليلها التي تحيط بالمشهد؛ وتعمق سيرورة الرؤية، وإيحائها في ذهن المتلقي؛ لتأخذه إلى خضمها بشعور انسيابي شاعري عميق.
4- اختلاف الاختلاف [تَوَهُّج عاطفي/ وتدفُّق شعوري مستمر]:
إنَّ الشعريَّة ليست قالباً محدَّداً؛ أو صناعةً؛ أو ثوباً نزيّن به القصيدة؛ لتلبس لبوساً جماليًّا جديداً، إنّ الشعريّة تولد من رحم النصّ؛ فكثير من النصوص ترقى أعلى مراتب الشعريَّة رغم خلوها من الصور أحياناً؛ وإنما ترقى بصوتها و قوافيها وحسها العاطفي، وتوهجها الشعوريّ الذي يولد من داخل الكلمات لا من ضجيجها، وصخبها، وغوغائية تشكيلها؛ فالجماليَّة ليست محضّ الترسيم؛ أو الصناعة مهما اعتمد الشاعر الزخرفة والبهرجة اللغوية؛ فالجماليَّة- أولاً وأخيراً- تنشأ من الداخل، لترتسم على الخارج؛ هي شعور مستمد من ألق الروح، وتحليقها؛ فيأتي الصوت الشعري ترسيماً لها على شكل كلماتٍ، وأنساق لغويَّة متوازنة تخلقها الروح في تشكيلها النسقي، قبل أنْ يخلقها النصّ بلفظه، وشكله المادي؛ والشاعريّة العظيمة هي شعريَّة الانسياب العاطفي، والتحليق الروحيّ؛ فكم من النصوص خلدت في أذهاننا بسبب انفتاحها التأملي، وانسيابها العاطفي، وترسميها الشعوري الجمالي الذي يخلق إيقاعاً دافئاً منساباً من الروح لا من رنين الكلمات والقوافي فحسب؛ وشعريَّة جوزف حرب هي هذه الشعريَّة التي تنساب من الروح، لتبعث الروح والحس بالكلمات؛ فالكلمات – لديه- رغم هدوئها ذات توهج عاطفي، وتدفق شعوري مستمر؛ لأنها حلَّقت في فضاء روحه قبل أن تتمظهر بأشكال فنيةن وقوالب مخصوصة؛ وكم نحن بحاجة إلى هذه الشاعريّة التي تنبض روحيًّا؛ لتدفئ شعورنا المسكون في أعماق أرواحنا؛ لهذا؛ فإنَّ إيقاع قصائده دائماً إيقاع اختلافي: [سواء أكان ذلك على صعيد توهجها العاطفي الرصين، وتدفق شعورها المستمر، أم على صعيد أنساقها التشكيليَّة ببنائها المعماريّ على بياض الصفحات]؛ ولو تساءل سائلٌ: هل شعريَّة جوزف حرب شعريَّة تحليق بالجسد أم شعريَّة تحليق بالروح؟ أين تكمن بؤرة شعريَّته؟!! ومركز تدفقها وينبوعها المتدفق؟ لأجبناه بقولنا:
إنَّ شعريَّة جوزف حرب شعريَّة تنبثق من رحم الذات؛ فالذات لديه منارة الإبداع؛ إذْ إنَّ جوزف عندما يكتب عن الجسد يحلِّق بالروح؛ ليرتقي به إلى مرتبة التصوف، والجماليَّة الروحيَّة المطلقة؛ وعندما يكتب عن الروح يُحَلِّق بالجسد؛ فترى قصائده الشبقية في وصف الجسد ترسيمة جماليَّة في نحتِهِ وتشكيله لهذا الجسد وكأننا امام تمثال جمالي يجسد المرأة كتحفة نادرة؛ وكأنَّ الجسد ينبوع، وشجرةَ وارفة الظلّ؛ أو بحيرة زرقاء، أو سماءً خصبة تفيض زهواً وصفاءً وتفتحاً وإشراقاً؛ لذا؛ فإنَّ منافذ شعريَّة جوزف متنوّعة؛ وينابيعها خصبة، لذا؛ فإنها تظلّ حقلاً خصباً متنوِّعاً لمختلف المشارب، والمناهج الدرسيَّة؛ ولعل أبرز هذه الطرق المؤديَّة إلى شعريَّة جوزف، وكشف أبعادها؛ هي شعريَّة الشعور، والتدفق العاطفي التي تميل إلى تكريس المشاعر العاطفية الدفاقة بالتأمل، والانسياب الشعوري؛ حتى في خضم التوصيفات السرديَّة، والتأملات المشهديَّة؛ كما في قوله:
“وأُحبُّ قربي من ترابِ الأرضِ.
لم أَمْدُدْ يَدِيْ يوماً إلى دكَّانِهِ إلاَّ وعادتْ وهي مَلأَى زعتراً، وبنفسجاً، وسوارَ سنبلةٍ، وماءْ.
وأُحبُّ ذاكَ الأزرقَ الممتدّ فوقَ يَدِي، ولَكِنْ
آهِ مِنْ بُعْدِ السماءْ،
وأنا صغيرٌ لم يَكُنْ جسدي بأطولَ من حشيشِ النهرِ أو خيطِ البكَاءْ.
* * *
وبدأتُ أطْوَلُ، والترابُ يصيرُ أبْعَدَ، والسماءُ تصيرُ أقربْ.
وظننتُ أنَّ الغيمَ إبريقٌ، أمُدُّ إذا عَطِشْتُ يدي وأشربْ.
لَكِنْ برغمِ الفضَّةِ البيضاءِ في سوقِ السَّحابْ،
والخيلِ والجيشِ الرماديِّ المطارفِ، والحرابْ،
وبرغمِ هذيْ الشمسِ، والقمرِ المسافِرِ فوقَ ظَهْرِ الغيمِ، والصبحِ المُعَّلقِ كالمرايا، والمساءْ، كانت ذِرَاعيْ كُلَّما اقتربتْ منَ المفتاحِ في بابِ السماءْ، لِتُدِيْرَهُ كالرِيحِ في خشبِ الضبابْ، تزدادُ حبًّا للترابْ”(11)
هنا، يبدو النصّ متدفقاً بالمشاعر العاطفيَّة الهادئة التي تتلمس التحليق بالقصيدة من التوصيفات السرديَّة إلى دفء المشاعر؛ ورنين الكلمة، وصداها جماليًّا؛ محاولاً خلق حالة من التوليف الجماليّ بين المفردات؛ لتشي بدفء المشاعر، وعمق الرؤيا؛ وبداعة الصور ذات الرنين التقفوي والمد التأمليّ، معلناً بذلك عن شعريَّة الحس الشعوري المرهف، أو شعريَّة الترسيم الشعوري العاطفي ترسيماً جماليًّا؛ بنسق تأملي مفتوح يشي بمرحلة الطفولة، وسرعة انقضائها، فالشاعر يحن إلى تلك الأيام البريئة، التي تزهر بالبسمات والضحكات الصافية البريئة، وحبّ الحياة والتراب والوطن، كما في قوله: “كانت ذِرَاعيْ كُلَّما اقتربتْ منَ المفتاحِ في بابِ السماءْ، لِتُدِيْرَهُ كالرِيحِ في خشبِ الضبابْ، تزدادُ حبًّا للترابْ”؛ وهنا؛ تبدو شعريَّة جوزف شعريَّة تأملية ذات طاقة تحفيزية في استقطاب الرؤى الجماليَّة، وتعزيز الشعور العاطفي المرهف، أو المتدفق بسلاسة؛ وعلى هذا “فالشعر طاقةٌ يخلقٌ بها الشاعر ما يمكن أن يكون إعادة خلق جديد،وهو هنا ينافس الحلم في أنَّ كليهما تنشيطْ للذات، وتفريغٌ لمكبوتات [مسكوت عنها]؛ وهو بذلك إزاحةٌ نفسيَّة من ضغوط غائصة يَتَنَفَّس الشاعر من خلال اللّغة ما يعيد توازنه النفسي إليه؛ وهما – الحلم والشعر- يعبران عبر برزخ واحد هو الرمز، حيث تصبح فيه الكلمة إشارة، تستكشف من خلالها برزخاً يقودنا إلى عالم القصيدة الخبيء، وربما ينبئُ عن عدة احتمالات؛ وذلك لا يُقَلِّل من أهميتها بقدر ما يدل على ثرائها؛ وقارئ القصيدة عليه أن يتبنَّى فكرة الاحتمالات، وينظر إليها بحدقته الفنية التي تتغوَّر داخل الأشياء، ليستطيع أن يستكشف غاباتها المجهولة” (12)
والمثير حقاً – في شعريَّة جوزف حرب- أنها شعريَّة ممتدة الأفق؛ تستقطب أعلى الرؤى، وأكثرها جسارة؛ وأعمق المداليل، وأكثرها إثارة؛ إنَّ شعريته شعريَّة التفعيل والتحفيز، والعمق الإنساني النبيل؛ لذا؛ فطبيعة القصيدة – لديه- ثورة ميدانية في عالم الرؤية والتشكيل، والنزوع الجمالي؛ لذا، تتلبس قصيدته بلبوسات دلاليَّة، ممتدة؛ تثير القارئ وتحفزه جماليًّا وأفقاً تأمليًّا مفتوحاً، كما في قوله:
“* في المدارِسْ، كُنْتُ سِرِّيًّا كنومِ الماءِ، بَرِيًّا كعصفورِ المطرْ،
شرساً كالذئبِ في الغاباتِ، شَمْعِيًّا كأُمٍّ من نسيمٍ،
جَلَسَتْ تُرْضِعُ أوراقَ الشجَرْ.
في المدارسْ، ألْبَسُوا الحَوْرَةَ في قَلْبِيْ وعشبَ البرِّ والغيمَ والكفنْ.
بَعْدَما ألقوا على أكتافِهِ الأسودَ في الديرِ، وأعطوا يده رفشاً لحفَّارِ قبورٍ، سَلَّموني لِلْزَمَنْ،
كعريس من كلامٍ ليس في خيمتِهِ إلاَّ بياضٌ وسكوتُ
فالذي أبكي به اليومَ على ما ماتَ منّيْ سوفَ أبكيهِ غداً لمَّا يفوتُ،
كُلَّ يومٍ؛ لا أرى إلاَّ وبعضي مات مني، ثم أمشي في جنازاتي إلى مقبرتي بينَ المراثيْ ناقصاً فيَّ الذي بالأمس قد ماتَ، ليبقى ما غداً سوفَ يموتُ.
* في يَدِي، أجْمَلَ من ريشِ ملاكٍ كانَ ريشُ القُبَّرَهْ.
كانَ أنْ أغمسَ رِجْلِي في السَّواقِيْ، ساحراً أكثرَ من أنْ أَغْمِسَ الريشةَ في زرقةِ أُفقِ المِحْبَرَةْ.
كانَ أشْهَى ما أرى وَجْهٌ لأُمّيْ في امْرَأَهْ،
قِطَعُ الحَلْوَى التي يَحْمِلُهَا الدفءُ إلى الأولادِ لمَّا تَلِدُ النارَ شتاءً- جَمْرَةً في المِدْفَأهْ.
كانَ خبزٌ ولبنْ
في فمي، أطيبَ من كُلِّ أناشيد الوطن” (13)
تنبني مثيرات شعريَّة هذه القصيدة على الومض الشعوري الرومانسيّ، في تجسيد مظاهر الطبيعة، والنزوع الجماليّ إلى تكريس الصور ذات التدفق الشعوري المرهف؛ والحيازة النسقية الجماليَّة للمؤتلفات التشكيليَّة ضمن سيرورة نسقية متفاعلة شعوريًّا؛ متناغمة تقفويًّا؛ وفق خط دلاليّ توصيفي للمشهد الرومانسيّ الشاعري المجسد، كما في قوله: “في يَدِي، أجْمَلَ من ريشِ ملاكٍ كانَ ريشُ القُبَّرَهْ.,,, كانَ أنْ أغمسَ رِجْلِي في السَّواقِيْ، ساحراً أكثرَ من أنْ أَغْمِسَ الريشةَ في زرقةِ أُفقِ المِحْبَرَةْ”؛ والَّلافت – في هذه القصيدة- طابعها السرديّ الذي يميل إلى القص السرديّ؛ بمغامرة نسقية جماليَّة، تخلق لذتها رغم تراكم الصور السرديَّة؛ لتستحوذ على عالمه الشعريّ؛ وكأنَّ الصورة تستدعي الصورة والحدث الشعوري يستدعي الحدث الشعوري الآخر ضمن سيرورة نسقية تصويريَّة عالية المستوى متفاعلة الرؤى والأحاسيس، كما في قوله: “كُنْتُ سِرِّيًّا كنومِ الماءِ، بَرِيًّا كعصفورِ المطرْ،/ شرساً كالذئبِ في الغاباتِ، شَمْعِيًّا كأُمٍّ من نسيمٍ،/ جَلَسَتْ تُرْضِعُ أوراقَ الشجَرْ”؛ إنَّ تراكم التشبيهات بأداة التشبيه الكاف جعلت الصور تسير مساراً مؤتلفاً باعثاً الألق التصويريّ، والحس الشعوريّ المرسوم بدقة عبر توليد الصور وترسيمها جمالياً، ليعبِّر الشاعر بالصورة عن أحلامه الطفوليَّة،و ذكرياته الماضية، وهو طفل في المدرسة، يحلم بأحلامٍ بيضاء؛ لم تدنّسها هواجس اليأس، وسوداوية الموت، وجهامته المؤلمة على النفس والشعور.
ولمّا كانت القصيدة عند جوزف حرب خلقاً فنيًّا، وشعرنة دائمة، وولادة مستمرة لأنساق تشكيليَّة فنيَّة خصبة الإيحاءات والدلالات؛ فإنَّ ألقها متدفق كتدفق ينبوع الحياة؛ لا تنتهي إيحاءاتها مادامت تشعُّ بألق اللحظة، وعمق الرؤية، وبداعة النسق الجماليَّ؛ الذي تشكله لترقى أعلى المستويات، وأرقاها فنيًّا؛ وهنا؛ “تتحوَّل القصيدة من تجربة محدَّدة إلى عمل فنّيّ متكامل، يشمل الرؤية الشاملة للوجود؛ مما يفتح قنوات متعدِّدة، لإثراء الانفعال الذي ينفصل بالطبع عن صور الفكر المصقولة؛ مما يُجَسِّد القصيدة؛ ويكسبهَا نماءً، تتحوَّل به إلى معاناة تبتعد عن مجرَّد السرد اللفظي، والصياغة الماهرة، والمهارة الُّلغويَّة إلى تحشُّد وتجمُّع. وليس مَعْنَى ذلك بالطبع أنَّنا نطلب من الشاعر أنْ تتحوَّل قصيدته إلى دغل كثيف نضل في متاهات أحراشه الغامضة”(14).
وإذا كانت شعريَّة جوزف حرب تستمد جمالياتها من ترسيمها الفني الدقيق لدواخله النفسية، ونفثاته الشعوريَّة، فإنَّ ألقها يتنامى تدريجيًّا كلما غاص في الرؤية، وتعمق في ترسيم الرؤية، وتشكيل لوحته الشعريَّة؛ وتأسيساً على ذلك؛ يمكن القول: إنَّ ألق الشعريَّة – عند جوزف حرب- يتبدَّى في تنوّع مشاربها؛ فهو يثيرنا تارة بالإيقاع والصورة؛ وتارة بالمصاحبات اللّغويَّة المتجانسة؛ وتارة بالترسيمات الشعوريَّة المرهفة؛ ذات المنحى الرومانسيّ؛ وتارة بومضاته الشعريَّة ذات الاقتصاد اللغويّ، والزخم الشعوريّ؛ وتارة يثيرنا بالخواتيم الشعريَّة، ذات المنمنمات اللفظية المتجانسة؛ وتارة بالمغزى الدلالي الكامن وراءها؛ أو الرؤية الإنسانية المطروحة من خلالها؛ فلا تعرف من أي باب يثيرك؛ إذْ إنَّ جميع الأبواب مفتوحة أمام القارئ؛ ليتلمس مثيرات جمالياتها، ومظاهر إبداعها، ولعلَّ ما يلفت انتباه القارئ دائماً في شعريَّة جوزف أنها شعريَّة بنائيّة خلاّقة بالجمال، ورهافة الحس، وعمق الشعور، خلاّقة بالصياغة الماهرة، والبراعة اللغويَّة التي تحشد التراكيب الجماليَّة؛ وتستثير المناحي التشكيليَّة البارعة ذات التوثبات المشهديَّة، والاقتناصات التصويريَّة المفاجئة؛ وهذا ما يجعل شعريّته اختلافيَّة تنزع إلى الاختلاف أو كما قلنا: (اختلاف الاختلاف) في تشكيلها، وترسيمها الفني، وعمقها الشعوريّ، وبكارتها التصويريَّة، وخلقها المتنامي للصور التشكيليَّة المراوغة التي تفتح باب الشعريَّة بمهارة واقتدار.
5- اختلاف الاختلاف [سيرورة دلالات مفاجئة/ وخلق مصاحبات لغويَّة متضافرة]:
لابُدَّ من مدركات معرفيَّة واسعة ،ومفرزات ثقافيَّة عظيمة، وخبرات معرفيَّة شاملة؛ ليستطيع القارئ أن يلتمس سيرورة دلالات القصائد الحداثية؛ وأغوارها الباطنية المستعصية وآفاتها الممتدة؛ خاصَّة إذا أدركنا أنَّ القصائد الحداثية الجيدة ليست فقط إطاراً،أو شكلاً جماليًّا، بقدر ما هي تفعيل للشعور الداخلي، أو الباطن الدلاليّ الذي تختزنه في داخلها، من رؤى ومثيرات نفسية، وشعوريَّة تفجِّرها في نسقها التشكيلي المثير. وشعريَّة جوزف حرب ليست شعريَّة ائتلافية جماليَّة في نسقها وصورها المشهديَّة، بقدر ما هي اختلافيَّة للقارئ العاديّ؛ بمعنى أدق: إنَّ شعريته تصنع الائتلاف للاختلاف، وتصنع الاختلاف للائتلاف؛ لذلك فهي دائماً متجدّدة، إنّ شئنا ائتلافاً؛ وإن شئنا اختلافاً؛ وهذا ما يجعلها في تدفق مستمر، وألق دائم، وتفاعل مثير بين [الداخل/ والخارج]، و[الشكل/ والمضمون]؛ و[الواقع/ والخيال]؛ فهي تحتمل أكثر من رؤية؛ وتنفتح على أوجه دلاليَّة رحبة، وسيرورات نسقيَّة ممتدة؛ لهذا تستحوذ على شتَّى الاحتمالات، وتتسع للعديد من التأويلات؛ وهي دائماً تسعى إلى خلق مصاحبات لغويَّة متضافرة، وسيرورات دلاليَّة مفاجئة، يقول الناقد رجاء عيد: “قد تعني القصيدة عدّة احتمالات، وذلك لا يُقَلِّل من أهميتها، بقدر ما يدلُّ على ثرائها وخصبها، وعلى القارئ أنْ يَنْظُر فيها بحدقته الواعيّة، ليتَغَوَّر داخلها، حتى تَتَكَشَّفَ له عن غاباتها المُلْتَفَّة حيث تملك إمكانات الّلغة أن تَجْعَل المجال الدلاليّ مرناً، قابلاً للانفساحْ، ومتيحاً لتداخل الدلالات الهامشيَّة، لتستولي على مساحات شاسعة من الدلالات المركزيَّة، مما يتيح – بواسطة السياق- خلق أبعاد دلاليّة جديدة”(15).
وشعريَّة جوزف حرب ليست إسقاطات نفسية، وإشعاعات دلاليَّة فحسب؛ وإنما هي تفجير دائم لسيرورات دلاليَّة جدليَّة مفاجئة، ومصاحبات لغويَّة متضافرة نسقياً؛ مكثفة إيحائيًّا؛ وهذا ما يجعل شعريته شعريّة اختلافيّة؛ لأنها تنزع إلى الائتلاف، بالاختلاف؛ وتنزع إلى المواربة، بالمقاربة والمحايثة؛ لهذا؛ تحفز المتلقي، وتدفعه إلى مغامرة المكاشفة، والتجريب، والتأويل؛ وهي بقدر ما هي شعريّة اختلافيَّة تنبثق من رحم المغايرات، والمفاجآت، بقدر ما هي شعريَّة انبثاقيَّة تدفع إلى التأمل، والتفكر،والاستقطاب؛ لخلق أبعاد دلاليَّة فسيحة؛ وإكساب رؤية جديدة تنضاف إلى فضاء قصائده الرؤيوية، ومساراتها الجماليَّة التأملية.
وإنَّ قارئ جوزف حرب لا يستطيع أن يستغني عن روحانيَّة الاختلاف والمواربة، وبداعة المجاذبة، والائتلاف الذي تحققه تشكيلاته اللغويَّة المفاجئة؛ التي تسعى إلى ترسيم الصور والأنساق المواربة، وخلق عالم جماليّ؛ إيقاعي ينساب مع كلّ جملة؛ محقِّقاً لقصائده ألقاً تصويريًّا، وتنغيماً إيقاعيًّا؛ يتدفق كتدفق الينبوع صبابةً، ورِّقةً، وعذوبة، يقول جوزف حرب:
“جاءَ وقتُ الدَّمْعِ.
لم يَبْقَ سِوَى أنْتَ وَوَحْدِيْ.
فالمراسيمُ انتهتْ.
والقبرُ غَطَّتْهُ الأكاليلُ.
وهذا التختُ لمَّتْ نِسْوَةُ القريةِ ما كانَ على فَرْشَتِهِ البيضاءِ من زهرٍ وشَمْعٍ، عِنْدَما كُنْتَ مُسَجَّىً فَوْقَهُ.
والقهوةُ المُرَّةُ لمَّا ودَّعْتَنِي، تَرَكَتْ لي تِفْلَهَا الأسودَ في كعبِ الفناجينِ.
وما خَلَّتْ بقربي علبُ التدخينِ لما غادرتْ صَدْرِي سوى أسمائِهَا.
أنْتَ وَوَحْدِيْ.
يا أبي، هذا أوانُ الدمع فَلْنَجْلِسْ قليلاً.
تبدأُ العودةُ للشطآنِ/
ما أنْ يُعْلِنُ البحرُ الرَّحِيلا
جاءَ وقتُ الدَّمْعِ فَلْنَخْرُجْ إلى الأرضِ، فَكَمْ كُنْتَ عريس الزَّرْعِ فيها، مُتْرَفَ القامَةِ، قمحيًّا، جميلاً.
كُلُّ شيءٍ صار عِنْدِي لكَ رسماً،
وتماثيلَ من الأشجارِ خضراً نُحِتَتْ، في قاعةٍ تُدْعَى: الحقولا”(16).
يقترب الشاعر في منحاه التشكيلي الجماليّ إلى خلق حدث شعري مثير، بالانتقال من مشهد حياتي واقعي، إلى آخر؛ فموت والده ترك في نفسه حالة من الأسى الشعوريّ ولَّد – لديه- طاقة من التنامي الرؤيوي في تحريك مشاعره، ولمساته الفنيَّة في ترسيم الحالة الشعوريَّة، ترسيماً فنيًّا؛ يتدفق وومضاته النفسيَّة الكثيفة التي ترتقي حيِّز الرثاء البسيط الساذج إلى الرثاء الفني؛ الذي تبدو فيه الجملة ذات نبض شعوريّ هادئ؛ بإيحاء فني عميق؛ فجاءت القصيدة وصفاً داخليًّا لما يعتصره من أحاسيس، ومشاعر إزاء رحيل والده؛ إذْ يحاول مزج رحيله بضبابة حزن مشتقة من حزن الطبيعة الفلاحيّة التي نشأَ فيها والده، وعاش في كنفها؛ يزرع؛ ويقلِّم الأشجار؛ لتغدو خضرة.. نضرة جميلة؛ رصد الشاعر في رؤاه الرثائية هذه المشاعر، والأوصاف الخارجيَّة المشتقة من الطبيعة؛ كما لو أنَّ حالته انعكست على الصور ألقاً، وسحراً ترنيميًّا في توصيف الطبيعة، وتحريك أنساقها، بفنية عالية يبثُّ من خلالها أشجانه، وأحزانه، ومآسيه بشفافيَّة متناهية، كما في قوله:
“فَكَمْ كُنْتَ عريس الزَّرْعِ فيها، مُتْرَفَ القامَةِ، قمحيًّا، جميلا. كُلُّ شيءٍ صار عِنْدِي لكَ رسماً، وتماثيلَ من الأشجارِ خضراً نُحِتَتْ، في قاعةٍ تُدْعَى: الحقولا”.
والَّلافت – أنَّ الحركة النسقيَّة التكامليَّة على مستوى الأنساق التصويريَّة أسهمت في خلق المصاحبات اللّغويَّة المتضافرة- التي ولّدت في نصوص جوزف حرب ما يمكن تسميته بـ [شعرنة اللاّممكن]/ أو الّلامتوقع، فشعريّة قصائد جوزف حرب تنطلق من جوهرها التأملي بداية؛ لتخلق جدلها لاحقاً من خلال أنساقها، ومصاحباتها اللغويَّة المثيرة، التي تموج بالقلقة والنزوع إلى المفاجآت الإسناديَّة، بالتقديم والتأخير، وإسنادات لامتوقعة بقالب الائتلاف والمشابهات المراوغة ؛ لهذا؛ يحرك إحساسنا؛ ويحرك ذهننا، وفكرنا في تتبع هذه المثيرات؛ بانسياب إيقاعي جماليّ، فهو في لبّ السرديَّة الممطوطة يدهشنا بمسار سلس ننساب معه وفق سيرورات دلاليَّة مفاجئة؛ ومصاحبات لغويّة تنساب بائتلاف لفظي حيناً/ واختلاف دلالي حيناً آخر؛ لتؤسِّس شعريَّة الّلاممكن أو الّلامتوقع؛ وكأنّها مداد لحراك داخلي مستمر، وتدفق انبثاقي من رحم المعاناة، وجراح المكابدة، والآلام التي تعتصر الذات؛ لهذا؛ فالقصيدة – لديه- رؤيا، وخلق ومضي عميق؛ وممارسة روحيَّة للكلام، بألق اللحظة الشعوريَّة، وعمق العاطفة؛ إذْ يقول:
“ما الذي يَبْقَى إذا مِنْ شَدْوِهِ صارَ خَلِيًّا، وجَنَاحَيْهِ الحَمَامُ؟
إنَّ في وَجْهِيْ احتفالاً للمراثي،
قطرةُ الدمعِ بهِ، تحتَ مآقِيَّ وِسَامُ.
نَمْ قليلاً أيُّها الحِبْرُ، ويا أيَّتُهَا الأوراقُ لا أَدْرِي بماذا يَتَغَطَّى عندما يبردُ في اللّيلِ الرُّخامُ؟
نَمْ قليلاً، وتَغَطَّيْ، فأنا مِثْلُكُمَا فَتَّتَنِي البَرْدُ، وُحْزِنيْ لا ينامْ. نَمْ قليلاً؛ وَتَغَطِّيْ. لا تَلُوْمَانِيْ،
إذا جَاءَتْنِي الرُّؤْيَا، وما جاءَ الكلامُ”(17).
إنَّ هذه التنسيقات الجماليَّة التي تنبني عليها الجملة الشعريَّة في حركتها التصويريَّة؛ ونسجها الائتلافي مع ما يليها من عناصر التركيب؛ يؤكِّد براعته التشكيليّة، وسلاسة تشكيل جمله؛ لتأتي بإيقاعها المتنامي، بالانتقال من جملة إلى أخرى؛ لتسير بسلاسة متناهيّة؛ لا تعرجات؛ ومنزلقات؛ تكسر حركتها دلاليًّا؛ أو إيقاعيًّا؛ أو تأمليًّا؛ إذْ إنَّ كل جملة ما هي إلاَّ بؤرة دلاليَّة تشعّ بريقها ألقاً جماليًّا على الأنساق الأخرى، لدرجة تبدو فيها متفاعلة في نسقها ودلالاتها، وإشعاعاتها الإيحائيَّة؛ انظر إلى هذا الترسم المحكم في تخليق الشعريَّة في هذه الجمل: [إنَّ في وَجْهِيْ احتفالاً للمراثي،/ قطرةُ الدمعِ بهِ، تحتَ مآقِيَّ وِسَامُ./ نَمْ قليلاً أيُّها الحِبْرُ، ويا أيَّتُهَا الأوراقُ لا أَدْرِي بماذا يَتَغَطَّى عندما يبردُ في اللّيلِ الرُّخامُ؟]، إنَّ بداعة التنسيقات اللغويَّة؛ وسلاسة إيقاع الجملة،وتضافرها النسقي مع ما يليها من عناصر التركيب؛ يؤكِّد شعريتها الفذة، وانبثاقاتها التشكيليَّة الخصبة التي تنمّ على سيرورة، دلالات متتابعة؛ تشي بانسجام؛ وتدفق؛ وتتابع سلس بين الجمل؛ لتؤكِّد تلاحم الرؤية – لديه- وعدم انفصامها؛ وكأنَّ قصائده على اختلاف تشكيلها، طولاً وقصراً جملة تشكيليَّة واحدة، تشكِّل رؤية مركزيَّة؛ تؤكد تماسكها؛ وتفاعلها؛ وتكاملها على المستويات كلها، وشعريَّة جوزف حرب ليست توصيفاً خارجيًّا، أو نمنمات تشكيليَّة جماليَّة؛ بقدر ما هي رسماً تأمليًّا في طبيعة الأشياء، وبث الحركة فيها؛ إنها – بشكل أو بآخر- جوهر شعريّ، يقتنص الرؤية، ويُعَمِّق جماليّة الصور، وسيرورة دلالاتها المفتوحة؛ وصورها المجسدة؛ وعلى هذا؛ فإنَّ شعريّة جوزف حرب نستطيع أن نطلق عليها شعريَّة التكثيف الشعوري، أو شعريَّة المناجاة، والتأمل؛ فلا يستطيع القارئ تحديد كينونتها، أو تحديد شكل تعبيري لها؛ نظراً إلى تنوع أساليبها، وحرصها على خلق المتعة، واللذة في جلّ المساقات الشعريَّة التي تجسدها؛ وهذا دليل على تجذر هذه الشعريَّة على ثوابت إبداعيَّة؛ ومرتكزات رؤيوية عميقة؛ تُفَعِّل القارئ كلّما تغوَّر أبعادها،واستقصى دقائقها، كما في قصيدته [عصفور أزرق] التي يقول فيها:
“يَدْخُلُ الشاعِرُ من دمعتِهِ، يخرجُ من بيتِ فَرَاشَهْ.
يرتدي غيمَةَ رُهْبَانٍ، لِتَخْضَرَّ دواتُهْ
وجناحانِ من الحبرِ يطيران به في أبيضِ السرِّ إلى سرِّ العِبَارَهْ.
والعِبَارَهْ طائِرٌ غطَّ على الحورةِ.
لمَّا طار عنها،
طارتِ الأوراقُ.
فاصْفَرَّ الذي قد أسْقَطَتْهُ الريحُ. أمَّا مَنْ نَمَا فيها جناحانِ، وطارتْ كالشرارَهْ
أصبحت في زرقةِ السطرِ عبارَه”(18)
إنَّ قارئُ هذه القصيدة لا يخفى عليه استقصاءاتها الجماليَّة، وتجذرها على فنية الصورة الحسيَّة الحركية من جهة، ومرتكزاتها الفنية ذات الترسيم الجمالي في التقاط ألذّ الصور، و أينعها شفافية في توصيف حساسية الشاعر، وإدراكه، وتأمله الشفاف في مظاهر الأشياء، ومثيراتها من جهة ثانية؛ كما في هذه الصورة المتناغمة التالية:
“يَدْخُلُ الشاعِرُ من دمعتِهِ، يخرجُ من بيتِ فَرَاشَهْ.
يرتدي غيمَةَ رُهْبَانٍ
لِتَخْضَرَّ دواتُهْ”
؛ وهنا؛ يحوِّل الشاعر في مسار بعض قصائده إلى شعرنة الدلالات المفاجئة؛ ذات المصاحبات اللغويّة المكثفة كما في الاستعارات التالية:( يرتدي غيمَةَ رُهْبَانٍ، لِتَخْضَرَّ دواتُهْ/ والعِبَارَهْ طائِرٌ غطَّ على الحورةِ”)؛ إنَّ هذه الاستعارات لا تقف حدّ التجميل الشعوري، بقدر ما تُفَعِّل الحيّز الإيحائي، وتثير حساسية القارئ صوب المهارة الشعريَّة التي تمتاز بها قصائد جوزف حرب؛ ومن هنا؛ يبدو لنا أنَّ إيقاع قصائده إيقاع اختلافي ينبني على تحفيز الدلالات المفاجئة، وخلق المصاحبات اللغويَّة الاستعاريَّة ذات الحس الشعوري، وبداعة النسق التصويريّ.
6- اختلاف الاختلاف [حركة ارتداديَّة معكوسة/ وسيرورة سرديَّة متألقة]:
إنَّ ثمَّة إشكاليَّة تكمن في الشعريَّة المعاصرة هي أنَّها تحاول أن تقنن ذاتها؛ أو أن تلبس لبوساً معيناً؛ بأثواب حداثوية؛ وهذه الإشكاليَّة جعلت الكثير من الشعراء يقولبون قصائدهم بفضاءات محدّدة، وأشكال ثابتة؛ ولذا، فإنَّ إشكاليّة الحداثة الشعريَّة لم تقف على أسّس واضحة، ورؤى محدّدة، فاختلفت النظريات؛ وتعدّدت المناهج، سعياً إلى الوصول إلى محدَّدات، أو مقننات ثابتة، إزاء نظرية شعريّة ثابتة، أو محدّدة، تكون مرتكزاً فنيًّا للحكم على الكثير من التجارب الشعريَّة. وإننا في نظرتنا إلى شعريَّة جوزف حرب لاحظنا أنَّ شعريته أفقيَّة تسعى إلى تخليق التكامل الجماليّ، وتخليق المشهد الرومانسي، وتخليق الإيقاع العاطفي، وتشعير الأنساق السرديَّة، بحركة ارتداديَّة معكوسة، تسعى إلى شعرنة التوصيفات السرديَّة؛ لينتقل – من خلالها- إلى شعرنة الرؤية؛ وشعرنة النفثات العاطفية التذكريّة الحارة التي يرصد فيها مظاهر حياته الريفيّة، وبيئته الجبلية؛ برؤى تصويريَّة حيَّة، بقدر ما تعكس توصيفات الطبيعة تعكس نبض الشعور، والجوهر الداخلي لأناه الوجوديّة، وذكريات طفولته في أحضان والده الذي غادره؛ وما ديوانه الموسوم بـ [شيخ الغيمِ وعكازه الريح] إلاَّ ترسيماً فوتوغرافياً تصويريًّا لسيرته الذاتية، وطبيعة بيئته التي تربى في أحضانها؛ ورضع من لبانها شعوراً، وحسا،ً وألقاً، وتميزاً، وحساسية شعريّة مرهفه، جَسَّدَها في قصائده بسيرورة سرديَّة متألقة، كما في قوله:
“سرٌّ عميقٌ لَمْ يَزَلْ في داخليْ من غيرِ أنْ أجِدَ الجوابَ لَهُ!
لماذا كانَ يشبهُ صوتَ من يبكي هديلُ يمامةِ الرُّعْيَانِ، صوتُ البُلْبُلِ البَرِّيِّ،
نَقْرُ الماءِ لمَّا تُمْطِرُ الدُنْيَا، تَوَاشِيحُ الجداوِلِ، حَفُّ شيحِ الوَعْرِ،
هبَّةُ ريحٍ أوَّل ما يجيءُ الليلُ، أجراسُ الغُروبِ،
ثغاءُ حِمْلاَنِ القطيعِ؟!
لعلَّ سرَّاً ما توزَّعَ في قرارةِ هذه الأشياءِ، حتَّى أصبحتْ تُوْحِي بأصواتِ البُكَاءِ!
وكُنْتُ أرْصُدُها، فأشعرُ أنَّها تزدادُ قرباً من مناديلِ البكاء،
إذا تُوَفِّي عندنا أحدٌ، ومَرَّ جفافُ عامٍ في مراعينا، وغادَرَنَا قريبٌ، أو أصابتْ أيَّ طِفْلٍ نَحْلَةُ الحُمَّى، وجاءَ العيدُ لَكنْ لم يَجِيءْ جرسٌ لَهُ، وأتى الشتاءُ على ظهورِ الغيمِ لكنْ لم يُحَمِّلُهَا قماشُ الصوفِ، أو حَطَبَ المواقد.
رُبَّما دخلت بنا الأشياءُ، أو لمَّا دخلناها بقينا نحنُ فيهَا”(19)
يعتمد الشاعر التوصيفات السرديَّة، لخلق حركة ارتداديَّة معكوسة في تشعير الصورة السرديَّة؛ بألق التوصيف التصويري للطبيعة الجبليَّة التي يجسّدها الشاعر بصور جماليَّة تشي بالتأمل العميق، والديناميّة الحسيَّة للمدركات البصريَّة؛ وكأنَّ كل صورة سرديَّة حركة متماوجة لإيقاع الصورة المشهديَّة الكلية المشتقة من الطبيعتين [الصامتة/ والمتحركة]؛ كما في قوله: “لماذا كانَ يشبهُ صوتَ من يبكي هديلُ يمامةِ الرُّعْيَانِ، صوتُ البُلْبُلِ البَرِّيِّ”.
وهكذا؛ تقوم شعريَّة جوزف على الانسياب التصويريّ، والتتابع السرديّ في توصيف المشاهد الرومانسية المشتقة من حقل الطبيعة؛ لتخليق الشعريَّة الجماليَّة ذات الحراك الدلالي، والشعور الحسيّ المرهف، الذي يمتاز بألق اللقطة، وألق الشعور، أو الحس الشعوريّ الترسيمي للصور على مسارها النسقي ضمن السياق؛ وعلى هذا “فالشاعر الفذ هو الذي يمتلك حساسيَّة قوية لأصوات الكلمات؛ مع قدرة فائقة على الملاءمة بين [الصوت/ والمعنى]؛ وهذا يعني أنَّ مستوى العلاقة بين الوزن والحالات الشعوريَّة – الذي يخضع بشكل أساسي- لموهبة الشاعر وتمكنه من أدواته التبعيريَّة؛ هو ما يشكِّل ما يسمى بالموسيقا الشعريَّة. وقد فَعَّلَ الشاعر العربي الحديث هذه الموسيقى لما أدخله على الوزن والقافية من تعديلات، ليصبحا قادرين على التعبير عن حاجاته التعبيريَّة المنبثقة من مواقفه وحالاته بطرقٍ عديدة؛ وجد أنَّ موسيقى الوزن التقليدي برتابتها المعهودة قاصرة عن بلوغها والوصول إلى الخصائص الموسيقية القادرة على التفاعل مع تجربته المعاصرة؛ الإيقاع إذن، هو ميل القصيدة للتكامل تعبيريًّا عن طريق التشكيلات النغمية المختلفة تلاقياً وافتراقاً المنبثقة من البنية اللفظية، محدثة نوعاً من الإيقاع القادر على تنسيق مشاعرنا؛ وتوجيهها نحو أُفق محدَّد، ويكون الوزن طبقاً لما تقدَّم هو وسيلة تَمَكُّن الكلمات من التأثير المتبادل عن طريق إثارة المشاعر والأحاسيس”(20)
وهذا يعني أنَّ الشعريَّة الجماليَّة – من منظور الكثير من النقَّاد- هي شعريَّة التآلف بين الإيقاعين [الصوتي/ والنفسي]؛ وما من شكّ في أنَّ شعريَّة جوزف حرب قد ولّدت آفاقاً ممتدة في فضاء القصيدة الحداثيّة بألقها، وتنوّع أساليبها، وحيازتها لِكَمٍّ هائل من المثيرات الجماليَّة الصوتيّة، والإيقاعيّة، والتشكيليّة؛ والأنساق البصريَّة؛ لهذا؛ فشعريته شعريَّة اختلافيَّة؛ واختلافها هو السبب البارز في امتلاك تميزها عربيًّا؛ ومقارعتها لعوالم جماليَّة غير مدركة من قبل؛ ولا نبالغ إذا قلنا؛ إنَّ شعريَّة جوزف شعريَّة أسطوريَّة تسبح في مداليل الأسطورة وعمقها، وتجذرها الفني؛ ومن أراد أن يتتبعْ فضاءات هذا المنحى في مواطن الشعريَّة ما عليه إلاّ أن يطالع ديوانه “المحبرة”؛ الذي يمثل نقطة تقاطعات، وانفتاحات على موسوعة أساطير شاملة؛ ترقى بفضاءاتها الأسطوريَّة عوالم خارقة، تزيد فضاءات قصائده كثافة دلاليّة، وعمقاً تأمليًّا، وتجذراً في فضاء توليد الرؤيا، وخلق الإيحاء الشعري المُكثَّف على الدوام.
7- اختلاف الاختلاف [رؤى مفتوحة/ ومداليل حرَّة]:
لاشكَّ في أنَّ تطوُّر القصيدة الحداثيَّة لا يعني كسراً لنمط الشكل، أو خرقاً للأساليب الشعريَّة المُتَّبَعَة بقدر ما يعني خرقاً لنظام القوالب الثابتة، والمعايير الجامدة؛ فالشعر – ليحقق وجوده- ينبغي ألاّ يقيّد نفسه بشكل ثابت؛ أو قالب محدّد؛ عليه أن يتماوج كتماوج أنفاس الشاعر؛ أن يكون انعكاساً لباطن الشاعر؛ وليس للشكل اللغوي فحسب،و لهذا، في القصائد الحداثية المتميزة الشكل يتبع المضمون؛ لا المضمون يبتع الشكل؛ ولكي تحقق القصيدة الحداثية هذه المعادلة عليها أن تكسر الأفق الضيق، والرؤية المفردة، أو المعزولة لتحقق وجودها، وتكاملها الجماليّ؛ وألقها النفسي أو الفكري في ذهن المتلقي؛ والقصيدة المميّزة – حقيقة- هي القصيدة الانبثاقية، أو القصيدة الانبعاثية التي تنبعث من رماد كلماتها لتخط ألقها برؤى مفتوحة؛ ومداليل حرة تسبح في فضاء التأمل، وتجوب عنان الخيال، والفكر المطلق،؛ ولا أعني بذلك أن تتجرَّد القصيدة عن الواقع؛ وترتقي برجها العاجي؛ وإنما عليها أن تمس الواقع بشفافية متناهية؛ شفافية إبداعيَّة تحايث الواقع دون أن تمسه؛ فأقبح الصور – من منظورنا فنيًّا- هي الصور الفوتوغرافية الدقيقة للحيّز البصري أو البيئي السطحي المباشر؛ لهذا؛ فالشعريَّة الاختلافية أو الخلافية هي دائماً ثائرة على الترسيم الواقعي:..هي خرق دائم للرؤى الساذجة، أو المشهدية البسيطة؛ فهي تصنع باختلافها تميّزها وارتقاءها وحيّز إبداعها؛ وتفردها المطلق في حيّز الوجود؛ وهذا ما حققته بنية القصيدة في شعر جوزف حرب، فقصائده الشعريَّة ولادة من رحم المعاناة؛ برؤى منفتحة، تتأمل الواقع ولا تمسه إلاّ بريشة الجمال، والحسّ، وفتح الأفق التأملي الوجودي، لهذا، تبقى قصائده ذات رؤى مفتوحة، ومداليل حرَّة تسبح في ملكوت الصفاء، والماورائيات الوجوديَّة؛ إنها شعاعٌ مرسوم بخيوطٍ من أمل؛ وإشراقات وجوديَّة دائمة؛ يقول جوزف حرب:
“في اللَّيلِ، قمتُ من السريرِ، دخلتُ غُرْفََتَها، وكانتْ نائِمَهْ
ففتحتُ جَفْنَيْهَا.
دَخَلْتَهُمَا على مَهَلٍ.
ضَمَمْتُهُمَا ورائي.
يا إلهي!!
غرفةٌ زرقاءُ من مائيَّةِ البلُّوْرِ
فيها لوحةٌ لرمادِ نهرٍ.
علبةٌ للدمعِ.
كُرسيٌّ من الّلبْلاَبِ.
صُنْدوقٌ صغيرٌ قُرْبَهُ قنديلُ عشقٍ لليمامِ
وزرُّ وردٍ أصفرٌ.
شُبَّاكُهَا البحريُّ مفتوحٌ على شمسِ الغروبِ، مُزَيَّنٌ بستارةٍ بيضاءَ تبدو قامَةً لسحابةٍ من عُرْسِهَا في قلبِ وادٍ قادِمَهْ.
مَدَّ النسيمُ لها يَدَيْهِ.
تعانَقَا ماءينِ.
عرَّى جِسْمَهَا. لم يُبْقِ شيئاً فيه إلاَّ خاتِمَهْ”(21)
إنَّ من يتأمَّل نسق هذه الصور يلحظ رقيها الجماليّ؛ وإدراكها التفصيلي للصور الغزليّة المشتقة من حيّزها النسقي الجزئي، إذْ تثير القارئ ببكارتها التشكيليَّة، فهي لا تمس الواقع مسًّا مباشراً؛ فالصورة -وإنْ حايثت الواقع- تنأى عنه لترسم الصورة بريشةٍ جماليَّة غزليّة تحرِّك الحسّ الجماليّ؛ فترى كل صورة لقطة جماليّة غير معهودة بهذا الالق الجماليّ، والشعور المرهف صوب ما تبثه من أصداء دلاليَّة، وحركة بصريَّة تخييليَّة مبتكرة، كما في قوله: “غرفةٌ زرقاءُ من مائيَّةِ البلُّوْرِ/ فيها لوحةٌ لرمادِ نهرٍ./ علبةٌ للدمعِ./ كُرسيٌّ من الّلبْلاَبِ./ صُنْدوقٌ صغيرٌ قُرْبَهُ قنديلُ عشقٍ لليمامِ”؛
إنَّ كلّ صورة من هذه الصور حركة جماليَّة أو لقطة تصويريَّة مبتكرة؛ تتدفق فيها الحيِّزات التأمليَّة، وتفتح آفاق الرؤية، وتسبح فيها الدلالات في فضاء تأملي بعيد يستثير القارئ شعوريًّا، ويدفعه إلى تأملها جماليًّا بألق شعوريّ، وتَفَكُّر ذهني عميق في آن؛ وهذا الأسلوب الجماليّ في تخليق الشعريّة – عند جوزف حرب- يجعل قصائده مفتوحة الدلالات، خصبة، كثيفة المداليل؛ وقد استطاع جوزف أن ينقل لغته نقلة نوعيَّة ضمن مسار القصيدة الواحدة من مسار توصيفي سردي؛ إلى مسار تصويري جمالي؛ إلى مسار عاطفي شفاف إلى مسار تأملي نفسي مكثف المشاعر والأحاسيس؛ إنَّه استطاع أن يجعل قصيدته هادرة بالتأمل والثورة الداخلية التي تبث حرارتها بِنَفَسٍ هادئٍ وإيقاع جميل؛ وقد كان الناقد علي جعفر العلاَّق محقًّا فما ذهب إليه، إذْ يقول:
“يبدو لي أنَّ القصيدة الحديثة؛ وبسبب تجوالها الدائم في الضواحي الآمنة من الحياة، لم تَسْتَطِعْ العثور على مواقع الكنوز الخطرة تماماً. لقد كانت الروادع الاجتماعيَّة والأُيديولوجيَّة تتضافر تضافراً مخيفاً، لتسد فضاء الحياة أمام الشاعر، ولتقمع فيه روح المغامرة. أي أنَّها كانت تفرغ نصوصه الحديثة من روافدها الهادرة التي تشدها إلى الحياة وجوهرها الجميل المحيِّر. في معظم الأحيان كانت قصائدنا الحديثة ترعى خارج حقول النار، أو بعيداً عن الكمائن المثيرة؛ تراقب تيار الحياة الهادر من بعيد، مكتفية، مثل غزلانٍ حائرة، بالنظر إلى رغوةِ النهر، أو الإِصغاء إلى ضجّته المائية دون أن تكون جزءاً من حركة هذا النهر أو تأوهاته الطينية البعيدة”(22).
وقد استطاع جوزف حرب أن يجوب الفضاءات الخطرة للقصيدة الحداثية وأن يلتمس أجواءَها الممنوعة؛ وأن يفترش إيقاعها الجمالي الخصب؛ برؤى جزئية؛ خالقة للواقع، بعين حسّاسة ترصد عمق الرؤية؛ ودور الشعر في إيقاظ روح الإنسان من ركاماتها المشوبة التي علقت بها؛ لتطهرها من دنس الماديّات، والواقع المشوب بالتناقض والجدل والاختلاف؛ لهذا؛ نراه في ركام التوصيفات السرديّة القصصية يرتقي بشعريته إلى آفاق إنسانية رحبة، كما في قوله في رثاء والده بنزوع جمالي شاعري للنبض الشعوريّ، إذْ يقول:
“*كانَ قاسِياً مثل جلاَّدٍ قَدِيْمٍ.
كانَ يَضْرِبُنِي كَحَطَّابٍ يَشُقُّ بفأسِهِ في الحقلِ جِذْعَ السنديانِ.
آهِ، كَمْ أخافُ؛ جَسَدِيْ غِلاَفُ،
فيهِ كُلُّ رسائِلِ القضبانِ، والأَكُفِ الَّلامِعاتِ البرقِ، والصَّوَّانِ.
كَمْ بجمرٍ أخْضَرٍ قَدْ كَوَانِيْ.
مِلْحَ بَرْقٍ، ومُرَّ رِيْحٍ سَقَانِي.
ثمَّ يَبْكِي، ويَبْكِي، ولستُ أدْرِي، لماذا كانَ يَبْكِي؛
ويَغْمُرني وهو يغرقُ بالدموعِ
حافراً صوتَ دَمْعِهِ في ضلوعِي، ذائبَ العينِ، والفمِ، كالشموعِ.
* كَمْ كُنْتُ أحبُّ أنْ تُخْبِرَاني كيف ترضيانِ أنْ تَضْرِبانِيْ
إنَّ أبي بَعْدَ ضربي سَيَبْكي، يا يَدَانِ؟!..
* فأَبي الرَّحْمَةُ الخضراءُ، سرُّ القمحِ، ريشُ النومِ، دينارُ الملاكِ، يمامةُ الزيتونِ، جسرُ النَّحْلِ، عملاقُ المَسَا، بَطَلي.
وله ذِرَاعا الشمسِ، كفُّ العيدِ والينبوعِ.
وَهْوَ لِنَشْبَعَ الجائِعُ، والعارِيْ لِكَيْ نُكْسَى.
ولمَّا يعطشُ البردُ بنا.
يَسْقِيْهِ جمراً، من غيرِ أن يَسْقِي عطاشَ الثلجِ في جَسَدِهْ.
يَدُهُ بما فيها من العُنْقُودِ تأتينا إلى فَمِنَا.
ولم نَلْمَحْ على فَمِهِ
ولو يوماً مرورَ يَدِهْ.
كانَ يَضْرِبُنِي الفقرُ، والحلمُ، والظلُّ، لا أبي.
كُنْتُ أنا يا أبِيْ.
ولو كُنْتُ عُنُقًاً حَلَّ قَطْعِي، أو دماً حَلَّ سَفْكِي.
ولهذا كُنْتَ بَعْدَ الضَّربِ تَغْمُرُني وَتَبْكِي”(23)
إنَّ هذا الحسّ التأمليّ في تكثيف الأنساق التشكيليَّة؛ برؤى منفتحة؛ تشي بعمق في تناول الحالة الشعوريَّة؛ إزاء تصرفات والده الطيبة التي تعكس حرصه ومخافته على مصير أبنائه؛ بصور توصيفيّة تتطلع إلى أوج تكثيف رؤاه النابضة بالحبّ، والحنو، على والده رغم قسوته عليه وضربه إيَّاه؛ وما ضربه له وصلابته إلاّ لتنامي حبَّه له للإحساس بالحياة، والوقوف بصلابة وقوة أمام مهيمناتها، ومرتكساتها المؤلمة؛ وهنا، تبدو الرؤى منفتحة، والمداليل عميقة؛ تَتَطَلَّع إلى جسارة المشهد، أمام قوة الحالة التوصيفيَّة التي تشي – بالإضافة إلى عمقها التأملي- برهافة الشعور؛ والنبض الإنساني الشفيف؛ كما في قوله: “كُنْتُ أنا يا أبِيْ./ ولو كُنْتُ عُنُقًاً حَلَّ قَطْعِي، أو دماً حَلَّ سَفْكِي./ ولهذا كُنْتَ بَعْدَ الضَّربِ تَغْمُرُني وَتَبْكِي”؛ وهكذا؛ تبدو إيقاعات قصائده متماوجة مع نبض الإحساس، وألق الشعور؛ بمدٍّ تأمليّ مفتوح، ورؤى عميقة تَتَبَطَّن جوهر الحدث، أو الرؤية الشعوريَّة المجسدة؛ بشفافية متناهية حيناً، وتوصيف مشهدي عميق حيناً آخر؛ مؤكِّداً انفتاح دلالات قصائده، وتكثيف مداليلها على المستويات كلها. وهذا يقودنا إلى القول:
إنَّ شعريَّة جوزف حرب شعريَّة تفصيليَّة للأنساق التأمليَّة، أو شعريَّة مُبَطَّنة؛ تشي بتضافر الإيقاعين الداخلي والخارجي معاً؛ إذْ إنَّها تُشَكِّل جمالها بالتوصيفات المشهديّة التي تخلقها الصور الجماليّة ضمن النسق الشعري الواحد؛ كحالة من ترسيم المشهد بدقة، وتعزيز صدى أنَّات الشاعر وتأملاته الوجوديّة في مسيرة حياته الطفوليَّة، وسيرها الواقعي زماناً ومكاناً؛ وهذا – بدوره- ينعكس على العلائق الصوتيَّة، والمداليل التصويريَّة ذات الخلق الشعوري، والتكثيف الإيحائي.
* نتائج واستدلالات:
إنَّ شعريَّة القصيدة – عند جوزف حرب- شعريَّة تمظهريَّة اختلافيَّة تسعى إلى تأسيس المتغيِّرات والمتباعدات التشكيليّة بخلق أو إثارة دهشتها الإبداعيَّة من دون تكلف في ترسيم أبعاد هذه المتغيِّرات؛ لتكون شعريته شعريَّة ممنطقة بالمتغيِّرات؛ والمنعكسات التوصيفيّة البصريَّة المشتقة؛ لذا؛ يغلب على توصيفاته حركة تجسيديَّة معدَّة أساساً للإشراق والتأمل الوجودي، والترسيم المشهدي المستبطن للتوهج، والإشراق الداخلي من حيث الاكتناز، والتفاعل الشعوريّ، والعمق، والتكثيف، والإيحاء في رسم المشهد ومُمَغْنطة أبعاده؛ ولذا؛ فإنَّ شعريته( شعرية اختلافيّة) في جوهرها، وأسلوبها المعدّ أساساً للتميّز والحراك الدلالي.
إنَّ الأفق الشعري – عند جوزف حرب- ليس محطَّ استقصاء، أو تفكُّر خارجي لمعالم الأشياء؛ إنَّه تأمُّل في جوهر الأشياء، وكينونتها الوجوديَّة؛ ومن هنا؛ لا يحركنا جوزف بالمشهد الخارجي المرسوم للحالة الشعريَّة، أو الرؤية الشعريّة المجسدة؛ وإنما يُفَعِّلنا بالمنحنى الفني الذي يرسم أبعاد الحالة؛ وكأنَّها تحدث بعين الرؤية، وعمق الفكر، وبعد مسارب التأمل، وامتداد الفضاء الفسيح الذي تجوبه نصوصه؛ لتنفتح على رؤى غير متوقعة، ومسارب فنيّة غير مدركة من قبل، بهذا النفس التأملي والرسم الدقيق للحالة الشعوريَّة التي يجسّ أبعادها، بمجسَّات تصويريَّة رهيفة، وشعور جماليّ استثنائي غاية في التدفق، والامتداد التأملي.
إنَّ شعريَّة جوزف حرب شعريَّة الخرق، والاكتشاف، والغوص في أعماق الرؤى المجسَّدة؛ فهي ليست وصفاً خارجيًّا؛ بقدر ما هي استبطان جوهريّ من داخل الأشياء لاعتصار مداليلها العميقة؛ ولذا؛ قلَّما تطرح قصائده الرؤى الوصفية بسطحيّة، أو مناوشة خارجية لمظاهر الأشياء؛ وإنما تغوص – دائماً- في عمق الأشياء، وجدلها الوجودي؛ إنَّها حركة استقطابية مرجعية تخلق تميّزها من انحرافها التأملي، وحراكها الدلالي المفتوح بحيّزات نسقية جديدة تشدّ القارئ إلى سيرورتها دون نفور أو تأفف؛ أو إحساس بالملل؛ وهذه السمة سمة النصوص الفنية العالية المستوى في التشعير والتفعيل النصي.
إنَّ النزوع التوصيفي السردي الممطوط – في قصائد جوزف حرب- لا يقلل من أهميتها، ولا يدني من شعريتها؛ نظراً إلى امتلاكه عبقريّة شعريّة نادرة، قادرة على تحويل الرؤى، والانتقال بمسار القصيدة من مسار توصيفي سردي، إلى مسار تصويري مثير؛ إلى مسار أسطوري نصيّ عميق الرؤى؛ وهذا الأسلوب الانزلاقي من رؤية إلى رؤية؛ ومن مشهد بصريّ إلى مشهد تخييلي تأملي عميق؛ يثير القارئ من خلال نسق شعري مغاير شكلاً ومنحًى دلاليًّا مفتوحاً؛ ومن هنا، تحاور نصوصه قارئها من خلال مخزونها الدلالي، وإحاطتها بالمشهد التعبيريّ؛ مشعرة القارئ بلذة المغايرة، وفنية المواءبة التي تملكها نصوصه الشعريَّة حتى في خضم التوصيفات السرديَّة المتراكمة في بعض مساقاتها الشعريّة.
أخيراً؛ نقول في نهاية المطاف:
إنَّ شعريَّة جوزف حرب شعريَّة اختلافيَّة بامتياز بعيدة عن الانحياز النسقي العبثي؛ إنَّها شعريَّة متمرسة لا تقيد نفسها في إطار؛ ولا تنزع نزوعاً تاماً باتجاه محدّد؛ إنها سيرورة دائمة من المتغيِّرات، والمفاجآت، والانزلاقات التشكيليّة، والأساليب التصويريَّة المثيرة؛ إنها شعريَّة إن شئت لغويَّة؛ وإن شئت تصويريَّة؛ وإن شئت إيقاعيّة؛ وإن شئت نفسية، ورؤى دالالية منزلقة؛ وفضاءات تأملية مفتوحة؛ وتجارب حارة ملتقطة من حيّزها الواقعي؛ إنها شعريَّة منفتحة بألق وجودي دائم، وثراء لغويّ بالغ الغنى، والاكتناز المعرفي؛ يضاف إلى ذلك ما تملكه من حسٍّ شعوريّ، وامتداد في التخييل، وانفساح في آفاق الرؤى المجسدة؛ ولذلك، تشكل تجربته مساراً نصّيًّا في فضاء القصيدة الحداثية؛ بتخليقها الشعريَّة من جوهرها الأصيل الذي ينبع من باطن الذات، وبؤرة النصّ، وتشكيلاته النصّيّة؛ وحراكه الدلالي، وتميّزه فضاء نصّيًّا، وأفقاً معرفيًّا تأمليًّا عميقاً في طبيعة الخلق وطبيعة الكون؛ ولذلك، فقصائده لا تحايث عالماً محدّداً مدركاً، وإنما تنفتح على عوالم متجدّدة، بتجدّد ألقها، وسيرورتها الوجوديَّة؛ لذلك فهي متغيرة بتجاوز الحاضر إلى آفاق المستقبل، وتأملات الوجود.
(1) حرب، جوزف، 2002- شيخُ الغيمِ وعكَّازُه الريح، دار رياض الرَّيْس، ط 1، لبنان، ج 1/ ص 63- 66.
(2)العلاَّق، علي جعفر، 2010- من نصّ الأسطورة إلى أسطورة النصّ، ص 30- 31.
(3) حرب، جوزف، 2002- شيخُ الغيمِ وعكَّازُه الريح، ج 2/ ص 296- 298.
(4)المصدر نفسه، ج 1/ ص 294- 295.
(5)العلاَّف، علي جعفر، 2007- ها هي الغابة فأين الأشجار، ص 31.
(6)حرب، جوزف، 2002- شيخُ الغيمِ وعكَّازُه الريح، ج 2/ ص 298- 299.
(7)المصدر نفسه، ج 1/ ص 300- 302.
(8) المصدر نفسه، ج 2/ ص 326- 328.
(9) المصدر نفسه، ج 2/ ص 330- 331.
(10) المصدر نفسه، ج 1/ ص 282- 284.
(11) عيد، رجاء، 1985- لغة الشعر، منشأة المعارف بالإسكندرية، مصر، ط 1، ص 94.
(12) حرب، جوزف، 2002- شيخُ الغيمِ وعكَّازُه الريح، ج 2/ ص 224- 227.
(13) عيد، رجاء، 1985- لغة الشعر، ص 95.
(14) المرجع نفسه، ص 151.
(15) حرب، جوزف، 2002- شيخُ الغيمِ وعكَّازُه الريح، ج 2/ ص 289- 290.
(16) حرب، جوزف، 2008- كلُّكَ عندي إلاَّ أنتْ، دار الرَّيْس، ط 1، ص 12- 13.
(17) حرب، جوزف، 2002- شيخُ الغيمِ وعكَّازُه الريح، ج 2/ ص 122- 123.
(18) المصدر نفسه، ج 1/ ص 114- 115.
(19) عبد الله، ستار، 2010- إشكاليّة الحداثة في الشعر العربي المعاصر، دار رند، دمشق، ط 1، ص 105.
(20) حرب، جوزف، 2002- شيخُ الغيمِ وعكَّازُه الريح، ج 2/ ص 146- 147.
(21) العلاَّف، علي جعفر، 2007- ها هي الغابة فأين الأشجار، ص 33.
(22)حرب،جوزف،2002- شيخ الغيم وعكازه الريح،ج2/ص145-146,
(23) المصدر نفسه،ج1/ص143-144.