سناء البيسي*
كـلاهما رحيله مر… صعب على الأذن والقلب.. ثِقل يرزح على أكتاف الثبات.. وقع له أصداء الكدرْ.. رثاء لا يقوى عليه القلم.. منزلة لا تدانيها منزلة.. مكانة عملاقة تصعد إليها بسلم ناطحة سحاب.. قلعتا فِكر حجارتها قُدّت من ذهب.. ريادتان أنجبتهما لمصرنا الأيام.. هرمان للحياة وليسا الموت.. رايتان خفاقتان فوق سارية الوطن.. نبعا معرفة لا يأتيهما في إرثهما نضوب.. نموذجان محال أن يتكررا.. صنوانا اتجاه تباعدا وتلاقيا في ميدان السياسة.. نهران زاخران حفرا مجرييهما في أديم جغرافيا وتاريخ مصر الحديث.. كـلاهما ترك الساحة ومضى فغدت من بعدهما شاغرة هامدة قاحلة جوفاء.. كـلاهما في رحيلهما التتابعي أمرٌ جلل.. كـلاهما كان لانقضائه إرهاصات وتوقعات يرفعنا بعضها لسماء الأمل وذكر كبوة الحصان الذي يستعيد لياقته بحكم قواه الذاتية الخارقة، وقوة شكيمته التي حطمت سدود عقود السنين ليعاود العدو الذي عودنا عليه للحصول من جديد على قصب السبق، وأخرى تهبط بنا إلى شر التوجس من سماع الخبر الأليم، وأنه قد آن للروح العودة لبارئها وإنا إليه جميعا لراجعون، وأنه قد أُذن في النهاية للمريض بالرحيل.. لكنها التوقعات جميعها: في أمانها وقلقها، وفي طمأنينتها وتخوفها كانت بمثابة الدرع الواقية من صدمة المواجهة، والوقوف لفترة التقاط الأنفاس على أرض لم تزل تحتفظ بثباتها لم يصلها بعد توابع الزلزال.. بطرس مات.. و.. هيكل مات.. وكل شيء على المدي بلون الموات.. سبحانه.. ولو كنتم في بروجٍ مشيدة.. يااااااه.. كل تلك المساحات العريضة التي كانت ممتلئة بهما سقط حائطها الرابع وسقفها وذبلت حدائقها واشتد بردها وقيظها وفقدت مؤشر مناخها، لتدخل في كردون المدينة وشواغلها وناسها وأقلامها التي أصاب كثيرها عوج، وشاشاتها التي أصاب كثيرها حول، وسكتها الحضيض، وأخلاقياتها التي ذهبوا يرممون انهياراتها بالاستعانة بصديق له ماض غير مأمون وعلى غير المستوى!!
يااااااه.. كل ذلك العطاء والتواجد والنشاط والحوار والسجال والمقال وبصراحة والفرانكفونية وبدر البدور والأهرام والأمم المتحدة والتحليل والرؤى وقراءة الأوضاع ورصد الاتجاه ومتابعة القضايا والقرب والبعد والقلم والورق والذهاب والإياب والطيران والهبوط وتأشيرات السفر وساحات القتال ومعاقل الاعتقال وحدود التعدي وتعداد المهاجرين وسياسات الدول وخيام اللاجئين وانهيارات الأنظمة وتقسيم الخرائط ولقاءات الملوك والرؤساء والزعماء وفنادق الكون وشاشات الأمم وميكروفونات المنصة وحوارات لميس والقضية الفلسطينية وانتظار بدر البدور ومذكرات الأمس! توليفة مصرية خالصة النقاء نشأت وترعرعت على أرض النيل لتغدو بإصرارها عظيمة عالمية يشار إليها بالبنان، وتنتظر الملايين قولها الحكيم، ويقف مجلس الأمن على حيّله ترحما عليها.. كل ذاك راح وانقضى وأصبح كما سنصبح جميعنا في حكم الذي مضى.. الدكتور بطرس.. الأستاذ هيكل.. أين مني أحدهما أأتنس به في غربة الآخر.. ولكنهما كأنهما كانا على موعد.. ولكنهما كأنهما قد قررا الذهاب معا.. ولكنهما كأنهما كان أسماهما مكتوبين على التوالي في لوحة القدر.. ولكنهما كأنهما انتصفا التذكرة على متن جناح طائر الموت.. ولكنهما كأنهما أرادا أن يديرا ظهريهما معا ويغادران معا ويبكيانا معا ونستوحشهما معاً ونرثيهما معاً.. وتتداخل الحروف في سرد الذكريات مع كل منهما، وتضع الحروف رؤوسها على صدر الكلمات علّها تواسيها بشدّة تشد من أزر تداعيها، أو بواو العطف بعدما تركنا ينبوعا العطف في عراء العسف، أو بعلامة السكون كي تسكّن من آلام الفراق الذي مزقنا برحيل الدكتور لتعقبه وفاة الأستاذ كفصل الختام للرجالات العِظام..
الدكتور بطرس
خارجة من فم الأسد داخلة غرفة الإنعاش تكبلني سلوك وأنابيب تربطني بالأجهزة وتجمع أنفاسي تحت طائل قناع الأكسجين أياما وليالي نزيلة جناح الحالات الحرجة بمستشفى القلب بكليفلاند بعدما أجريت لي جراحة القلب المفتوح.. وكان قلبه معي.. السكرتير العام للأمم المتحدة ــ وقتها ــ ابن بلدي وجار مكتبي لسنوات طويلة بالدور السادس بالأهرام عندما كان رئيسا لتحرير مجلتي «السياسة الدولية» و«الأهرام الاقتصادي».. الدكتور بطرس غالي.. من كان الدكتور استافنيوس المصري مدير المستشفى الكبير يبلغني باهتمام بالغ بأمر الاتصال اليومي العالمي بمكتبه للاطمئنان على حالتي ومتابعتها.. ورغم مرورى برحلة عنق الزجاجة كان التليفون الحميم القادم من مبني الأمم المتحدة بمثابة لمسة تشجيع لضخ دفعة جديدة من الهواء للصدر الذي أخرج الطبيب قلبه ليرتقه ويعيده إلى موضعه في الناحية الشمال ليدق إيذاناً بمولد جديد.. و.. دكتور بطرس لسنوات طويلة ظل يجمعنا طبيب قلب واحد هو الدكتور لطفى بسطا وكانت عيادته في أول دور بشارع ثروت بوسط البلد قبل سفره لأمريكا ليغدو أشهر أطباء الرئاسة بالبيت الأبيض بواشنطن، وليغدو مريضه الآخر أشهر شخصية عالمية في الأمم المتحدة بنيويورك.
بالأمس رحل الإنسان الجميل الذي أنشأ منظمة حقوق الإنسان في مصر بقناعة القاضي الذي يمليه نقاء ضميره ليحكم بالعدل، وعدل الإنسانية التي لا ترضى بالضيم لأحد من بني الإنسان.. الدكتور بطرس من كان يسبق محاضرته في السوربون مهرجان من التبجيل والتكريم والدعاية التي لم تنلها يوماً شخصية أكاديمية أخرى حتى الفرنسية منها، فقد كانت صوره الشخصية تتصدر ملصقات الحوائط والأبنية الجامعية متجاوزا بذلك نجوم السينما الفرنسية مثل إيف مونتان وألان ديلون.
الدكتور ابن الأكابر الصحفي والمحاضر والدبلوماسي ربيب حي الفجالة بالظاهر خفيف الروح والدم لاذع النكتة ابن الذوات وابن البلد الذي ولد في سراي عائلته بالسكاكيني التي تضم مائة غرفة، وكانت أسرته وحدها تمتلك 2200 فدان.. عندما غادرت يوما جلسته الثرية الممتعة بمكتبه في عام 1977 بعدما آثرت الجلوس إليه منصتة إليه على العمل المضني معه ــ بعدما اختارني لأرسم أغلفة مجلة الأهرام الاقتصادي التي يرأسها وظل وجه هتلر الذي رسمته لا يعجبه ليجبرني على إعادته مرات أقسمت بعدها ألا يكون لهتلر ولا غيره الطريق الممهد إليه، وطوال معرفتي به كنت مقدرة ومواسية للعاملين معه لإصراره على طلب الكمال منهم ــ همست يومها لزوجي بأن طموح الرجل قد ذهب به بعيداً جداً، وذلك عندما جاء على لسانه بأن قناعته في وصوله إلى منصب وزير الخارجية أمر حتمي وملزم.. وكان من حيثياته لهذا الوصول ذكره أن عائلته لها تاريخ في تولي مناصب مصر المهمة، لأن جده كان رئيسا للوزراء ووزيرا للخارجية عندما كانت مصر جزءا من الإمبراطورية العثمانية، وعمه كان وزيراً للخارجية في الفترة ما بين الحربين العالميتين، وأحد أعمامه الآخرين قد شغل منصباً مماثلاً من عام 1914 إلى 1922 في وقت الحماية البريطانية.. وكانوا يسألونه طفلاً حتطلع إيه يا بطرس؟ فتأتي إجابته الفورية: عايز أطلع وزير!.. وتمر السنين وأذهب إليه في بيته بالزمالك ليلة 2 ديسمبر 1991 لإجراء حوار صحفي شامل كان من حظى أن تنقله جميع وكالات الأنباء العالمية، فقد تم في صباحه اختيار الأمانة العامة للأمم المتحدة له لشغل وظيفة الأمين العام ليستمر في منصبه خمس سنوات، وكان الدكتور بطرس قد صرح في حديثه لي بأنه متأكد من توليه المنصب ليغدو هذا التصريح بمثابة المانشيت العالمي للصحف الخارجية، وتمضى الخمس سنوات ليفشل الغالي في النجاح بولاية ثانية بعد المعارضة الشرسة من الولايات المتحدة له بسبب التقرير الذي قدمه مؤكدا فيه مسئولية شيمون بيريز وجيشه عن مذبحة قانا، ورغم الضغوط الأمريكية والإسرائيلية التي مورست على بطرس غالي وقتها لإجباره على التستر على مضمون التقرير فإنه أبى ولم يحد عن موقفه، إلى جانب مطالبته من موقعه الدولي إسرائيل لدفع تعويضات لضحايا المذبحة، الأمر الذي استشاطت إسرائيل غضبا منه، ليحلل بعدها بطرس ذلك الرفض الأمريكي بقوله «أظن أن الهدف كان إعطاء درس وتوجيه تحذير إلى الأمناء العامين المقبلين مغزاه أن من لا يتبع تعليمات الولايات المتحدة الأمريكية فسيكون مصيره مثل مصير بطرس غالي».
بطرس.. صاحب المبادرات والأفكار السياسية المستقبلية والتاريخ الحافل الحائز على جوائز وأوسمة ورتب فخرية من 24 بلدا منها جائزة السلام التي منحتها له مؤسسة يوثانت في عام 2011 كان من دعا وأعد وافتتح أول مؤتمر دولي للمناخ بالبرازيل عام 1992 مرحباً بنتائج مؤتمر باريس الأخير وما عبر عنه الرئيس عبدالفتاح السيسي فيما يتعلق بتداعيات وتأثيرات مشكلة التغيير المناخي على الشعوب.. ومن آرائه في الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي أنه منذ توليه المسئولية لديه رؤية ثاقبة وبرنامج عمل وطني يشمل مجموعة من السياسات المتناغمة تبدأ من الدفاع والذود عن الوطن وتحقيق أمنه واستقراره، وتحقيق التنمية وإقامة المشروعات القومية الضخمة، وإعادة رسم خرائط المحافظات بما يجعلها مناطق جاذبة للاستثمار، وأضاف بطرس أن السيسي يعمل بإخلاص بالغ ولديه إرادة وعزم على اقتحام المشكـلات المتجذرة والعمل على حلها، وفي آخر حواراته الصحفية لصحيفة (جون أفريك) الفرنسية جاء قوله: «عرفت السيسي قبل توليه السلطة، وهو رجل يجيد الاستماع، وأسئلته ذكية، وكان قد تردد كثيرا في تولى السلطة لكنه قرر أن يفعل ذلك لأنه لا يوجد حل آخر، وهو يحتاج من سنتين إلى ثلاث لتحقيق الاستقرار الكامل للبلاد، وهو الذي أنقذ مصر من أصولية الإخوان».. ومن أبرز أطروحات غالى وقت وجوده في الوزارة في فترة حكم السادات والوحدة بين مصر وليبيا إنشاء (الولايات المتحدة العربية) مع إنشاء عاصمة عربية تتوسط مصر وليبيا.. ومن مبادرات غالى عام 1977 كيفية جعل «البحر الأحمر بحيرة عربية» مادامت الدول المطلة على شواطئه تكاد تكون كلها عربية، ومادامت مفاتيح منافذ البحر الأحمر في أيد عربية حيث يجب أن يصبح أداة تكامل وترابط بين الدول العربية المطلة على شواطئه.. أحلام غالية للراحل الغالي الذي أكد في قضية سد النهضة أن يكون الحل سياسيا، وأن النيل لابد وأن يكون مصدر تعاون للدول وليس للخلاف والنزاع بين الشعوب.
الدكتور غالي ما زلت أذكر سهرة تمنيت ألا تنقضي بزخمها وثرائها وحلو حواراتها وندرة مفرداتها الأدبية والفنية والإنسانية التي أضاءها في منزلي بنور عقله وسمو تذوقه واشعاعات حضوره صاحبته فيها قرينته السيدة ليا غالى مع الدكتور سامي الدروبي أعظم أدباء سوريا ـ الذي قام بمهمته الخالدة في ترجمة جميع أعمال الأديب الروسي دوستوفسكي إلى العربية التي تنافس في بلاغتها لغتها الأصلية ــ ليلتها استمتعت إلى ثنائي العطاء الفكري والإنساني عندما تصافح عيناهما العطاء الفني ممثلا في لوحات زوجي الفنان منير كنعان المعلقة حولنا فوق الجدران.. وإذا ما كانت ثروة الدكتور بطرس بطرس غالي ــ الذي لم ينجب من زوجتيه السابقة والحالية ــ يشار إليها بالبنان بحكم إرث العائلة العريق إلى جانب ما استحقه مقابل مناصبه الكبرى فجميعها تنزوي خجلاً إلى جانب قيمة قطعة من القماش في حجم المنديل أو المفرش الصغير لكنها تحمل رسما زيتيا ممهوراً بإمضاء صاحبها الفنان العالمي «ماتيس» الذي خرجت أسعار لوحاته عن حدود العقل والتي اصطحبني الدكتور بطرس ليُريني موقعها بين رفوف مكتبته الثرية بكتب التراث والفقه والقانون والفن الإسلامي، وتجولنا معا بين مقتنياته الفريدة من الفنون الشعبية الافريقية التي تتصدرها جوقة من البجع المصنوع من الفضة تشكل أوضاع سيقانه الطويلة هارموني بحيرة بجع أخرى للموسيقار تشايكوفسكي.. ويعود للدكتور بطرس الفضل في إهدائه عام 2009 درة الكتب المخطوطة باليد في نسخة أصلية من كتاب «وصف مصر» لمكتبة الاسكندرية الذي يمثل أثمن وأهم الكتب عن أرض مصر بكل جوانبها في 20 جزءاً وشارك فيه أكثر من 150 عالماً و2000 متخصص من خيرة الفنانين والرسامين والمثقفين الذين رافقوا نابليون أثناء الحملة الفرنسية، وقبل رحيله كان حريصا على إهداء 13 ألف كتاب نادر لمكتبة المجموعات الخاصة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة إلى جانب أرشيفه الخاص بما يحتويه من مكاتبات ومحاضر اجتماعات وصور وخرائط في مسيرته الشخصية والمهنية.
ومضت السنوات وما بيننا تأهيلا بقدومه للقاهرة عبر التليفون ورغبة دائمة في الجلوس إليه على الطبيعة ولم تشأ لنا الأيام حتى التقيته أخيرا مُلبية دعوته للعشاء بمنزله لأؤكد له مجاملة أن لا شيء فيه قد تغيَّرَ فيشكرني قائلاً: لم أفهم أبداً أصدقائي الذين يدّعون أننا نتوصل بمرور الوقت إلى التحرر من سيطرة الزمن، ومن أسره، وأن الشعور بمضي الزمن يخْف مع العمر كأن الشيخوخة تدخله في سبات!!
الأستاذ هيكل
في الليلة الظلماء يُفتقد البدر وها قد فقدنا البدر.. لا يا سيدي لست كأي واحد فينا يتركنا ويروح لحاله ولمصيره المحتوم.. لا.. أنت بالذات دون أي غيرك لغيابك وقع ولموتك هلع ولحزنك ورع، وفي رثائك يسقط الدمع يبلل الحبر والورق لتغدو الكلمات المتشحات بالسواد مغسولة بالوفاء والحنين والأنين.. سألتك يوماً عن دموعك فقلت لي إنك بكيت مرتين.. «الأولى في جنازة عبدالناصر لأنه كان صديقاً قريباً مني للغاية، وسيبقى أبداً اعتقادي بأنه ليس فقط إنساناً عظيماً وإنما تاريخ عظيم»، والمرة الثانية عند علمك بوفاة السادات وأنت في ليمان طرة في اليوم التالي لمقتله «لأننا كنا معزولين داخل الأسوار عزلاً كاملاً عما يجري خارجها، وعندما صدرت التعليمات بإمكانية نقل الخبر إلينا أتانا مأمور السجن لينقل لنا نبأ الوفاة على أنها نتيجة أزمة قلبية، فوجدتني لا أستطيع التحكم في دموعي».. ولابد وأنها كانت المرة الثالثة يا أستاذي التي أبكتك عندما أبلغت وأنت في الخارج بحريق مزرعتك في برقاش عقب فض اعتصام رابعة والنهضة بساعتين بقرار إرهابي من جماعة الإخوان الذين أعلنوا ما أسموه القائمة السوداء بأسماء الكتاب الذين دعموا الفض وضمت في المستهل اسمك الرنان ليشتعل الحريق الذي أتى على كنوزك من الكتب والمخطوطات والمراجع والمذكرات التي بلغت ثمانية عشر ألف كتاب إلى جانب اللوحات الفنية النادرة التي كان بينها أروع لوحات الفنان كنعان، والتي نزل اقتناؤك لها برداً وسلاماً على القلب لأنها أصبحت من بعد مكمنها في الحرز الأمين والعرض الجميل، ومن هنا كانت وجيعتنا واحدة عندما التهمت ألسنة نار الإخوان كل غالٍ علينا وثمين… وعلى ذكر الدموع فقد جعلتها يا أستاذي يوماً تترقرق في عيني عرفاناً بالجميل عندما هبط فجأة الأمر العلوي من فوق بإزاحتنا بين يوم وليلة من مواقعنا كرؤساء تحرير، فأزحت القلم والورق، وصورة الغلاف، وحملت حقيبتي، وروحت بيتي ويمين اللـه لم تكد تطأ قدمي عتبته، حتى كان الأستاذ على التليفون يواسيني.. يشجعني.. يشد من أزري.. يقسم ألا أحد يهمه غيري في كل من استبعد عن منصبه، وأن مجالات العمل الصحفي كلها مفتوحة أمامي للتصدي.. ووضعت السماعة ووضعت حمل حقيبتي، وتنفست الصعداء، فعلى نبرات صوته الذي أسقط دمعي أزحت هماً كبيراً، كان يقرض سنين العمر ويزرعني كل أسبوع في الإعصار.. وكان لي ميلاد جديد في صحافة المقال.. وها أنت برحيلك بذاتك بشخصك بهيكلك بعظمتك بعبارتك بعمقك بفكرك بقلمك بعطائك بثاقب رؤيتك، باحتوائك، تحرق القلب من جديد، وتقطع خيط الحديث للأبد، وتحرق أسلاك المعارف واليقين، لينتهي زمن جميل كنتُ فيه مؤتنسة بوجودك ولو من بعيد، وأبداً لن أسمع لمن عهدته يسدد خطاي يقرص أذني أو يقرظني من جديد.. وواللـه يا سيدي يا أستاذي يا معلمي وموجهي عندما اصطدمت بنبأ رحيلك شعرت بالتقهقر للخلف وكأنما صُوّبت نحوى لكمةٌ في الصميم، وكأنني كنت فوق قمة جبل دحرجتني الصاعقة للسطح، وكأنني قد زرعت فجأة في كهف الشيخوخة الثلجي، فقد كان وجودك يغلفني بمشاعر أنني لم أزل تلميذة صغيرة أرفع الإصبع للسؤال فيأتيني جواب الأستاذ كالحلوى مكافأة على يقظتي لدوام السؤال والتساؤل.. الآن أصبحت وحدي متوحدة في مهب الريح عارية الظهر خاسرة السند خاوية العناية والرعاية والصح والخطأ والشطب والإعادة والتذنيب والمسطرة ووشي للحيط.. مفتقدة الأستاذ..
أستاذي.. هيكل… محمد حسنين هيكل.. رئيس التحرير ورئيس مجلس الإدارة ومشيّد صرح الأهرام بيتنا وقلعتنا وجامعنا وجامعتنا وملعبنا وحديقتنا ونادينا وصحيفتنا الذي مرت عليه من بَعدك عهود وعقود لكنك من بُعدك كنت راعياً ومُوجهاً وناقداً وخبيراً.. وكأنه اليوم الذي جلست فيه أسألك عن الاعتزال الذي أعلنته يوماً لشعورك بالمرض ورجعت فيه عندما مّن اللـه عليك بالشفاء.. أجبتني: «كل واحد منا عنده ثلاثة أشياء.. عنده عمره الافتراضي، أي زمنه الطبيعي.. ثم ماذا يستطيع أن يساعد به هذا الزمن، وماذا يقدم أيضاً لمساعدة عقله.. وأنا من أنصار القول إلى الأمام.. امش طالما أنت قادر على المشي، وأنتج طالما أنت قادر على الإنتاج».. ويحضرني السؤال الملّح عن الممكن والمستحيل لتجيبني بأن «ليس هناك ممكن مطلق ولا مستحيل مطلق، وإنما هناك فقط ما هو إنساني، وما هو ممكن في هذه اللحظة بعدها بساعة يدخل في دوائر عدم الإمكان، هذا إذا ما كنا نتكلم في مطلقات وهي ما لا نملكها، أما إذ تكلمنا فيما هو إنساني فهذا مرتبط بظروف وتوقيت ومناخ، فأنا أعتقد مثلاً أن ثورة 52 لم تكن ممكنة إلا في لحظتها.. اللحظة مهمة جداً لأن المسألة مسألة توقيت وتوافق بين الأشياء والعناصر والعوامل.. نابليون لم يكن ممكناً إلا بعد الثورة الفرنسية.. جمال عبدالناصر كان مستحيلاً بدون الفترة السابقة وبالتحديد حريق القاهرة.. البابا شنودة لم يكن ممكناً إطلاقاً بدون التجربة الغريبة لاحتجازه في دير، ولم يكن ممكناً أن يأخذ الاهتمام إلا بذلك.. خلاصة القول إن الممكن والمستحيل ليسا من المطلقات، فإذا كنا نتكلم عنهما كذلك ينتقلان من اختصاص الإنسان إلى اللـه وحده.. لكن الممكن والمستحيل كقضية إنسانية يبقيان معلقين بالظروف والتوقيت والمناخ.. ويبقى كيف يمكن دفع الممكن إلى أقصاه.. وكيف يمكن الوصول بالممكن إلى مداه.. وهذه هي الإرادة الإنسانية، مع فهم التوقيت.. وأعقب بالسؤال فيما إذا كانت تجربة السجن في حكم المستحيل أم الممكن فيجيبني الأستاذ الذي ذاق مرارته: «أعتقد أن سجن أي كاتب سياسي في العالم الثالث قضية واردة.. في العالم الخارجي ليس هناك سجن إلا لجريمة.. وعندما أعود لوقائع التحقيق السياسي الذي أجراه معي المدعى الاشتراكي لا يتقبل العقل ما جرى.. يسألني عن رأيي.. إن رأيي حر لا يشكل جريمة ولا يدعو للاعتقال طالما لا يدعو إلى تكوين تنظيم إرهابي ولا أقود مظاهرة.. أنا رجل أعتقد في أمور أضعها على الورق وأعرضها على الناس ليتقبلوها أو يرفضوها بمقدار ما يجدون فيها من أشياء تهمهم.. لكن مالك أنت وهذه العلاقة.. وهنا أذكر تعبيراً قاله لي أحد أولادي بعد خروجي من السجن.. قال لي: «كانت لك دائماً أمامنا وفي عيوننا صورة معينة ويمكن السجن كان لمسة ضرورية لاستكمال هذه الصورة».. وسألت صاحب الفكر السياسي إذا ما كان وقتها متوقعاً من السلطات اعتقاله فسرد لي وقائع تاريخية: «في عام 80 زادت حملة الرئيس السادات تجاهي بشكل حاد.. وكنت مع زوجتي في سويسرا وكان معنا هنري كيسنجر وآخرون وسألني: ما علاقتك الآن بالسادات؟ واقترح أن يكتب له في هذا الأمر، فرجوته ألا يتدخل بيني وبين رئيسي.. بعدها ذهبنا إلى باريس وسألني ميتران نفس السؤال، وكانت أول سنة له في الرئاسة، فقلت له إن الرئيس السادات مشغول الآن عني بالجماعات الدينية.. لكن حملة السادات زادت وبعدها طلع قانون العيب الذي كان يسميه مستشارو مجلس الدولة «قانون هيكل».. في هذا الوقت كنت بمحض المصادفة في زيارة سريعة في لندن، وحضر لزيارتي أكثر من شخص لنصيحتي بألا أعود لمصر.. كان أول شخص «دنيس هاملتون» رئيس مجموعة التايمز الذي قال لي إنه يستشتف من الحملة ضدي أنني قد اعتقل في القريب، ولقيني كيسنجر الذي يقيم في فندق «كـلاريدج» نفسه الذي أنزل فيه وسمعت منه كـلاماً مشابهاً، وأتى «أيان جيلمور» وكان وقتها وزير الدولة بوزارة الخارجية البريطانية وقال لي إن التقارير التي وصلتهم تشير إلى تحرك قريب ضدي، وسألني أن أبقى لفترة في إنجلترا، فأجبته بأن تأشيرة إقامتي قاربت من الانتهاء فقد كانت لشهر واحد، فقال إنه سيرسل أحد معاونيه لأخذ الباسبور ليعطوني ستة أشهر إقامة.. حقيقة أن حديث الثلاثة جعلني أعاود التفكير.. بعدها بيومين علمت بوجود الملك حسين في لندن، ونحن أصدقاء رغم ما هناك من خلافات في الرأي، لكن ما حدث يومها أن اتصلت به تليفونياً فأجابوني بأنه سيقوم بالاتصال بي.. وبعد قليل تحدث قائلاً إنه سيمر لزيارتي في «الكـلاريدج» وكان بالمصادفة كما قال يصطحب ابنته للطبيب لإصابتها بمرض جلدي بسيط والعيادة بالقرب من الفندق.. وأتى لنتحدث ليقول لي وسط الحديث: إنك ذهبت إلى أكثر من مكان في الشهور الأخيرة لكنك لم تأت إلى الأردن.. قلت له: الحقيقة ليس لديّ شغل كثير في الأردن.. فعاد يقول: تأتي للمكوث معنا قليلاً.. قلت معتذراً بجامعات الأولاد، فأجابني بأن في الأردن أيضاً جامعات.. وأضاف «واللـه أنا شايف مزاج فخامة الرئيس تجاهك على غير ما يرام.. فكر جيداً ونحن بلد لسنا في حدة بيروت أو.. أو تعالى فترة في الأردن».. ورتبنا السفر إلى القاهرة في الصباح التالي فحقيقة لم أكن مستعداً أبداً أن أكون لاجئاً سياسياً.. وحصل السجن.. بعدها بسنة!
ولأنه نجيب محفوظ كان دوماً بمثابة ولعي وغرامي ومقصدي في أي مما يكتبه فسألت الأستاذ هيكل فيما قاله أديبنا الكبير من أنه عند نشره لروايته «أولاد حارتنا» في الأهرام كان يحتمي بك لقربك من عبدالناصر وقتها، وتلك الرواية بالذات مُنعت بعدها من مصر، فشرح لي الأستاذ أصل الحكاية بقوله «لم يكن هناك تهديد حتى تكون هناك حماية.. أولاً عبدالناصر كان يقدّر نجيب محفوظ وهو يعرف ذلك تماماً، ولقد قرأت الرواية ورأيت فيها عملاً أدبياً بديعاً، وأدركت ما قد تحدثه من حرج، ولهذا وللمرة الأولى في الأهرام تنشر رواية يومياً لأني أردت أن أفرغ من نشرها سريعاً قبل أن يتنبه أحد بأن هناك محظوراً، وبالفعل بعدما وصلت إلى الجزء الـ40 بدأت الضجة الكبرى، ومع بداية الضجة كانت الرواية قد انتهت.. كل أعمال نجيب محفوظ النقدية مثل (اللص والكـلاب) و(السمان والخريف) و(ميرامار) نشرت في الأهرام وأنا رئيس تحريره وفي عصر جمال عبدالناصر ودون أن تحذف منها كلمة واحدة».
وعدت «أنكش» الأستاذ بسؤاله عن هجوم توفيق الحكيم عليه؟ فأجابني مستنكراً: «لم يحدث إطلاقاً أن هاجمني توفيق الحكيم، بل على العكس كان كثير المدح ليّ، بل دائماً.. الإشكال الذي حدث بيننا في فترة من الفترات بسبب كتابه (عودة الوعي)، والسبب في زعلي منه أن الرئيس السادات كلمني قائلاً: هل تعرف أن توفيق الحكيم يكتب حاجة يهاجم فيها عبدالناصر.. أجبته لا أظن.. وذهبت بدوري أسأل الحكيم فرد بالنفي، وقتها كان الرئيس السادات يهاجم توفيق الحكيم بعبارات الحبر الأسود والحقد الأسود، وذلك لأن الحكيم كتب بياناً مع الأدباء أثناء وجودي في الصين، ووصل البيان لوزير الإعلام وقتها وكان الدكتور عبدالقادر حاتم، وعند عودتي فوجئت بالضجة الصاخبة حول البيان الذي اتهمني الرئيس السادات بالعلم به، وهذا غير صحيح فلم يكن لدي أي فكرة عنه.. في ذلك الوقت قال لي الرئيس السادات عن حكاية ما يكتبه الحكيم من هجوم على الرئيس عبدالناصر.. بعدها بأسبوعين أرسل لي الرئيس السادات فصلاً كاملاً من كتاب توفيق الحكيم جاءت به المباحث العامة ليقول لي ضابطها هذا هو الذي يقول لك إنه لم يكتب.. فذهبت لتوفيق الحكيم لأقول له أليس هذا ما كتبت؟!.. فجاء رده: هذه حاجة تجريبية.. وكان زعلي أنني عندما سألته لم يقل لي وخبأ عني، وهذا هو ما آلمني رغم أنه ذكرني في كتابه مادحاً أكثر من مرة.. أما ما بداخل الكتاب إذا كان هذا هو رأيه فهو حرُ فيه وأنا لا أعترض.. وعندما كتب «بنك القلق» وقرأت القصة قال لي إنه لا يريد نشرها متخوفاً مما جاء فيها.. قلت له لقد كانت عندك الشجاعة لكتابتها، وأنا عندي الشجاعة لنشرها.. وبالفعل تم النشر لتثير غضب المشير عبدالحكيم عامر وقتها الذي أثار ضجة كبيرة فقد كانت الرواية تحوي نقداً لاذعاً للمخابرات.. كلمني الرئيس عبدالناصر يسألني عنها لأنه لم يقرؤها، فقلت له إنني أعلم ما بها من نقد للمخابرات، فقال إن عبدالحكيم ذهب إليه غاضباً وطلب مني أن نحضر إليه معاً أنا والمشير لنسوّى المسألة حتى لا يكون هناك توتر في الأجواء.. وحتى يحين الموعد أرسلت للرئيس بروفة لما سوف ينشر من الفصل القادم في «بنك القلق».. والتقينا عنده أنا والمشير عامر فقال لنا الرئيس: أنا لم أقرأ ما كتب من القصة ولن أقرأ الجديد فيها.. وقال موجهاً كـلامه للمشير الذي كان يرى القصة مساساً وتشكيكاً في المخابرات.. قال الرئيس إنه إذا كان توفيق الحكيم قد كتب في عصر الملكية «يوميات نائب في الأرياف»، فمن غير الممكن أن تمنع له قصة في العصر الجمهوري.. وأكملنا نشر القصة، ولا شيء حدث رغم تخوف الحكيم.. ولقد كانت هناك بالطبع مشاكل وتجاوزات، لكن كل شيء يجب أن يوضع في حجمه في وقته بالمقارنة مع مثيله في أوقات أخرى.. ولا ينسى أحد أن الأهرام وقتها قد حارب معارك ضد كل التجاوزات.. هناك البعض داخل الأهرام الذين جرى تخويفهم من جانب بعض الأجهزة في قضايا الرأي، وكان كلهم من داخل الأهرام وليس مكان آخر مثل الدكتور جمال العطيفي الذي كتب عن سيادة القانون واعتقل لمدة خمسة أيام وقلبنا الدنيا.. وحمدي فؤاد اعتقل هو الآخر بسبب نشره لبعض الأخبار.. كان الأهرام يعلم أنه في معركة مع بعض الأجهزة المتجاوزة، لكننا في النهاية كنا مع فكرة التغيير، وفكر الثورة».
وكأنه كان استشعاراً عن قرب عندما سألت الأستاذ هيكل عما كان من مدى توقعه لفوز الدكتور بطرس غالي بمنصب السكرتير العام للأمم المتحدة، فأجابني بأنه لم يكن متوقعاً له قبل أن يوضع اسمه في كشف الخمسة المرشحين عن أفريقيا، وأن الرئيس موبوتو رئيس زائير من أشار عليه بالتقدم للترشح، حيث استأذن بطرس غالي القاهرة قبل التقدم.. وفي الوقت الذي لم يكن هناك من يعتقد في نجاحه كان هيكل يرى أنه سيفوز بالمنصب بنسبة لا تقل عن 90٪ لأنه من الصعب مقارنته بالآخرين، ويعقب الأستاذ باختصار: «الدكتور بطرس متسق مع آرائه.. في علاقتنا معاً نحن مختلفان سياسياً لكن بيننا كثير من الود عندي وعنده»..
وسألته السؤال العويص الذي فحواه أن وفاة عبدالناصر كان خلفها جريمة وأن المخابرات الإسرائيلية قد استخدمت في ذلك مادة سامة تؤثر في جسد الضحية عن طريق الملامسة فأجابني: «لا أزال أظن أن الوفاة طبيعية حتى يثبت العكس.. أنا حضرت وفاة عبدالناصر وكنت موجوداً إلى جوار سريره وكتبت عن ذلك.. وهناك أقوال بالفعل عن أن المخابرات الأمريكية CIA لديها نوع من السموم يجعل الوفاة تبدو طبيعية، لكني لا أقدر أقول غير ما رأيته بعيني.. أنا عارف أنه كانت هناك محاولات عديدة جداً لاغتياله، وذلك أمر طبيعي، لكن ما رأيته لا يقيم لديّ دليلاً يدعوني إلى الشك، وحتى أجد دليلاً أو وثيقة أو حاجة تجعلني أشك، فالشك هنا يجعلني أبدأ على الأقل في البحث والتدقيق وقراءة الملابسات بعمق.. لكني حتى الآن ليس لديّ».
ولم تزل تحضرني عبارات الأستاذ التي حفظتها عن ظهر قلب لتكون زادي وزوادي عندما استحضره في غيبته بالسمع والبصر.. قال: «هناك خلط شديد يحاول أن يجعل من الوطنية نوعاً من الهيستريا، فالوطنية ليست حفل زار أو حلقة ذكر.. حب الوطن ليس بالكـلام ولكن بالأفعال لناس هذا الوطن.. لست رجلاً لكل العصور.. الشعب لم ينهزم ولهذا أسميتها النكسة التي تتعثر فيها وتقع وتستجمع قواك وتقوم، والشعب قد استجمع قواه وعبر..
ويظل صدى ما أسمعنيه يوماً يعيش في أذني عندما قالها لي من بعد ما كتبت له برجاء حار بألا يعتزل ويترك الميدان شاغراً.. قالها وعجبت وأعجبت بها عندما قال: «لقد أبكتني كلماتك».. طيب يا أستاذ هيكل ماذا بيدي الآن وقد اعتزلتنا نهائياً لتترك لنا نحن أمر البكاء!
* الأهرام.