بين أورخان وأورهان باموق



علي بدر


كان إعلان محاضرة أورهان باموق الفخم مزيّناً بصورة كبيرة ملونة له، موضوعة في إطار معدني باهر. الصورة معروفة تقريباً، إنها تلك التي تظهره بنظارته ذات الإطار المعدني الكبير وجاكيتته السوداء من دون كرافات، التقطها له المصور التركي المشهور مراد تورميج، ونشرتها بعض الصحف الفرنسية الكبيرة مثل اللوموند والليبراسيون والفيغارو، وغيرها. كان هذا الإعلان بلغته المعبرة، وأسلوب تقديمه في حقيقة الأمر مغرياً وجذاباً، بالنسبة لي على الأقل، أنا الذي التقيت به أول مرة في عام 2005 في اسطنبول، قبل أن تُطبق شهرته الآفاق، وتصبح أعماله الروائية ذائعة الصيت. كما أني قرأت جميع رواياته تقريباً، خلال السنوات الماضية، حتى قبل ترجمتها للعربية في أحيان كثيرة، وربطتني بالصدفة ببعض مترجميه إلى اللغات الأجنبية صداقة حية. كان لقائي الثاني حدثاً آخر. جاء في يوم ربيعي جميل في مدينة ليون الفرنسية، التي تقع إلى الجنوب من باريس، وإلى الشمال من مارسيليا عاصمة المتوسط. في مهرجان «الأسيز دو رمون»، واحد من أكبر مهرجانات الرواية العالمية في أوروبا، بل هو أكبرها على الإطلاق. وكنت مدعواً ذلك اليوم، لقراءة مقاطع من روايتي «بابا سارتر» التي كانت ترجمتها قد صدرت تواً عن دار «لو سوي» الفرنسية.
كان إعلان محاضرة باموق هو أول إعلان أراه من برنامج المهرجان، ويحمل ماركة مهمة في الثقافة المعاصرة: حوار حول الهوية الأوروبية والهوية الإسلامية في تركيا، الحداثة والالتزام بالتقاليد، الإسلام والمعاصرة. إنها بحق عناوين لجدل محتدم في عموم العالم ومن قبل نخب مثقفة متعددة، ومختلفة الأهواء. وكان باموق ذلك العام نجم هذا المهرجان العالمي بلا منازع، ذلك أن التقليد السنوي للمهرجان يقتضي أن يقوم مهرجان الرواية العالمية باستضافة شخصية روائية من العالم، بعيداً عن جنسه أو ثقافته أو لغته، يطلق عليه لقب «نجم المهرجان». فمرة من الصين، وأخرى من السنغال، ومرة من اليابان. وهذا العام كان باموق هو النجم، الذي استأثر بالدعاية كلها على ما يبدو، وصادف في الوقت ذاته صدور روايته «جودت بك وأولاده» بالفرنسية، عن «دار غاليمار»، وهي أول رواية كتبها باموق.
مدينة البرجوازية الفرنسية
وصلت مدينة ليون الفرنسية صباحاً، قادماً من معرض الكتاب في جنيف. محطة القطار كانت مزدحمة. مطر الصيف غسل الأرصفة فهبت نسائم منعشة. المدينة الجميلة هي عاصمة مقاطعة الرون ألب، جنوب شرق فرنسا، حيث يلتقي فيها نهرا الرون والسون. كما أنها مدينة البرجوازية الليونية التي اشتهرت بمعامل نسيج الحرير والرايون. لم تكن محدثتي بعيدة عن الواقع، كانت سيدة في منتصف العمر تمسك بيدها دفتراً صغيراً، حين قالت إن أهمية ليون تكمن في تاريخها! كانت عاصمة بلاد الغال القديمة! لم أستغرب، فالفرنسيون مولعون بالتاريخ القديم. شهرة المدينة في اختراع طريقة الجاكار في النسيج، جعلها مدينة الموضة في ملابس النساء. ونحن نمر بالسيارة كنا نشاهد على عجل مبنى أوبرا ليون. معهد الضوء. متحف البوزار الذي يحتل دير البندنكت القديم. قصر سان بيير، المتحف المصغر لمتحف اللوفر. وهنالك في الوقت ذاته أكثر من ثلاثين متحفاً منتشراً في المدينة.
محاضرة باموق
قاعة السوبزيستانس مطلة على نهر السون. أما المدينة القديمة فهي على نهر آخر: نهر الرون. القاعة الرئيسية كانت قد امتلأت قبل بدء الحوار بساعتين. البطاقات نفدت قبل أشهر، وهنالك جمهور أوسع يراقب المحاضرة على شاشات كبيرة في الباحة الخارجية وهم يشربون النبيذ. هذا المهرجان يقدم صورة باهرة عن تطور فصل الشهرة، وفصل النجومية التي لحقت بالأدب، بالرواية على نحو خاص، وإن متأخرة بعض الشيء عن الفنون الأخرى، كالموسيقى والسينما والرياضة، فأورهان باموق كان نجماً حقيقياً، ولكل ما للنجم من سيطرة ونفوذ، فضلاً عن أن صناعة النجوم مهنة فرنسية بامتياز، وهي حرفة متقنة ولها تاريخ بعيد. لذا كان كل شيء في غاية الترتيب والاحتراف. دخل باموق القاعة مع سيدتين شهيرتين في فن الحوار في فرنسا، على وقع تصفيق لم ينقطع من الجمهور حتى بعد جلوسه! مع صور كبيرة له ولكتبه تزيّن الخلفية، وإعلان عن فيلم عنه بعد المحاضرة، والسماح للمصورين بالتقاط الصور له وهو جالس. بعد دقائق من الصمت، تولت السيدة الأولى تقديمه إلى الجمهور، وهو أمر تقليدي في المحاضرات الثقافية. أما الثانية فأخذت مهمة طرح الأسئلة على المحاضر، ومع أن الأسئلة التي طرحتها كانت من النوع الجاد ولم تكن من تلك التقليدية أبداً، إلا أن المفاجأة هي أن باموق لم يلتفت لها ولا لأسئلتها، فقد انشغل بتلفونه الجوال! وواصل الضغط على أرقامه، وأخذ يكتب بعض الرسائل النصية ويبعثها. لقد بهتت السيدة مصدومة لتصرفه، لكنها ضحكت مداراة لإحراجها. كان يطلب منها كل مرة إعادة السؤال، وقد كرر ذلك أكثر من مرة. مع ذلك كانت إجاباته بعض الأحيان بعيدة عن الأسئلة المطروحة بمسافات شاسعة، وفي أحيان كثيرة يسهب في شرح تفاصيل مملة عن حياته الخاصة، ولكي يكمل المشهد أخرج كاميرا ديجيتال من جيبه وأخذ يلتقط الصور للجمهور الذي كان يلتقط الصور له!
من لا يعرف باموق سيستغرب ذلك، ولكن الذين يعرفونه يعتبرون هذا الأمر جزءاً من شخصيته. شخصية محيرة في أشياء كثيرة، منها الفارق الفادح بين رصانة رواياته وموضوعاتها والعبث الطفولي الذي نراه أمامنا. أما الوعد الذي قدمه الإعلان عن محاضرته ففي الواقع لم نر منه أي شيء. فكانت إجابات باموق تنصب على حياة عائلته التركية بين زمنين زمن الحداثة وزمن التقليد، إذ يستعيد من ذاكرته بعض ما ذكره في كتابه إسطنبول، وبعض ما كتبه في مقالته الشهيرة «حقيبة والدي»، وهو الخطاب الذي ألقاه في ستوكهولم عشية تسلمه جائزة نوبل، في عام 2006.
أورخان الذي عرفته
تعرفت على باموق في عام 2005 في اسطنبول، قبل حصوله على جائزة نوبل، الجائزة التي جعلته مقروءاً بـــ44 لغة في العالم. وكان اسمه الأول يرن في ذاكرتي على أنه أورخان، الاسم التركي التقليدي والذي خزنته ذاكرتنا من التاريخ، من التحام اللغتين العربية والتركية، قبل زمن الأتاتوركية الذي ذهب باللفظ بعيداً عن الآثار العربية الإسلامية. جمعتني به صحافية أميركية في منزله في اسطنبول. حينها كان باموق نجم الصحافة وليس الأدب. فقد صرح في العام ذاته لمجلة سويسرية، هي نويا تسايتش زويرخ: «بأن مليون أرمني وثلاثين ألف كردي قتلوا على هذه الأرض لكن لا أحد سواي يجرؤ على قول ذلك». على أثر هذا الكلام تمت ملاحقته قضائياً من قبل بعض القوميين، وتم تهديده بأساليب متعددة بما فيها التهديد بالموت. وكنت رأيته في تلك الأيام العصيبة التي أنتجت له حالتين متناقضتين: اهتماماً كبيراً في الصحافة الغربية ونكراناً بالدرجة ذاتها من بعض مواطنيه. والحق أقول إنه لم يترك لدي انطباعاً مختلفاً، حتى في اللقاء الأول، بالرغم من بساطته ولطفه كإنسان إلا أن هذا الكاتب: طويل القامة، بدا لي ومنذ اللقاء الأول متلعثماً في الكلام، ومرتبكاً على الدوام. كان يتكلم اللغة الإنكليزية بلكنة أميركية متكلفة! صوته كان عالياً. يتحرك كثيراً ولا يكاد يستقر في مكان. أصدقاؤه معظمهم من الأميركيين ومن النادر أن تجد تركياً بينهم، ذلك أنه عاش سنوات عدة في أميركا حينما كانت زوجته الأولى ألين ترخون تدرس تاريخ الفن التشكيلي في جامعة كولومبيا، ومن أبحاثها كما صرح مرة اهتدى إلى روايته الشهيرة «اسمي أحمر». ولم أكن قرأتها وقتها، ولكني قبل يومين من لقائه قرأت رواية «ثلج» وقد صدرت حديثاً باللغة الإنكليزية بترجمة مورين فريلي، وكنت اشتريتها من مكتبة من شارع الاستقلال، وهي الرواية التي تبحث في موضوع باموق الأثير: العالم الإسلامي بين التقليد والحداثة، ومع أن رواية «اسمي أحمر» التي تتحدث عن المواجهة بين الشرق والغرب في ظل الإمبراطورية العثمانية في نهاية القرن السادس عشر، هي التي أطلقته غربياً، ولا سيما بعد أن كتب عنها الناقد الماركسي الكبير فردريك جيمسون، إلا أني لم أحبها، بل وجدتها كما لو كانت التقليد الإسلامي لرواية «اسم الوردة» لأمبرتو إيكو، فيها الكثير من تقليد الصنعة للروائي الإيطالي، وتقليد عوالمه، ولا يخفي باموق إعجابه بإيكو، وإعجابه بهذه الرواية بالذات. ومن المؤسف أن روايته «ثلج» أُهملت، وهي الأهم من بين رواياته، لما لها من قدرة على تحليل موضوعات مهمة وحالية في الشرق الأوسط، ورسمها لعالم مدينة قارص في المثلث الذهبي: الإرهاب، التعصب، والفقر.
باموق المثقف باموق الملتزم
كان باموق ما قبل «نوبل» مختلفاًـ أعماله الروائية أخذت بريقها من مواقفه الإنسانية. تطرقه للموضوعات السياسية بيسر، وبفجاجة أحياناً، يذكر بالدور الذي على المثقف أن يضطلع به في العصر الحديث. إنه دور أساسي دون شك في صياغة العالم الحديث، فقد انتهى دور المثقفين كحراس للثقافات الكهنوتية وابتدأ دور المثقف النقدي مع الفكر الغربي الحديث، فمهما كانت الاجتهادات سواء أكانت أخلاقية أم إيديولوجية فهي قائمة من أجل تحطيم الثقافات السائدة والموروثة، إنها تطيح بالسلطة الخارجية، مهما كانت هذه السلطة، وتؤسس لأرواح حرة وعقول مغامرة. من هنا كان اهتمامي بباموق، أورخان الذي عرفته، والذي انضم بقوة إلى عصر التساؤل في العالم الإسلامي، الذي دشنه محفوظ من دون شك، وقد رسم بصورة رائعة دور المثقف المتنور في محاربة سلطة الإكليروس على خلفية درامية. إلا أن باموق بعد نوبل ذهب إلى ميدان آخر، كان الغرب يريده له، أصبح متصدراً مجلات الفضائح، في البداية بسبب علاقته مع الفنانة الأرمنية التركية التي تصغره بثلاثين عاما، وبعدها بعلاقته مع الكاتبة الهندية كارين ديساي ابنة الكاتبة أنيتا ديساي، التي حصلت على جائزة البوكر في عام 2009، وقد التقط لهم صحافيو الفضائح البرابازي الصور على البلاج، فكتبت الصحف الفرنسية في عناوينها ساخرة: «العلاقة بين المسيو نوبل ومدام بوكر».
المعتقد السائد أن المثقفين ليسوا أكثر حكمة ولا أكثر قيمة – كمصلحين – من السحرة أو رجال الدين القدامى، وعلى معرفتي العميقة، أن المثقفين مثل غيرهم فردانيون وانشقاقيون، ولكنهم كمجموعة قادرون على خلق مناخ عام سائد من الآراء والأفكار التي تؤدي الى مسارات غير منطقية ومدمرة. وكم صدمني بول جونس حين كتب عن ماركس مثلاً في كتابه «كذبة المثقفين»، فقد بين أن ماركس لم يكن مهتماً بالبحث عن الحقيقة، وانما بالمناداة بها، بل أن كتابه الرئيسي «رأس المال» والذي غيّر البشرية أكثر من أي كتاب آخر، كان عبارة عن سلسلة مقالات أُدمجت في بعضها دون بنية حقيقية. ماركس الذي طبع عصراً كاملاً بشخصيته وبكتبه، كان يعيش من أجل نفسه لا من أجل عصره، ماركس الذي كان قائد العمال لم تطأ أقدامه مصنعاً أو منجماً أو مكاناً فيه عمال، بل كان يرى العمال علفاً لمدافع الثورة ولا أكثر. ماركس الذي لم يؤمن بإله، كان مؤمناً بنفسه، ماركس الحب كان قلبه ممتلئاً مرارة، ماركس العطف كانت تقتله الغيرة. أنا من جهتي لا أظن الأمر ينطبق على أورخان، ولكن ربما ينطبق على أورهان الذي أفقدته نوبل براءته.
* روائي عراقي
________
كلمات
العدد ٢٨١٨

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *