شهلا العجيلي: الأغراض الدائمة لا يتغير جوهرها


حاورها : اسكندر حبش


في عودتها إلى التاريخ، بروايتها “سجاد عجمي” (منشورات ضفاف)، تكتب الروائية السورية شهلا العجيلي تاريخ الرقة مثلما تكتب لحظتها الراهنة، المتشعبة اجتماعياً وسياسياً. حول الرواية والكتابة، هذا اللقاء.
* سؤالي الأول الذي لا يمكن لي تخطيه: أتشتاقين إلى الرقة؟ بخاصة أنها حاضرة في قلب روايتك الأخيرة “سجاد عجمي”؟

جدّاً… أشتاق إلى الرقّة ذلك الشوق الممضّ الموجع، مثلما يشتاق المرء إلى ذاكرته الأولى التي فقدها، ويرهق روحه وجسده في البحث عنها، أبحث عن مكاني، وأنا على يقين من أنّني لن أجده، لأنّه صار غريباً، وقصيّاً، وخارج الوقت. في “سجّاد عجمي” كتبت عن الرقّة التي أحبّ، عن رقّتي أنا، وجعلت منها مركزاً للحدث، ومركزاً للفنّ، وللصناعة والتجارة، وللسياسة، وذلك كلّه ضدّ التهميش الذي نالته في ظلّ الأنظمة الحديثة المتعاقبة، مثلما لم تنله مدينة سوريّة أخرى. أردت ألاّ أتخلّى عنها كما تخلّى عنها الآخرون المنتفعون، وأن أفعل مثلما فعل أبناؤها ومحبّوها الذين رابطوا فيها، ليشهدوا على أولئك الذين يسلّمونها من قرصان إلى قرصان، أردت أن أحمل جمالها إلى العالم كلّه.

* هل شعرت حين بدأت الكتابة، أن اسم عمك (عبد السلام) قد يشكل ثقلاً ما على كتفيك لن تستطيعي التخلص منه؟

منذ البداية استسلمت لهذه الحتميّة التاريخيّة، فنحن لا نستطيع تغيير أقدارنا، فلماذا نعاندها لاسيّما إذا كانت جميلة! عندما توغّلت في عالم الكتابة وجدت أنّ الجميع يبحث عن مشروعيّة ثقافيّة، وعن مرجعيّة يستند إليها، في حين انطلقت ومشروعيّتي معي. عبد السلام العجيلي وأنا، نشترك في الثوابت، ونختلف طبعاً في الهويّة في نطاقها الأوسع، الهويّة الجيليّة، والفنيّة، والجندريّة، والأكاديميّة… لكنّني أؤكّد أنّه قدري الجميل. لقد أدركت فيما بعد، أنّني كنت أراقبه جيّداً منذ طفولتي، أراقب انكبابه على الكتابة اليوميّة، واهتمامه بالثقافة باتجاهاتها العامّة، وإحقاقه الأشياء من حوله حقّها، وإخلاصه لقيمه، ولمجتمعه، وهكذا توافر لي معلّم خاصّ، لم يتوافر لكثيرين غيري، وقد استطعت أن أفصل في مرحلة مبكّرة بين عمّي عبد السلام، وبين الروائيّ عبد السلام، وبين الراوي وشخصيّات روايته.
عشق وغرام

* تأتي روايتك “سجاد عجمي” مليئة بحكايا العشق وقصص الغرام، وإن كانت غالبية العلاقات تنتهي بفشل ما، لنقل بموتها. هل تريدين القول باستحالة ذلك في مجتمعنا؟ بمعنى آخر، أهو نقدك لهذا المجتمع؟


لا شيء يمكن أن يمنع الحدث الواقعيّ من أن يحدث، وأنا أشتغل في ضوء المدرسة الفنيّة الواقعيّة، لكنّ الأمر يكمن في كون تجربتنا الثقافيّة في العشق تجربة تراجيديّة، فالشعر الأوّل الذي كوّن شخصيّة العربيّ كان شعر البكاء على آثار الديار بعد رحيل أهلها، وكان الشاعر لا يكتفي بالوقوف والبكاء فقط، بل يطلب من الآخرين أن يقفوا معه ويبكوا، فهو طقس ألم جماعيّ، ودائماً هناك فراق، يعقبه استذكار اللذّة، فاستمرار الحياة. في حين نجد أنّ أوديسيوس يعود بعد عشر سنوات من الفراق، ليجد بينلوبي في انتظاره. وإذا انتقلنا إلى مرحلة أخرى من تاريخنا العربيّ سنجد أعرافاً تمنع قصص العشق من التمام، فإذا ما عرفت القبيلة بقصّة عاشقَين، عاقبتهما بمنعهما من الزواج، هذا هو التاريخ الذي ألفناه، والناس يحبّون في القصّ ما ألفوه. ولأنّ النساء في “سجّاد عجمي” متحرّرات، وقويّات، ومثقّفات، حاولن البحث عن السعادة، لم يردن أن يشقين بالحبّ، فيزيد الخراب المحيق بهنّ، كنّ ينسحبن انسحاباً تكتيكيّاً، حينما يشعرن بأنّهنّ في درب التعاسة، ويغيّرن المسار، وهذا يحتاج إلى وعي بقدر ما يحتاج إلى إرادة.

* لنقل إنك تلجئين إلى التاريخ (إن جاز القول أو إلى التراث كما يسمّيه البعض) لتجعلي منه إطار العمل. هل هو هروب من اللحظة الراهنة، خصوصاً أن روايتك بنت هذه اللحظة التي نعيش. لا يمكن قراءتها إلا بكونها إسقاطاً “سياسياً”، وان كنت تنجحين في إبعادها عن الخطاب السياسي المباشر؟
ليس لجوءاً أو هروباً بقدر ما هو اختيار، كانت لديّ رغبة عتيقة في أن أحفر في تاريخ المنطقة، وأن أتحدّى نفسي في تحقّق اللّغة القديمة التي شكّلت ثقافتي، وفي إمكاناتي الفنيّة في صناعة المورفولوجيا الهجينة، البيزنطيّة، والعربيّة، والإسلاميّة الأمويّة والعبّاسيّة، في العمارة، والطبيعة، والمناخ، والأزياء، والآراء الفلسفيّة…
أردت أن أقول إنّ الأغراض الدائمة لا يتغيّر جوهرها مع الزمن كالحبّ، والكره، والخيانة، والغيرة، وكذلك هي الصراعات الكبرى الطائفيّة والمذهبيّة، إذ ينسى الناس سببها الرئيس، ويوغلون في الدماء، فيكون الخراب جماعيّاً، والخلاص فرديّاً.

مواجهة الموت


* ما الذي شدك إلى رواية أحداث فتنة مصحف فاطمة الزهراء؟ هل هي ايضاً اللحظة “المذهبية” الراهنة التي نجتازها عربياً وقد ألقت بثقلها؟


يبحث الروائيّ في كلّ نصّ عن مغامرته الروائيّة الجديدة، المغيّبة، أو المسكوت عنها، أو القابعة في زاوية معتمة، لا ليصفها، بل ليجعلها وسيلة لوصف الحياة من حولها، فالهدف ليس ذرّة الرمل التي تدخل المحارة، بل العمليّة الحيويّة لإنتاج اللؤلؤة. هكذا كان (مصحف فاطمة) في “سجّاد عجمي”، منطقة ملتبسة، مغيّبة، نَسجتُ حولها حكايات الرجال والنساء والمجتمع والعسكر، الذين توغّلوا في حيواتهم، ونسوه مع أنّه أصل الصراع، إذ أُشيع أنّ نسخته الأصليّة ظهرت في إحدى الدور القديمة في الرقّة، ممّا جعل السلطة السياسيّة تطالب الأهالي بإظهاره كي لا يُحدث تداوله بين أيدي الناس فتنة، في حين كانت السلطة الاجتماعيّة المتمثّلة بكبريات العائلات الرقيّة، التي تجير (آل البيت)، ترفض تسليمه إن ظهر، للهدف ذاته، أي لدرء الفتنة، ومع أنّ أحداً لم يجده فإنّ الحرب تستعر بين الطرفين، ولا يظهر المصحف إلاّ في النهاية مع (لبانة) التي ستأخذه معها في هجرتها نحو طبرق المغربيّة، لتبحث عن خلاصها الفرديّ، وكأنّها تنتشله من ذلك الصراع.
بدأت الكتابة الفعليّة لـ”سجّاد عجمي” العام 2010، بعد بحث أنثروبولوجيّ ثقافي طويل، وأنجزتها في 2012، قبل أن تتخذ الأحداث في الرقّة تشكيلاتها الحاليّة، ولأنّ للتاريخ منطقاً يحدس به من يقرؤه جيّداً، فإنّ الأحداث الأخيرة التي جرت في الرقّة وفي مناطق أخرى في سورية، جاءت “مصاقبة” لأحداث روايتي، لا العكس، وبالطبع كان من المؤلم أنّني استشرفت هذا الخراب كلّه، لكن هذا هو الفنّ، حدسيّ، وتنبّؤيّ، وصادم، وصادق!

* لا يمكن التغاضي عن هذا الهم الاجتماعي في روايتك، بهذا المعنى كيف تفهمين الكتابة، ماذا تريدين منها؟


أريد ما أراده الروائيّون قبلي، وسيريدونه بعدي، أن يعبّروا عن علاقاتهم الإشكاليّة مع مجتمعاتهم التي لا سبيل للتصالح معها. في كلّ نصّ روائيّ محاولة بعيدة للمصالحة، تنتهي بالفشل، فتستمرّ الإشكاليّة، فإذا تصالح الروائيّ، أو تحالف مع مجتمعه، ألقى بالرواية في هاوية التنظير، وأفقدها الأسئلة. ولا شكّ في أنّ في الرواية شيئاً ذاتيّاً، وخاصّاً، يرتبط بشكل وثيق بالعامّ، ويتوقّف نجاح الروائيّ على نجاح ربطه العامّ بالخاصّ. أردت في “سجّاد عجميّ” أن أواجه الموت الذي ينهش أشيائي المحبّبة: تاريخي الشخصيّ، والعائليّ، ثقافتي، حضارتي، معاناتي، خيباتي وهزائمي، وانتصاراتي الصغيرة، ألعاب طفولتي، وقبور أحبّتي، هذا جزء من التحقّق الإنسانيّ، نحن نكتب لذواتنا أيضاً! علينا ألّا ننسى ذواتنا ونحن نكتب للآخرين، فإن لم نشعر بها، لن نكون صادقين مع الآخر. إنّ إقسار الذات على الغياب نوع من المازوخيّة المتطرّفة، لذا فما يفعله الروائيّ عموماً هو أن يشظّي ذاته، ويوزّعها على الآخرين، لكنّه لا يقتلها أبداً.

أجرى الحوار: إسكندر حبش

( السفير )

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *