خالد عزت
قبل أعوام من كتابة هذا النص انتابتني رغبة آسرة في رؤية المكان الذي صُرع فيه الشاعر والسينمائي الأكثر شهرة وغواية – بيير باولو بازوليني – وقتئذ كنا “أنا وباولا زانيسكو” مستغرقين في كتابة سيناريو فيلم (أصوات ضائعة) وفي نغس الوقت وأثناء كتابة النص، كنا نبحث عن أماكن تتناسب مع أجواء الفيلم وشخصياته، وكانت الأماكن تمدنا بالأفكار والصور وأيضاً الأصوات المنبعثة من حولنا ومن ذاكرتنا. في البدء لم تكن الفكرة واضحة تماماً، ولم أكن املك أدنى فكرة جاهزة عن الصورة النهائية التي سيؤول إليها الفيلم، كل ما كان لدينا هو صوت غامض علينا أن نتبعه دون إلقاء مزيد من الأسئلة المعوقة باستثناء تلك الأسئلة التكنيكية اللازمة لكتابة فيلم درامي، وذلك الإيقاع الملتبس الذي يشملنا ويدفعنا إلى البحث عن معادل موضوعي للفكرة. كان يخامر “باولا” حس الانقطاع والوحدة في قصائد “إميلي ديكنسون” وكانت قد قرأت شيئاً من أشعارها مترجمة إلى اللغة الإيطالية، وكانت موسيقى “أرفوبارت” تملؤني بحس ما لا أعرف كنهه. كنا نكتب الصور المفتتة التي تغمرنا حسبما أتفق، ثم نبحث لها فيما بعد عن نسق زمني وإيقاعي داخل السرد، يتآلف مع جغرافية الأماكن التي كانت تساعدنا في رسم حركة الشخصيات وإيقاعها تبعا لعمارة المكان ذاته الذي كان يشاركنا في تطوير الفكرة، وبالتالي فهم النص الذي كان يتخلق بين أيدينا ببطء.
كان نص الفيلم يتتبع عبر خطوطه السردية حركة مجموعة من الشخصيات والتي لا يوجد فيما بينها أي رابط درامي سوى الأماكن التي يتصادف أن تعبرها وهي تهيم على وجوهها في مجالات ضوئية تشبه لوحات “كارفاجيو”، وصراع بين تلك الذوات المنعزلة وبين أصوات عشوائية وحوارات متقطعة تروى بلغات مختلفة في أجواء روما القديمة، وكل شخصية من الشخصيات تروى لنا صوتها الغائب وهي تقتفى أثار ذكرياتها وسط أطلال وخرائب “الفورو رومانو” و”إبيا أنتيكا” وخرائب بيوت مقفلة، تركها أصحابها منذ زمن بعيد، لصمت الأشياء والظلمة. كما تركوا أيضا ذكرياتهم القديمة لهؤلاء العابرين- كأنما عن عمد – هذه الذكريات الممتزجة بهبو غبار هش، والتي من الممكن أن نتنفس فيها رائحة الموت.
وفى نقطة ما من السرد، كان على جميع الشخصيات أو الأصوات الهائمة، أن تلتقي ببعضها في مكان “ما” يجمعها لليلة طويلة، حيث تتشابك وتتصارع الذكريات والأصوات مع بعضها البعض.
وكان علينا العثور على مكان طبيعي له صوته المميز، وأن يكون مطبوعا في الذاكرة بحس شخصي إن لم يكن مأسوياً أيضاً، ليلقي بظلاله على أحداث الفيلم.
وكان شاطئ “OSTIA” حيث سحق جسد بازوليني هو المكان الأمثل الذي من الممكن أن تتلاقى فيه كل الخطوط.. والمصائر.
سألت “باولا” أن تقودني إلى الشاطئ الذي شهد اللحظات الأخيرة من حياة بيير باولو بازوليني.
بعد جهد وصلنا إلى حزام الشاطئ على أطراف مدينة روما. ترجلنا عبر طريق ملتو شبه خال تصطف على جانبية صناديق قمامة، وعلى يسارنا يلوح البحر بصورة متقطعة من وراء أسوار بنايات منخفضة يكتنفها حس بالوحشة والخواء. كان النهار قد انتصف لكن الشمس كانت مطفأة. سحب سوداء معلقة فوقنا لا تتحرك. وكان انفساح السماء الفجائي وامتزاجها بصور أكوام الزبالة والمخلفات وحفيف أمواج بحر أوستيا يعطي انطباعاً ثقيلاً بكآبة مقبضة. وعبر مساحة من نباتات عشبية متطاولة الارتفاع أشارت “باولا” إلى بقعة ينتصب وسطها “نصب” رث الشكل مقام على قاعدة أسطوانية تشير إلى المكان الذي اغتيل فيه بازوليني. لبثنا صامتين نحدق أمامنا عبر حاجز من السلك والهواء البارد يضرب وجهينا ببلل رذاذ خفيف، وفي التو أحالنا المكان في وقفتنا الشاردة إلى تلك الهوة العميقة التي يخيل للمرء أنها تعتقل داخلها آلاف الأصوات الموغلة في وحشيتها، بينهم كان صوت بازوليني كصرخة محتجبة فيما وراء صمت شاطئ أوستيا، والتي كانت قد وئدت قبل انطلاقها خارج الفم المفتوح متفجرة بلذة الدهس والعجلات الأربع تمخض اللحم والعظام بترانيم طقطقة الرأس التي استسلمت لوهدة الرمال المنبسطة.
… فكرت في هول تلك العذابات التي قُدر له أن يحملها فوق كاهله لثلاثة وخمسين عاماً، هي كل سنوات عمره التي عاشها، وأنه كان واحداً من هؤلاء الأفراد الذين منحهم الرب امتياز النفي وطلب العداء والاختلاف، منذ ميلاده بمدينة “بولونيا” في 5 مارس 1922، وحتى موته القاسي ليلة 2 نوفمبر 1975. وما كانت تلك التواريخ السابقة كعلامات ميلاد وموت سوى تسهيل بيوجرافي على قارئ سيرة رجل الرماد أو بازوليني المستعار.
وحده الحب، وحدها المعرفة، هما ما يحسب حسابهما،
وليس ماض الحب، وليس ماض المعرفة.
أية أحزان سوداء تخلفها حياة الحب المستنفد،
حين تتوقف الروح عن الصيرورة.
من منهما كان قد اختار المكان: الطراد أم الفريسة!؟ شاطئ أوستيا أو المكان “القبلي” الذي اختار من “مطلق” بازوليني لينال فيه صرعته الأخيرة.
لا أحد بقادر على تخيل ما دار بينهما “بازوليني/ بيلوسي” في تلك اللحظات المرعبة التي قادته إليها عماء شهوة جائعة، وآلم وحدة ويأس، دفع بالشاعر والسينمائي أن يدفع حياته ثمنا لرغبته في أن يتمثل نفسه بجوار شخص آخر يستطيع أن يمنحه بعض الدفء، أي شخص حتى لو كان عاهراً أخرق، أو مأجوراً، من قبل جماعة ما؟ ستصرعه بوحشية سادية، حتى قبل أن ينال الشاعر بغيته المرجوة.
ولا أحد بقادر أيضاً على التكهن بما كانت ستؤول إليه حياة بازوليني الفنية لو لم يمت، أو بالأحرى لم تقده قدماه إلى محطة قطارات روما ” TERMINI” وأن يقابل الفتى “جوسيبي بلوسي” مصطحباً إياه إلى شاطئ أوستيا المهجور، وأي نوع من الأفلام كان سيقدمها بعد إنجازه الجزء الأول من ثلاثية منحها للموت والكراهية، والتي بدأها بفيلم “سالو/ مائة وعشرون يوماً في سدوم” فيلمه الأخير الذي مات دون أن يشهد عرضه الأول خارج وطنه.
لكن الأرجح أن حياة بازوليني كانت قد انطلقت دون رجعة مثل قذيفة وانتهت بأن أصابته هو نفسه في جسده وروحه على شاطئ الموت.
رعب اللحظات التي عاشها بازوليني هو ما يؤرقني الآن وأفكر فيه بنشوة تسديد الضربات المتوالية، والتي يقطعها ارتعاشة صوته المتضرع، والمستميت، في تلقى الضربات وجها لوجه مع القبضة المكورة لقاتل مجهول الاسم – وعابر بطبيعة الحال – كي تكتمل شعرية المشهد – وربما أيضاً كان قد نسي في غمار تشوش حواسه الملتهبة والمتوترة بلذة العناق المنتظر أن يسأل الفتى عن اسمه!!
ألم يعن له أيضاً أن يسأله لحظة تلقى الضربة الأولى المذهلة والمفاجئة وهو في ذروة هياجه الحسى، والتي ربما ظنها بازوليني أنها من طقوس تطييب الحواس ودغدغتها قبل الانسحاق التام والتمرغ، قبل أن يعاجله الفتى بضربة ثانية كصدمة شاعر في صمت العالم وقسوته، وهو لا يزال واهما يتشبث مهتاجا بلحم الفتى، الذي فاجأه بضربة ثالثة ليؤكد قيمة وعنف الضربتين السابقتين. كان مشهد النهاية قد نفد بفنية عالية موغلة في الصنعة: تحطيم الوجه بعصبية غير مبررة ثم تهشيم الرأس بتصميم حاد لا راد له، وأخيرا دهس الجسد ومحو معالمه نهائيا – كمقصد شعري/ استعاري –يراد به إخفاء الجسد وسلبه كل ما هو شخصي من ملامح وسمات مميزة، كعلامات يسهل من خلالها التعرف على بازوليني الشخص، وتحويله إلى كتلة متخثرة منعدمة الشكل، ومجردة.
لماذا يبدو لي هذا المشهد بكل وحشيته ونقائه التدميري كقطعة عذبة من موسيقى مؤلفة لآلتين وتريتين لم يكتبها قط “فرانزشوبيرت” أو مشهدا سينمائيا لم يصوره بازوليني نفسه، وقد أغفله عن عمد في اللحظة الأخيرة من نهاية يوم عمل شاق، مقرراً إرجاءه لخطة تصوير اليوم التالي.
وفي ظني أن المشهد الأخير في حياة بازوليني يظل صالحاً لأن يكون مقطعا سينمائيا مستقلا بذاته، جديرا بأسلوبيته المميزة، أو على وجه الدقة “بلا أسلوبيته” المتفسخة والبدائية.
وبالطبع بالإمكان إضافته كنهاية محتملة ومقترحة لفيلم «salo»، ومع استعارة عنوان رواية جوزيف كونراد (قلب الظلمات) ليصبح عنوانا دالا ومعبرا عن حياة المخرج ذاته الذي لم يبتغ سوى عمق الأحشاء وظلمتها البدائية.
لماذا في هذه الصيغة المطفأة كما الدم، تقاوم معرفتي هكذا،
وتكاد تخنقني بسبب الدهشة الغاضبة، لأن كل شيء يؤلمها،
لماذا في أعماقي تكمن الأحاسيس ذاتها بنهارات لم تكتمل أبدا؟
تنزوي في المجرات الميتة، حيث يعتري الشحوب هذه الحفارة؟
أتعرى في واحدة من آلاف الحجرات حيث ينام البعض في جادة فونتيانا.
على كل شيء يمكنك أن تحفر: الزمان، الأشواق، الآمال.
كل شيء من الممكن أن ينتظر الآن: أن تتوقف حركة المجرات. أن تتجمد مياه البحر، أن تتلاشى وتمحى ذكريات الماضي بكل آثامه وتخبطاته الأيديولوجية، حتى يفرغ الشاعر من شهوة ملحة لعاشق خجول يتعجل بنفاد صبر مراهق، لم يتخلص بعد من أصوله الريفية وتربيته الكاثوليكية، ولا يزال وهو في الخمسين من عمره تؤلمه تعثر البدايات المشاكسة والمضحكة قليلاً.
ارتعاشة الأطراف والأصابع وهي تتلمس طريقها خلسة مصطدمة في لهوجة بالأزرار الصلبة، وشعث الملابس الثقيلة المحبطة ليد عاشق عجول يتلهف في سعيه الحثيث إلى عرى الأعضاء الرطبة المتوترة. الأيدي المرتعشة تبدو في الظلمة المشروخة بأضواء فوانيس السيارات المارة بحزام الشاطئ، كحيوانات أليفة، وقد اكتسبت حياة داخلية من نوع خاص، مفصولة ومعزولة عما حولها من الأشياء. فلاشات ضوئية قاطعة وخاطفة تسطع بشكل مفاجئ منسحبة على الوجهين المتلاصقين. هدير محرك “الفاروميو” يدور في عناد لا مبال بما يحدث على بعد خطوات قليلة، بطنين ممل ورتيب، مسطح الإيقاع، كأنه أوركسترا سيمفوني يعزف مقطوعة من التشوش الصوتي مؤلفة خصيصا لتُكون خلفية لمشهد يؤديه ممثل هاو، قادته أهواؤه، وحظه العاثر إلى مسرح طبيعي خالٍ من جمهور، أو حتى من الأدوات المتعارف عليها واللازمة لتشكيل عرض فنى. هنا لا توجد مصابيح إنارة تكشف عن وجوه الممثلين أو انفعالاتهم التي تموت في نفس اللحظة التي تولد فيها، أو ستار أحمر مطرز بخيوط مذهبة تتلوى بصرامة شكلية على النسيج المخملي، من أجل استخدامه بين الفواصل أثناء تغيير أوضاع الجسمين لحظة الاشتباك والعراك الدامي. بل إنه قد تم أيضا الاستغناء عن الملقن الذي عليه أن يردد على مسامع بازوليني العبارات والكلمات التي ستسقط عفوا من ذاكرته. لا يوجد هنا على مسرح أوستيا سوى العري الخام للوجود، والذات المتجذرة داخل ديكور أعد ببراعة مهنية نادرة للحظة تفجير مثلى، مُنتظرة ومُتوقعة، كقدر لا فرار منه إلا إليه.
بالإضافة إلى بعض المفردات المرئية المتشظية، ككلمات قصيدة، مشغولة ومطرزة بحدود الصفحة وفراغاتها. ويخيل إلىَّ أن تلك المفردات التي ساهمت في تشكيل العرض الذي أداه بازوليني ببراعة يصعب تصورها، قد اُنتزعت نزعا من سياق قصائده نفسها الممزقة بين ألم الجوع التاريخى والطبقي وألم الجوع الميتافيزيقي والفردي، وإن كان التاريخي قد أفسح، هنا، مكانه بلا عودة للفردي والوجودي.
سماء مرشوقة بإبر كعيون منطفئة تومض بارتعاشات مجرات لذة سفحت في زمن ماض لا يمكن استعادته/ عرق يطفر من حدقات مغمضة في دفء أجساد رومانية متشنجة بدوار ذبذبات حناجر جماهير الثورة المنشودة والتي ستترك الفرد حائرا ومهيضا، في وحشة فردانيته/ أصوات قطارات محطة TERMINI التي لا تهدأ أبدا في رواحها ومجيئها، وتعثرها المتشكك بين البدايات والنهايات/ وجوه غرباء متدثرة بالذل والهوان، وهي تعبر جادات روما العتيقة وشارع ماركوني وسان جيوفاني في صباحات غائمة.
ــــــ
* القاهرة.