*موسى برهومة
إذا كان من قمر أدبي يستحق التذكّر في عتمة الزمن العربي الحالك، فهو الروائي الأردني مؤنس الرزاز الذي رحل في عزّ عطائه، تاركاً وراءه أدباً رفيعاً استشرافيّاً عميقاً هازئاً، مادًّا لسانه الطويل في وجه العالم الصغير والضئيل!
ولعله من حسن حظه أنّه رحل مبكّراً قبل أن يصحو على التهدّمات التي لا تنتهي في المعمار المادي والروحي للأمة العربية التي ظل يحلم بها، ربّما بتأثر من والده المفكر القومي منيف الرزّاز الذي سامه الرفاق سوء المصير، وألقوا به في غيابة الهلاك..
من حسن حظ مؤنس أنّه رحل مبكراً، وكان أشار إلى هذه الفكرة، منذ أيام، رئيس تحرير صحيفة “الحياة” اللندنية غسان شربل وهو يتحدث عن الجواهري ونزار قباني ومحمد الماغوط ومحمود درويش، وغبطهم على رحيلهم قبل أن يروا ما حلّ بالعالم العربي من تمزقات كانت ستقتلهم غير مرة..
ومؤنس من تلك الكوكبة التي كانت لفرط حساسيتها تصوم عن الكتابة والكلام، فهو لم يتخذ الكتابة حرفة بالمعنى الوظيفي. كانت حروفه نزفاً متواصلاً، وكانت حساسيته مفرطة إلى حد أن دفعته، ذات مرة، إلى الدخول في كآبة قاسية عبّر عنها ببلاغة وإفصاح نادرين في أعماله الروائية وكتاباته النثرية. وبعد مرحلة الاكتئاب هذه، تخلّْى الرزاز عن واقعيّة السياسي وبراغماتيته، ليكتفي بمثاليّة المبدع وشموليّته، واستبدل باليقين السؤال، ولم يعد يطرح قضايا المجتمع، بل معاناة الفرد.
وكنتُ أجريتُ حواراً مع مؤنس الرزاز نشر في مجلة “الوسط” اللندنية مطلع أيلول (ديسمبر) 1997، سألته فيه: لماذا تعمد إلى تحطيم الحواجز الفاصلة بين الواقع والخيال؟
كان رد الرزاز: “الواقع الذي نعيش ليس واقعاً سحريّاً، بل هو أقرب إلى اللاواقع. فحين تتابع ما يجري في هذه البقعة أو تلك من العالم العربي، تشعر أنّك في منام، أو في حالة كابوسيّة تتراوح بين المنام واليقظة. ما يجري أمام أعيننا غير معقول: أنت ورفيقك المناضل تقضيان عمركما في الزنزانة، وحين تصلان إلى السلطة “يفطر” بك، قبل أن “تتغدّى” به. هذا لا يمكن أن يحدث إلا في بلادنا، ففي المجتمعات الديموقراطية لا يجوز أن تعتقل قائداً سياسيّاً سبع سنوات، ثم تطلق سراحه ليذهب إلى جدار الإعدام. لذلك ما عليّ كروائي سوى أن أرصد وقائع الأيام العربية بدقة وأمانة، حتى يغدو عملي (فانتازياً) موغلاً في الغرابة والدهشة”!
فما بالك لو أنّ مؤنساً عاش زماننا هذا، ورأى كيف تلتهم العصابات والميليشيات الأوطان وتسبي الشعوب، وتحرق البشر، فيما يتولى الطغاة قصف شعوبهم بصورايخ “سكود” والبراميل المتفجرة؟
ماذا لو عاش مؤنس في زمان “داعش” وهي تقتل باسم الله، وتزدري الحياة، وتعبث بالنصوص الدينية، وتحوّل الإسلام إلى منصة للكراهية، وتنزع منه أسمى قيمه، وأكثر معانيه حضّاً على الخير والعدل وتكريم الإنسان؟
كان صاحب “متاهة الأعراب في ناطحات السراب” الذي ودّع الدنيا في شباط (فبراير) 2003 شديد الحساسية، وكنتَ تشعر وأنت تحادثه أنّك أمام طفل كبير، وكنت علّقت أخيراً على صفحة شقيقه الدكتور عمر الرزاز بمناسبة الذكرى السنوية لرحيل مؤنس بأنّني “لم أرَ كاتباً بصدقه وعذوبته”، وكان ذلك واضحاً من حديث مؤنس حول المقارنة بين روايته “عصابة الوردة الدامية” وروايته “اعترافات كاتم صوت”، حيث أقرّ بأنّه لم يعد يطرح قضايا المجتمع العربي، بل الإنسان العربي والفرد كقيمة مطلقة وككيان قائم بذاته. وقد يكون معنى ذلك أنّ إحساسه في السنوات الأخيرة بات أقرب إلى العبث، “وأنّنا نحرث في بحر…” ولكن، يستدرك الرزاز، حتى بعد أن تدّمر عواصف العجاج مدينة الضاد في “سلطان النوم وزرقاء اليمامة” نرى الزرقاء تضع محارة على أذنها، وتسمع سيمفونية الأمل: “أعترف أنّني في متاهة حقيقية، أعزل من كلّ يقين أو ثقة مزيّفة، أو أيديولوجيّة، بالمستقبل”.
وبعد أن عولج مؤنس من الاكتئاب في مشافي بريطانيا، قرّر أن يجابه الحياة بالسخرية السوداء، أو “عدم أخذ الأمور بجدية أكثر من اللازم”. كانت تلك الفترة من أصعب لحظات حياة أبي منيف: “قبل سنة 1994، كنتُ أُصاب باكتئاب إذا انهزمت قوى التحرّر أو القوى التقدمية في جزر الكاريبي، على سبيل المثال! الآن لم أعد مسؤولاً عن بؤس العالم. ولم يعد – كما قال لي محمود درويش – انهيار الاتحاد السوفياتي جزءاً من مسؤوليتي الشخصية. ولست مستعداً في الوقت الراهن للتضحية بتوازني العقلي في سبيل القضايا الخاسرة”.
سلك الرزاز سبيل السخرية، وابتدع شخصية “كثير الغلبة” وحمّلها أحزانه وأشجانه وكوابيسه، وظلت السخرية ملازمة له في الكتابة والحياة. ويُروى أنّه قابل، في إحدى المناسبات، الملكَ الراحل الحسين بن طلال، وكان مؤنس حينها بلحية كثة، فسأله الملك: ما سر هذه اللحية، فجاوبه مؤنس: “يا سيدي، لم أستطع أن أربّي أولادي، فربّيت لحيتي”!!
ظل مؤنس حتى تجرعه الموت بغتة، يدشن عصور “الشظايا والفسيفساء”، وكان يلزمه من أجل ذلك أن يحدّق قليلاً في الواقع العربي كي يعثر على مزيد من خرائط الفسيفساء المترامية من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر.
عاش، صاحب “أحياء في البحر الميت” محدقاً في عتمة النفق العربي، حتى صدّع الواقع روحه، وتعرّض لخيارات صعبة وقاهرة أثناء حرب الخليج الثانية جعلته فريسة التمزق بين التضامن مع نظام قتل والده، وبين البارجات الأمريكية التي كانت توجه نيرانها إلى قلب أبي جعفر المنصور.
في روايته “اعترافات كاتم صوت” التي اختيرت عام 2007 ضمن أفضل مائة رواية عربية، نحدّق في أزمنة العسف والانفصام والانهيار العربي، فـ”يوسف” في الرواية يعترف: “إنّني بشر، إنسان عادي يحب ويكره… أؤكد لكم أنّني بشر مثلكم، حتى إنّني أحببت امرأة أمريكانية ذات مرة…”!
ثم يتابع: “إنّني خريج مدرسة الحياة، أعظم مدرسة في العالم، وأكثر عراقةً من أوكسفورد التي لم أرها، وأعظم اتساعاً من جامعة بيروت العربية التي رسبت فيها وترددت على مكتبتها”.. لكنّني “عاجز عن فهم البطولة، لا أفهم الأبطال أبداً. حين أموت لا أريد أن أترك سطراً في كتاب التاريخ، ولا فاصلة ولا ضمة، لا أرغب في أن أترك بصمة واحدة على لحظة من لحظات الزمن الأبدي الهاربة”.
وفي غمرة هذه الانفعالات كان الرزّاز يزداد إفصاحاً عما سماه في آخر أيامه “اشتجار الجسد مع الروح”.. “الروح تقول: دبت الشيخوخة في هذا الجسد في وقت مبكر، فبات عاجزاً عن أن يحملني. فيرد الجسد مغضباً مرهقاً: لماذا سجنتني الأقدار مع هذه الروح القلقة المضطربة التي لا تعرف السكينة ولا تألف الاستقرار. لكن المأساة لا تقف عند هذا الحد الجهنمي الفاجع، وإنّما يمتد الصراع ليشمل أقطار الكيان الجواني كله، فالروح تشتجر مع الغرائز، والغرائز تشتبك مع الأعصاب، والأعصاب تتقصف وتقصف جهازها في شبه حرب أهلية أو انشقاق حزبي داخلي”.
وانتقل هذا الاشتجار مع المكان الحميم الذي قطن فيه وأقام؛ جبل اللويبدة، الذي لم يسلم من سأم مؤنس ونزقه: “جبل اللويبدة شيخ مسنّ متهالك يلهث. يمشي محدودب الظهر، والريح تعبث بمعطفه الثقيل القديم. معطف كان عريقاً أرستقراطياً فصار عتيقاً شاحباً قد انتفخت الجيوب تحت عينيه. لم يشرب الدهر عليه ويأكل فحسب، بل ودخن أرجيلة ما بعد الأكل ورقد بكل ثقله عليه عند القيلولة. يا إلهي، أنظر إلى المرآة فأرى جبل اللويبدة يحدق فِيّ بعشرات العيون.
جبل اللويبدة مركز محيط دائرة حياتي المفرغة… ثمة عائلات من عمان الشرقية حسّنت أوضاعها المادية فانتقلت إلى جبل اللويبدة. ملامح الجبل تتغير، تغذّ الخطوَ مع خطواتي نحو شيخوخة مبكرة وهبوط طبقي واضح. كيف ارتبط مصيري بمصيرك أيها الجبل المكدود؟ سوف أغادر معمعان القتال بعد أن خسرت كل معاركي وربحت حربي، فأعتزل الدنيا والناس وأقضي ما تبقى من حياتي مع أبطال الروايات وبطلات القصص، سأقطع خط الهاتف، وأعطب جرس الباب، فاعذروني”.
ولا يتوقف البوح عند هذا الحد، بل يشمل طلب الاعتذار من البشرية جمعاء: “أعتذر من البشرية كلها عن وجودي، عن إشغالي حيز قدمين على هذه الكرة الأرضية، أعتذر عن كميات الهواء التي تنشقتها، فقد كان غيري من أصحاب مرض الربو أو سرطان الرئة أَوْلى بها والله أعلم. أعتذر عن اقتناصي فرصة غيري في احتلال موقع موظف ذي راتب شهري يكفي لإقامة الأود، كان ينبغي أن أتبرع برواتبي كلها للبشرية، لكنني لم أعثر على بنك للبشرية”!!
________
*مؤمنون بلا حدود