ترجمة: محمد الضبع
“دون كتب، سيصبح الإله صامتًا، والعدالة ساكنة، وستتوقف الفلسفات والعلوم، وستصبح الرسائل غبيّة، وكل الأشياء ستحدث في الظلام.”.
توماس بارتولين
___________
بدأت إجازة الصيف، وحان الوقت لاستعادة كل قوائم الكتب المؤجلة، والاتصال بالأصدقاء الذين نعرف أنهم أصحاب مكتبات ضخمة، كي نستعير منهم بعض الكتب أو كي نستشيرهم في اختيارات كتبنا التي سندمن قراءتها خلال الصيف. أو ربما لا داعي للاتصال بأحد لأن ذلك سيغضب أناتولي برويارد، الذي يرى أن استعارة الكتب عملية مضنية وشاقة. سنذهب إلى المكتبة بأنفسنا هذه فكرة أفضل، ولطالما أحبّها راي برادبيري. إليكم بعضًا من كلمات كبار مدمني الكتب، الذين قضوا أعمارًا كاملة من القراءة والبحث عن الكتب واقتنائها والعيش معها، ورحلوا قبل أن ينتهي شغفهم بها.
راي برادبيري: المناضل ضد حروب المستقبل، وضد إحراق الكتب
“لقد كنت أقضي ثلاثة أيام في الأسبوع لمدة عشر سنوات في المكتبة، أعلّم نفسي بنفسي، وكان هذا أفضل من الذهاب إلى الجامعة. على كل شخص أن يبدأ بتعليم نفسه – تستطيع أن تحصل على تعليم كامل دون أن تدفع أي مقابل.”
كل النساء اللواتي دخلن إلى حياتي كنّ عاشقات للكتب، معلّمات للأدب الإنجليزي أو بائعات في متاجر الكتب. وإن لم تستطع إحداهن التحدث بطلاقة عن تولستوي، أو توضيح بعض المقاطع من كتب هنري جيمس، فلا أستطيع الاستمرار معها. لقد اشتقت إلى هذه الأحاديث خاصةً تلك الطويلة منها على الوسادة قبل النوم، لقد كانت أروع ما حدث لي على الإطلاق.
التقيت بزوجتي مارغريت (ماغي)، بمتجر رائع لبيع الكتب في سان فرانسيسكو، ربيع عام 1946. لنتبادل بعدها نذور الزواج في السنة التالية لهذا التاريخ مباشرة. عشنا في البندقية وقبلها كانت حياتنا بسيطة قائمة على النقانق، البيتزا، والنبيذ الرديء، بينما كنت حينها مشغولًا بإعداد صواريخ الكتابة التي أخطأت القمر، ولكنها بطريقةٍ ما لا أعرفها أصابت المريخ.
وبينما كنت أتجول في أروقة جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس، سمعت أصوات نقر مستمر على الآلة الكاتبة قادمة من أسفل المكتبة، ذهبت إلى هناك بسرعة، لأكتشف غرفة للكتابة حيث يمكنني أن أستأجر الغرفة لأكتب فيها مقابل ١٠ سنتات لكل نصف ساعة. وأسفل الطاولة هناك آلة توقيت أضعها ثم أكتب بجنون حتى يتوقف العد وحينها تنتهي مدّتي، لأسرع وأدفع المزيد من المال حتى أتمكن من إكمال الكتابة قبل ذهابها.
كتبت روايتي 451 فهرنهايت في تسعة أيام. وكلفتني كتابتها 9 دولارات و80 سنتًا. لأسميها بعد ذلك رواية العشرة سنتات. اكتشفت خلال سنوات حياتي أن تلك المكتبة هي أفضل مكان للنقاهة في العالم. لقد كتبت العديد من القصص القصيرة، القصائد، والروايات التي تحكي عن كتّاب وشعراء آخرين. حتى أنني ادعيت في إحدى القصائد أن” إيميلي ديكنسون” أمي، وأن” إدغار آلان پو” أبي. ولو كان بوسعي لاخترعت آلة للزمن كي أعود وأنقذ كتّابي المفضلين من فراش الموت، وأحدثهم عن الأمل الذي ينتظرهم في المستقبل، وأخبرهم أنني مازلت أقرأ كتبهم الرائعة.
أريد أن أزور پو وأريه نسخًا من قصصه المطبوعة التي أملكها. ثم أذهب إلى باريس لأودع أوسكار وايلد وأتحدث إليه. هذه كانت حياتي، سنوات من رائحة الأوراق العتيقة، من القراءة من الحب، من الذاكرة مع الكتب.
كان المصريون القدماء، يحنطون قططهم المفضلة معهم. لذلك إذا سارت الأمور على ما يرام، أريد لشكسبير أن يكون وسادتي، وإدغار آلان پو أن يكون عند مرفقي الأيمن، وييتس عند مرفقي الأيسر، وجورج برنارد شو لتدفئة أصابع قدمي. هذه رفقة جيدة للسفر الطويل. أما في الوقت الحالي، فأقف هنا بكل تحيّزاتي ودون أيّ أمل، لأمهّد لكل هذا الحب.
*
أناتولي برويارد: ادخر كتبك ليوم ماطر
إجازة الصيف هي الوقت الملائم للقراءة، وأصدقائي يأتون إليّ حينها للاستعارة مني لأنني أملك كتبًا أكثر منهم جميعًا. ولكنهم لا يعرفون ما أمر به حين أعيرهم هذه الكتب. لا يفهمون أنني أفكّر في نفسي وكأنني أعطيهم الحب، الحقيقة، الجمال، الحكمة، والعزاء أمام الموت. ولا أظن أنهم يعلمون أنني أشعر حيال إعارتي لكتبي كما يشعر معظم الآباء حين تغادر بناتهم للعيش بعيدًا عنهم.
ولكن هذا لا يعني أنه لا توجد سعادة في إعارتي للكتب. كل رجل لديه رغبة بمشاركة كتبه، وعندما يهزّني كتاب ما، أتمنى لو أستطيع وضعه في جيب كل من أعرف. إذا انتشر كتاب مثل هذا بين أيدي الناس، سيصبح العالم أفضل، سيصبح مكانًا أجمل.
يسألني الكثيرون ما إذا كنت طبيبًا يصف الكتب كعلاج للآخرين، غالبًا ما تكون هذه الوصفات لأشخاص يعانون من حالات اكتئاب حاد. أي نوع من الكتب يريد المكتئب أن يقرأ؟ هذا سؤال لطيف: هل يجب أن يكون الكتاب مريحًا أم يجب أن يساعد المريض على الاعتراف بأن الأشياء تتداعى من حوله وأنه لا يستطيع تحمل المزيد؟
لكنني أسأل نفسي دائمًا، لماذا لا يأتي إلي أحد ويطلب أن أقترح عليه كتابًا لشخص وقع في الحب للتو؟
فكرة أن الناس سيقضون الوقت مع الكتب في إجازة الصيف تحت الشمس، وعلى الشواطئ، تجعلني أقترح عليهم كتبًا ألّفها أصحابها في الظلام، وفي سجون العزلة، واليأس، والموت. دع هولاء المستمتعين بإجازاتهم يشعرون بارتعادة الخوف بينما هم يتقلّبون في مناشفهم على الرمل. دع بودلير يعبر فوقهم بقصائده كنورس تائه.
أصدقائي ليسوا فقراء، ويخطر في بالي سؤال متكرر: إذا كنت حقًا تتمنى قراءة هذا الكتاب، إذا كنت جادًا في الأمر، لماذا لا تذهب وتشتريه؟ لماذا لا تتعامل مع الكتب كما تتعامل مع بقيّة السلع التي تشتريها كل يوم؟ لماذا يفكّر الناس دائمًا في الكتب وكأنها مشكلة يجب التخلص منها وعدم الاحتفاظ بها؟
عادةً حينما أجد كتابًا رائعًا لدرجة أنني أريد أن أحتفظ بتجربته لي وحدي، مثل هذا الكتاب يجعل لصاحبه ميزات إضافية على أي قارئ آخر لم يتمكن من قراءته. ولأعير كتابًا كهذا؟ لأتنازل عن كنز ثمين في عالم متنافس كهذا؟ سأكون غبيًا لو فعلتها. يجب أن أحفظ أسرار هذا الكتاب، أن أدخرها ليوم ماطر، لحالة جمال طارئة لا أتوقعها.
اللحظة التي أعير فيها كتابًا لأحد، يبدأ اشتياقي إليه. والكتاب الغائب عن الرف يصبح فجأة أكثر أهمية من جميع الكتب الموجودة. يذهب عقلي مباشرة للفراغ الحزين على الرف. طمأنينتي تحطّمت، توازني اختل، تأثيري أصبح مشوشًّا حتى يعود كتابي إليّ. وأتذكر في إحدى روايات فيليپ روث، حين تزوّج أحد أبطال القصة من فتاة فقط كي يتمكن من استرجاع الكتاب الذي أعارها إياه.
__________
*مدونة “معطف فوق سرير العالم”