*جبريل جالو
باريس- انقسمت الصحافة الفرنسية حول الفيلم الوثائقي «السلفيون» بين مدافع عنه وعن حقه في العرض، وبين آخرين وقفوا مع قرار منعه في اصطفاف تام مع رأي ممثل الداخلية الفرنسية في المركز الوطني للسينما، وهو موقف لا يتناسق في الغالب مع مواقف الصحافة الفرنسية، ما يثير شبهات حول وقوف جماعات من اليمين المتطرف حول فكرة محاصرة الفيلم ومنعه في فرنسا، لماذا؟ وما أسباب المنع؟ التفاصيل في الحوار التالي مع مخرج الفيلم.
تنفتح الشاشة في المشهد الأول عن رجلين من حركة الجهاد يستقلان دراجة نارية وهما يجوبان سوقاً في مدينة «تمبكتو» ليتأكدا من أن النساء يلتزمن باللباس الذي يسمونه «اللباس الشرعي». يفتشان عن النساء والفتيات بما فيهن القاصرات، هنا يجب على كل امرأة أن تغطي رأسها مهما كان عمرها.
كما يظهر في الفيلم أحد السلفيين الماليين وهو يقول: «نحن نطبق شرع الله على خلق الله وفي أرض الله»، ثم يضيف: «لقد اختفت كل مظاهر الفسق والفجور والتدخين».. لكن الكاميرا تنتقل بسرعة إلى مساجد في العاصمة الموريتانية نواكشوط، لتصور منظري الحركة السلفية وهم يدافعون عن جرائم التنظيمات الإرهابية، معتبرين تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» دولة شرعية، ويرفض هؤلاء المنظرون فكرة الديمقراطية معتبرين أنها مخالفة للإسلام (لم يذكر الوثائقي أن عدداً من هؤلاء السلفيين كانوا سجناء وأطلق سراحهم بعد تفاهمات مع السلطات وحوار مع «الفقهاء»، داخل السجن المركزي بالعاصمة وأشهر هؤلاء هو «المجلسي» الذي يدعو للعنف في خطاباته داخل المساجد كما هو الحال في الوثائقي).
مشاهد عنف
لكن هذا ليس كل شيء في مسألة منع عرض فيلم «السلفيون» في فرنسا، ففي مشاهد متفرقة، وصفها المناهضون «للفيلم» بأنها عنيفة، يظهر المسلحون وهم يقطعون يد شاب متهم بالسرقة في مدينة «تمبكتو» وهم يقولون بأن «شروط» قطع اليد متوفرة وبأن تهمة السرقة ثابتة على الشاب، الذي تختزل عيناه كل ما يمكن تصوره من رعب وحسرة وألم، وفي مشهد ثان نرى المسلحين يجلدون شاباً آخر، أمام جمع غفير من سكان «تمبكتو». وفي نفس المدينة يظهر مشهد مثير في الفيلم الوثائقي حيث تنفذ الجماعة الإرهابية حكماً بالقتل على رجل قالوا إنه متهم بالقتل العمد، وأن عائلة القتيل ممثلة في أمه، رفضت أي حلول أخرى كالدية والعفو. ثم مشهد آخر من مشاهد الرعب يظهر فيه المسلحون في صورة حقيقية وهم يرمون شباباً من فوق عمارة بتهمة أنهم شباب «مثليون». هذه المشاهد دفعت مركز السينما بفرنسا لتقديم توصيات لوزارة الثقافة تتعلق بعدم عرض الفيلم على من هم دون الثامنة عشرة من العمر، وإلى ضرورة الإشارة قبل أي عرض بأن الفيلم يضم مشاهد مرعبة وصادمة، وتجدر الإشارة إلى أن التوصيتين كتبتا على غلاف الوثائقي تنفيذاً لقرار وزارة الثقافة الفرنسية.
أين الحقيقة؟
المخرج الموريتاني لمين سالم مخرج فيلم «السلفيون» قال في مقابلة مع «الاتحاد» وهي أول مقابلة له مع صحيفة عربية بعد صدور فيلمه: «أنا أعمل صحفياً في فرنسا منذ 16 عاماً، بدءاً بالأسبوعية المستقلة الشهيرة بمهنيتها «أفريقيا الأخرى»، ومن ثم مراسلاً لـ«بي بي سي» الفرنسية من باريس، وقدمت استقالتي منها في شهر نوفمبر 2004، وكان آخر عمل أعددته حول وفاة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات. وبعدها عملت مراسلاً متجولاً بين باريس والعواصم الأفريقية لعدة صحف وإذاعات أوروبية، مغطياً الحروب الأهلية في ساحل العاج وليبريا، وأحداث العنف في كينيا والحرب اللبيبة. وفي أبريل 2012 أعددت تقريراً للقناة الفرنسية (إم 6) حول صراع حكومة بامكو مع حركة أزواد، وفي تلك الفترة اكتشفت أن الجهاديين يسيطرون على عدة أقاليم في المنطقة. وبعد عودتي إلى باريس كانت الحركة الأزوادية قد طردت الجهاديين من مدينتي «تمبكتو» و»غاو» في يونيو 2012.
وكنت تعرفت على المخرج فرانسوا مرغلينه خلال الأزمة الليبية الذي أخرج معي لاحقاً فيلم «السلفيون». اتصلت حينها بمسؤول الإعلام لجماعة أنصار الدين سندة ولد بوعمامة، قبل دخولي لشمال مالي، وقد رفض وقتها السماح لصديقي الفرنسي بحجة عدم إمكانية ضمان سلامته، فلم يكن أمامي إلا أن أبدأ التصوير لوحدي، وقد سلمني أنصار الدين حينها تصريحاً للتصوير في الأراضي التي يسيطرون عليها.. ويسرني اليوم أن أقدم نسخة من هذا التصريح «للملحق الثقافي لجريدة الاتحاد» مع إذن بالنشر، في حال اقتضت الضرورة ذلك».
«تمبكتو» و«السلفيون»
وخلال تلك الفترة، يقول لمين سالم، تقدم إلينا المخرج الموريتاني الشهير عبد الرحمن سيساغو يعرض علينا المشاركة معنا في إنجاز المشروع. قبلنا العرض إلا أن سيساغو تراجع بعد عدة أشهر، لينتج فلمه «تومبكتو» بناء على الأفكار التي كنت قد كتبتها ونشرت في صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية. وهنا يرى كثير من المهتمين بعالم السينما في فرنسا أنه توجد علاقة عضوية بين الفيلمين: «تمبكتو» و«السلفيون»، وتبدو العلاقة أوضح من خلال حديث المخرج سالم لمين، كما أن هذه العلاقة تظهر جلية لكل من يتابع الفيلمين. كانت فكرة الوثائقي قائمة أساساً على أن يتم تصويره في العراق وسوريا وليبيا وتونس وموريتانيا، وصورنا فعلاً في كل هذه الدول باستثناء سوريا والعراق، لصعوبة التصوير هناك.
ويتابع: «هدفنا من هذا الوثائقي هو تسليط الضوء على حقيقة «السلفيين»، لأن الغرب وحتى المجتمعات التي عاشت وتعيش تحت سلطة هذه التنظيمات لا تعرفها على حقيقتها.. بدءاً بإيديولوجيتها مروراً بخطاباتها وممارساتها، ومواقفها من الغرب والأقليات الدينية والديمقراطية ومن مفهوم الجهاد والإرهاب والمرأة».
ويؤكد لمين سالم: «لو أن هذا الفيلم صدر قبل سنتين أو بعد خمس سنوات من الآن لكانت ردود الأفعال مختلفة، ذلك أنه صدر بعد عمليات العنف في باريس، لكنني على يقين أنه سيعدُ فليماً تاريخياً خلال عشر سنوات، بعد أن يتجاوز الفرنسيون مرحلة الصدمة من العمليات الأخيرة، وأنا أعتبر أن هذا الوثائقي يعطي للفرنسيين، وللمسؤولين الأمنيين خصوصاً، فرصة الاطلاع على الفكر السلفي عبر منظري هذا التيار، مما يسهل طرق التعامل معه ومع مواقفه من الغرب ومختلف القضايا المطروحة».
ظروف وشروط التصوير
أما عن ظروف تصوير «السلفيون» شمال دولة مالي فيقول المخرج لمين سالم بأن الأمر كان خطراً. ويضيف: «بما أن لديّ خبرة في تغطية الحروب، في ليبيا وساحل العاج وليبريا وكينيا وغيرها، فإن أكبر عائق لقيته هو كوني صحفياً قادماً من فرنسا، فكان يسكنني هاجس أن يرد اتصال من أية جهة يتهمني بأنني جاسوس مثلاً. ولم أهتم في تلك الفترة بموضوع الرهائن الغربيين لدى هذه الجماعات ولا بقوتها وعتادها وعدد مقاتليها، فقد كانت جهودي مركزة على فكر هذه المجموعات وممارساتها وشهادات السكان ومقابلات مع منظري الحركات الجهادية. أما عن شروط التصوير فإنها واردة في إذن التصوير الذي تسلمته من طرف جماعة أنصار الدين، ويشمل منع التصوير بعد صلاة المغرب، ومنع تصوير النساء دون حجاب، وشروط أخرى».
بقي أن نشير إلى أن الفيلم الذي يثير جدلاً في فرنسا هو أحد الأفلام المطلوبة لدى الجمهور، وقد غصت القاعات التي عرض فيها بأعداد غفيرة من المشاهدين أخصائيين وصحفيين وأكاديميين.. كما حصل بداية الأسبوع الفائت في قاعة العرض بمعهد العالم العربي في باريس.
مواقف متباينة
صحيفة (Madiaparte) الفرنسية المعروفة بمواقفها المساندة للمسلمين وبوقوفها في وجه اليمين المتطرف اعتبرت أن مهرجان (Biarritz) حاول أن يعرض الفيلم الوثائقي الممنوع «السلفيون» فقط على المختصين، لكنه في النهاية حظي بعرض مهم تبعه حوار حول الفيلم ليصبح بذلك أهم حدث في العرض كله.
***
قناة فرنسا من جهتها قررت الانصياع لقرار حظر بث الوثائقي الذي شاركت القناة الفرنسية الثالثة بنسبة 30 في مائة من تكلفة إنتاجه.
***
المخرج الفرنسي الشهير «أكلود لامزمان» اعتبر أن هذا الوثائقي يظهر أكثر من أي فيلم أو كتاب صدر حتى الآن حقيقة العيش تحت سيطرة الجماعات المتطرفة.
***
خبير علم النفس (seronSerge Tis) اعتبر في تصريح أدلى به لصحيفة (Le Parisien) أن من الخطأ حظر هذا الوثائقي على من هم دون سن 18 عاماً، مضيفاً أن الحد المنطقي لحظر هذا الوثائقي هو حاجز سن 12 عاماً، لأنه يشتمل على صور عنيفة، وأضاف سرج تسرون أنه من الضروري التعرف على العدو في خطاباته وممارساته.
_______
*الاتحاد