مهند النابلسي
خاص ( ثقافات )
جرى إخراج هذه التحفة السينمائية تخليداً لذكرى الاحتفال بمئوية السينما بالعام 1995، حيث شارك أربعون مخرجاً عالمياً بإخراج فيلم “تسجيلي-روائي” مكون من 88 دقيقة بعنوان “لوميير ورفاقه”، وكان عليهم أن يلتزموا بأن لا تزيد مدة العرض عن 52 ثانية فقط، وبثلاث لقطات فقط، وبنفس الكاميرا البدائية التي استخدمها الأخوان لوميير قبل مائة عام، والغريب أن المخرج باتريس ليكونت قد أعاد تصوير نفس اللقطات التاريخية لبداية السينما، عندما صور قطاراً حديثاً سريعاً قادماً للمحطة وبلا أشخاص، فيما كانت مشاهد فيلم “لوميير” التاريخي أكثر تعبيراً مع وجود أناس ينتظرون على المحطة الباريسية القديمة… الفيلم من ابتكار “فيليب بوليه وسارة مون”.
تتكون مادة الفيلم من ثلاثة أجزاء رئيسية: مقابلات مع المخرجين ومشاعرهم تجاه هذه التجربة الفريدة، ولماذا يمارسون الإخراج السينمائي؟ ومشاهد توضح كيفية قيامهم بإخراج هذه الأفلام، ثم عرض للأفلام التي أخرجت… معظمهم أكد أن السينما كما الحياة فانية، وبعضهم أشار لديمومة إبداعها مع مواكبة وتجدد الحياة الإنسانية، كما أكد معظمهم أن السينما هي مهنته وحياته ولا يتقن شيئاً آخر تماماً، كما أن بعضهم تلعثم ولم يجب بوضوح…
أما قائمة المخرجين العالميين المشاركين فتضمنت كلاً من: سارا مون، مرزاق علوش، جابرائيل آكسيل، فيسنت آراندا، ثيو أنجيلبولوس، بيجاس لونا، جون بورمن، يوسف شاهين، آلان كورنو، كوستا جافراس، ريموند ديبردون، فرانسيس جيرود، بيتر جرينواي، لاسي هولستورم، ميشيل هينيكة، هيوز هودسون، جاستون كابور، عباس كياروستامي، سيدريك كلابيش، أندريه كونشالوفسكي، باتريس ليكونت، سبايك لي، كلود ليلوش، دفيد لينش، ميرشانت وايفوري، كلود ميللر، ادريسا اودراجو، آرثر بين، لوسيان بينتايل، جاكوس ريفيه، هيلما ساندرس براهامس، جيري شاتزبيرغ، نادين ترينتانت، فيرناندو تروبا، ليف أولمان، يوشيشيجي يوشيدا، جاكو فان دورمال، ريجيس فارغنير، فيم فيندرز والصيني زيانغ يمو.
الغريب أنه على الرغم من اختلاف المواضيع وتنوعها، فقد بدت هذه الأفلام الحديثة وكأنها قديمة، ربما عملاً بمقولة أورسون ويلز الشهيرة “ما السينما إلا أجزاء من الزمن”… وبصراحة وبغض النظر عن مضمون هذه الأفلام وتنوع الثيمات المتفاوت ومستوى الارتجال والتلقائية، فهذا عمل سينمائي “فلسفي-تاريخي” مدهش، ويشكل مدرسة سينمائية فريدة وغير مسبوقة، وربما تفيد السينمائيين الحقيقيين أكثر من ورش العمل السينمائية الاستعراضية بكثير!
“أشعر وكأني أخترق نفسي”… جملة معبرة قالها أحد المخرجين، بعضهم يخبرنا قصصاً قصيرة صامتة مثل الصيني زيانغ يمو الذي أدهشنا بمنظر ثنائي راقص بأوبرا بكين يتحول من الرقص الإيمائي الصيني القديم البطيء فجأة لصرعات الجنون العصري الراقص على سور الصين العظيم، ثم الفرنسي جاك ريفي الذي يظهر فتاة صعيرة في ميدان محاطة بالجرائد، أما الألماني فيم فاندرز فيتحدث عن “أجنحة الرغبة” مسترجعاً ذكريات برلين، والبلجيكي جاكو فان دورميل فيظهر لنا “منغوليان” (بمتلازمة داون)* متحابان (شاب وفتاة) وهما ينظران للكاميرا ثم يتبادلان قبلة حارة، أما الفرنسية نادين ترينيجيان فقد ابتكرت ووضعت الكاميرا على كرسي متحرك لتظهر لنا اللوفر والمعمار الفرنسي الكلاسيكي وكذلك الهرم الزجاجي الشهير بساحة اللوفر، أما ميرشانت وإيفوري فقد صورا مشهداً لأحصنة من القرن التاسع عشر ثم انتقلا لتصوير مشهد للحركة في مطعم مكدولاند الشهير. المخرج ريغي فارغنير يسأل الرئيس الفرنسي الراحل ميتران عن أهم ذكرياته عن السينما، فيتحدث عن فيلم هنغاري مؤثر فيه أناس يرقصون، الياباني يوشيشيغي يتحدث عن تداعيات قنبلة هيروشيما ويصور يابانيين عجائز نجوا من المحرقة ومبنى متهالكاً صمد بأعجوبة، ثم نسمع تسجيلاً صوتياً للرئيس “ترومان” يتبجح بالتقدم العلمي الماحق الذي حققه الغرب وسمح بصنع هذه القنبلة ذات الدمار الشامل! فيما لا يجد مخرج عربي كبير موضوعاً لائقاً: إذ يصور المصري يوسف شاهين “راكب جمل” يهرول باتجاهه صارخاً “التمثيل حرام”، ثم نرى في المشهد التالي نفس الشخص وهو يهرول مسرعاً باتجاه الكاميرا معيداً “التمثيل حرام”، مقدماً على تكسير الكاميرا وعلى خلفية المشهد نرى الأهرامات، كما يحدث نفس الشيء مع الإيراني عباس كياروستامي، فيصور لنا بيضتين أثناء قليهما بمقلاة صغيرة…
وتستمر”التفاهة” لدى المخرج الأفريقي “إدريسا أودراجو” فيصور مشهد صيادي سمك “أفارقة” على متن قورابهم، ويركز بالمقدمة على سباحين يهربون فجأة من النهر خوفاً من “تمساح زائف” يتبين لاحقاً أنه شخصاً يضع قناعاً برأس تمساح، ثم يلاحقونه لضربه كالأطفال… آخر يصور فتاة صغيرة “ظريفة” تريد وزن نفسها وتفشل مراراً، أما السويدية “ليف أولمان” والمصور الشهير “سيفن نايكفست” فيصوران الكاميرا وهي تصور… المخرج الفرنسي الشهير (صاحب تحفة رجل وامرأة) يصور كعادته عاشقين مغرمين “رجلاً وامرأة” ينغمسان بقبلة حميمة ومن جميع الزوايا، فيما نرى الممثلين الثلاثة “ليام نيلسون وآيدن كوين وستيف ريا” يحدقون بفضول في الكاميرا البدائية، كوستا غافراس يتحدث بإسهاب عن “سحر العدسات”، المخرج ألان كورنو يقدم لنا طريقة اختلاف الألوان بعرض تشكيلي من خلال ايقاعات لافتة لراقصة غجرية، أما المخرج الأمريكي الأسمر “سبايك لي” فيركز الكاميرا على ابنته الصغيرة بإلحاح حتى تبتسم وتقول “دادا”، كما يتحفنا مخرج آخر بمشهد غريب لامرأة عارية ترضع وليداً جديداً بالعراء!
لا يمكن لمشاهد واحد مهما كانت شدة انتباهه أن يلم مستذكراً كل المشاهد للأربعين فيلماً بهذا الشريط الفريد، وربما يلزم هنا تطبيق تمرين تشاركي فيما يسمى “الطاقة الجمعية” (سينرجي)، وهنا يمكن استرجاع وتجميع معظم مشاهد العرض بواسطة العصف الذهني لمجموع الحضور.
من خصائص التفكير الإبداعي: التجريب والإلهام والارتجال والتخيل والفانتازيا وإطلاق العنان للقدرات، ومن ثم حب الاكتشاف والتفكير بالإحساس والغموض والزخم، وبالحق فلم تحقق معظم هذه الأفلام الكثير من هذه العناصر، بل بدا بعضها عادياً ونمطياً وحتى سخيفاً أحياناً، كما لم يرقَ معظمها لتخوم التجريب الإبداعي، وكنت أتساءل بفضول افتراضي ماذا كان سيقدم كل من كوبولا وكوبريك وسكورسيزي وبرتولوشي وشبيلبيرغ وآكي كورسيماكي وكيرساوا وأندرسون وترفو وجودار وغيرهم من عباقرة الإخراج السينمائي لو طلب منهم ذلك؟!
لكن فكرة الفيلم تبقى بالحق “رائعة وفريدة” من نوعها، وقد استطاع هذا الفيلم “الوثائقي-الروائي” وخلال ساعة ونصف فقط من عرض البعد “الفلسفي-الإنساني- الترفيهي” للسينما منذ بداياتها المتواضعة، مسترجعاً أقوال وانطباعات مخرجين عالميين ضمن حيز زمني قصير جداً، مؤكداً أهمية الزمن الذي يتحول هنا إلى “ذهب” كما قال أحد المخرجين المشاركين معلقاً، ولنتخيل معاً (افتراضاً) ماذا سيكون انطباع الأخوين “لوميير” لو تمكنا بمعجزة أن يشاهدا أحدث إنتاجات سينما الخيال العلمي العصرية متمثلة بفيلم “حرب النجوم” المذهل بصرياً وسينمائياً وتقنياً أو فيلم التحريك المدهش “الديناصور الطيب” (على سبيل المثال) ليتأملوا مستوى الإعجاز التقني الذي حققته السينما، ثم دعونا جميعاً نتخيل أيضاً فيلماً مماثلاً بالذكرى المئوية الثانية في العام 2095، فماذا ستكون الاجابات وعن ماذا ستتحدث الأفلام حينئذٍ؟!