التنمية البشرية وتجليات التعليم الذاتي المبدع


*أ.د. بركات محمد مراد


خاص ( ثقافات )
التنمية البشرية تُعرف في أحدث الموسوعات والمعاجم بأنها عملية توسيع القدرات التعليمية والخبرات للشعوب والمستهدف بهذا هو أن يصل الإنسان بمجهوده ومجهود ذويه إلى مستوى مرتفع من الإنتاج ، وبحياة طويلة وصحية بجانب تنمية القدرات الإنسانية من خلال توفير فرص ملائمة للتعليم وزيادة الخبرات.
وقد بدأ مفهوم التنمية البشرية يتضح عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية ، وخروج البلدان التي شاركت في الحرب مصدومة من الدمار البشري والاقتصادي الهائل وخاصة الدول الخاسرة ، فبدأ بعدها تطور مفهوم التنمية الاقتصادية وواكبها ظهور التنمية البشرية لسرعة إنجاز التنمية لتحقيق سرعة الأمم للخروج من النفق المظلم والدمار الشامل الذي لحق بالبلاد بسبب الحروب. 
ولذلك اعتبر منهج التنمية البشرية الركيزة الأساسية التي يعتمد عليها المخططون وصانعوا القرار لتهيئة الظروف الملائمة لإحداث التنمية الاجتماعية والتطور بالمجتمع على طريق الرخاء والرفاهية. ولهذا أخذت الحكومات والمؤسسات المختلفة تهتم بتحسين نوعية الموارد البشرية في المجتمع وتحسين النوعية البشرية نفسها ، وتنمية قدرات العاملين سواء على المستوى الإداري شموليا لتشمل كل العاملين على جميع مستوياتهم الوظيفية. 
ولا شك أن مفهوم التنمية البشرية عادة ما قرن بمؤشرات إشباع الحاجات الأساسية للإنسان حيث تنص المادة(25) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه”لكل إنسان الحق في مستوى معيشة كاف للحفاظ على صحته ورفاهيته هو وأسرته ، ويشمل الغذاء والملبس والسكن والعناية الطبية”. 
والواضح أن مؤشرات الحاجات الأساسية التي تبنتها الأمم المتحدة تؤكد ضمان كرامة الإنسان (دون تفريق بين إنسان وآخر) ، من خلال توفير الضروري من شروط ومقومات الحياة البشرية كالأمن الغذائي والسكني والصحي. 
ولا شك أن العمل في المنظور الاقتصادي هو عنصر الإنتاج الذي لا يقوم ولا يتهذب من دونه أي إنتاج ، وعند غياب العمل لا نحسب أن أغنى الثروات الطبيعية تساوي شيئا يعُتد به ، بل إن العمل وجودته العالية كانت سببا كافيا لتقدم كثير من الأمم والدول الفقيرة في الموارد الطبيعية كدول شرق آسيا عامة واليابان خاصة ، تلك الدول التي أصبحت في مقدمة الدول المزدهرة اقتصاديا والمتقدمة علميا وتكنولوجيا. 
ومن هنا فإ التنمية البشرية تتجاوز الآن حدود الاحتياجات الأساسية ، حيث يعم الاهتمام بكافة البشر دون النظر فقط إلى الدول الفقيرة أو المحدودة الدخل ، فمثلما تنطبق التنمية البشرية على البلدان الصناعية المتقدمة فإنها تنطبق أيضا على تلك البلاد ذات الدخل المتوسط أو المحدود على حد سواء.
ولذلك فليس غريبا أن نجد أن من أهم أدوات التنمية : 
1ـ ترسيخ أسس وأصول التربية الإبداعية ، ومحاولة منهجة أطرها التطبيقية ليتمكن المربون من الوصول إلى فقه إسقاطها وإنزالها على الشرائح الاجتماعية . 
2ـ توفير المناخ الكامل المطلوب لولادة العطاءات البشرية والمميزة منها تحديدا ، ومحاولة تحقيق كافة المحاضن الملائمة لنموها وازدهارها بعد تفعيل الأصول الكاملة لإشباع الحاجات الأساسية للإنسان مبكرا. 
(1)
3ـ دعم وحماية كافة أصول برامجها لا سيما العاملة منها في برامج بناء القدرات الذاتية في العلوم والتكنولوجيا . 
4ـ تعظيم الإمكانات الإنتاجية للأنواع المميزة من الإنتاج خاصة. 
ومن المعروف الآن أنه لا يمكن إقامة تنمية بشرية ناجحة ، من أجل تحقيق تقدم مطلوب للمجتمع في مختلف مؤسساته وهياكله الإنتاجية دون تحقيق إدارة ناجحة ، حيث أصبحت الإدارة الآن هي الرقم الصعب الذي يعّول عليه في أي تقدم . 
الإدارة والبشر : لعل بعضنا يعتقد أن تطوير الإدارة ونجاحها يعتمدان على وجود أنظمة مادية وفنية حديثة ، ولو أن هذا القول يشكل جزءا من الحقيقة ، إلا أن جوهر الإدارة الحقة هو البشر. فالموارد البشرية مُقدمة على الموارد المادية مهما علا شأن الأخيرة. فأهداف وحاجات العاملين في المؤسسة يجب أن تتناسق وتتكامل مع أهدافها ، فلا يمكن أن ينجح مشروع في تحقيق أهدافه بإهمال العاملين فيه. حجر الزاوية في عملية إصلاح أو تطوير الإدارة هو النظر بجدية إلى إنسانية الإنسان ، ومهما تحقق للمؤسسات ـ حتى في دول اليُسر المادي. من تقنية إدارية حديثة ، فهي دون الإنسان أحجار خاوية لا تقدم ولا تؤخر.
وإذا تحدثنا عن الإنسان فنحن لا نتحدث في المطلق ، بل نتحدث عن واقع معيش ، فأنت لا تستطيع أن تستفيد من نظم المعلومات التي تفجّرت على نطاق واسع في هذا العالم المحيط بنا دون ان تهيئ الإنسان لاستقبال واستخدام هذه المعلومات . ولذلك نرى ان الاستفادة من تقنية المعلومات في محيطنا العربي مهما انفقنا عليها ـ دون تدريب صحيح وحقيقي للبشر ـ لن تزيد بأي حال نسب التنمية والتقدم . 
لذلك فالقول بأن الثروة الحقيقية لأي مجتمع ومصدر الإبداع الرئيس فيه هي موارده البشرية قول حقيقي ودقيق. إن العناية بالثروة البشرية تستلزم وجود عاملين أساسيين هما التعليم والتدريب ، ولتحقيق التغير المطلوب في المجتمع ككل وفي الإدارة على وجه الخصوص لابد من العناية بالتعليم كيفا وكما ، فرفع مستوى الثروة البشرية وكفائتها يؤديان بدورهما إلى تحسين أدائها ، وجودة إنتاجها. وعند النظر إلى محتوى تعليمنا العربي فإن هناك الكثير مما نفتقر إليه ، كما لا يمكن إدارة الموارد البشرية ورفع كفاءتها للاستخدام الأمثل دون تدريب”. 
ويجري التعليم والتدريب في الدول الصناعية يدا بيد ، بينما يوجد لدينا طلاق بائن بين التعليم والتدريب إلى درجة أن (الشهادة) أصبحت ـ إلى حد كبير ـ لا تعني شيئا في الواقع العملي ، بينما هي كل شيء في قناعة الكثيرين ، إذ يسعى الناس إلى الحصول على شهادات مختلفة من أجل إثبات الذات وتحقيق نصر معنوي لا غير. وحتى نلفت النظر إلى أهمية العنصر البشري ، علينا فقط دراسة كيف تتخاطف الشركات والمؤسسات الكبرى العقول الإدارية الناجحة ، بل إن هذه العقول تدخل الدول المتقدمة حروبا إقتصادية ودبلوماسية للاستحواذ عليها ، وكم من شركة قاربت على الإفلاس جئ لها بمدير كفء ، فتحول احتمال إفلاسها إلى تحقيق أرباح لم تكن متخيلة. 
الإدارة فن وقيادة : إن العملية الإدارية ليست مجرد تسيير للأعمال أو ممارسة للرئاسة ، بل هي عملية قيادة بالدرجة الأولى . فالسلطة الإدارية وحدها قد ترغم العاملين في المؤسسة على الطاعة ، ولكنها لا تلهمهم ولا تحّفزهم ، ولا تبعث فيهم الحماس والانتماء والإبداع والتفاني. فالعمليات الإدارية وحدها لا تتغير ولا تتطور وإنما الناس هم الذين يعلمون ويتعلمون ، ويغيرون ويتغيرون ، ويطورون ويتطورون ، لذا ينبغي التركيز على البشر باعتبارهم الأساس والمحرك للنمو والتطور 
(2)
والارتقاء والتأكيد على ان القيادة هي عملية تعلم تعاونية مشتركة تسهم في دفع المؤسسة التربوية أو غيرها إلى الأمام ، ومراعاة أن العصر الحالي (عصر ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات ) يتطلب هندسة العلاقات إضافة إلى هندسة العمليات. 
وهذا ما يفرض تحديا رئيسا يتمثل بتطور القيادة التربوية ضمن إطار فكري حديث يراعي قابلية القيادة للتعلم والتطور وإعادة الصياغة بما ينسجم مع متطلبات العصر ومستجداته وتقنياته ، وذلك انطلاقا من ان القيادة هي عملية صناعية يمكن إعادة اختراعها والتفكير فيها وتشكيلها ، مما يمكنّها من إدارة مؤسسات المستقبل بكفاية وفاعلية. 
قيادة التغيير : انطلاقا من الأهمية البالغة والدور الحيوي للإدارة والقيادة التربوية للإرتقاء بالمؤسسة التربوية والنهوض بها بمختلف مستوياتها ومجالات عملها ، تتضح ضرورة تطويرها وتحديثها فلسفة وتنظيما وأداء ، باعتبارها الأداة القادرة على صنع التربية المستقبلية وتجويد نوعيتها ، مثلما تتضح لأهمية متابعة النظم التربوية في الدول العربية للتطورات والنماذج والتجديدات العالمية المتميزة في مجال الإدارة والقيادات التربوية ، ومواكبة مستجداتها وتقنياتها. 
ولغايات إحداث نقلة نوعية ملموسة في أداء الإدارة والقيادة التربوية لابد من الاطلاع ودراسة التجارب والنماذج المتميزة عالميا في مجال الإدارة والقيادة التربوية التي حققت نجاحا ملموسا في الدول المتقدمة ، ومنها قيادة التغيير التي تؤكدها أبرز التوجهات العالمية باعتبارها النمط القيادي الضروري لتحقيق التعايش الفاعل للمؤسسات التربوية في القرن الحادي والعشرين ، والاستجابة بشكل أفضل لمتطلباته وتحدياته وتقنياته. والقيادي الكفء هو الذي ينظر إلى الموارد البشرية على أنها أغلى موارد ، بينما المدير ينظر إلى الموارد المادية لديه على انها أغلى موارد ، فلا يمكن لأي مدير شراء الحماس والولاء والإخلاص والمبادأة والابتكار في السلوك من المرؤسين ولكن يمكن تحقيقها بالقيادة الفعالة. 
الإدارة والإبداع : إذن البطل الجديد الذي تتعامل معه الإدارة الحديثة هو جهد العقل البشري عند توظيف طاقاته المرهفة في أي موقع من المواقع الاجتماعية سواء في المدرسة أو المصنع أو المؤسسة الإنتاجية أو إدارات الوزرات الحكومية ، في إطار تكنولوجيا مرهفة. ومن هنا فإن الابتكار والإبداع يغدو عنصرا لابد منه إذا ما أردنا التحديث ، أو اللحاق بالحديث ، أو صنع الحديث ، وهو ما يلخصه قول “بيتر دركار” :”أفضل وسيلة للتنبؤء بالمستقبل هي أن تخلقه بنفسك”. ونحن بصدد انفجارات تقنية ومعرفية يكون فيها كل إنجاز آني جديد هو إنجاز مستقبلي ، فهي بذلك تصير فنا ، ومن ثم يلزمها الإبداع وهو ما ينقص غالبية إداراتنا ، بل ومفاهيم الإدراة لدينا. 
الإبداع : والإبداع ، كما يروق لمن يعالجون علاقته بالإدارة أن يعرّفوه هو “طريقة للتعامل مع المعلومات والموارد والطاقة الموجودة لإيجاد طرق جديدة في العمل وحل المشكلات” ، وباختصار هو الخروج بجديد مدهش ، من ركام القديم والتقليدي والمعتاد. والمثال المفضل لدى الإدارة لتقريب هذا المفهوم هو مثال الفنان “مايكل أنجلو” الذي قال إنه لا ينحت تماثيل لشخصيات ، بل يُخرج هذه الشخصيات الكامنة في قلب الحجر. المسألة إذن معالجة للموجود بروح الخيال لإخراج الجديد والمدهش. 
ومن هنا لا يكون غريبا أن تتحول الإدارة إلى فن ، بل إن كل أداء إنساني عندما يحّلق في الُذرى المرتفعة والآفاق البعيدة يكون فنا . والإبداع في الإدارة ، وهو إبداع قادة العمل لإطلاق الطاقات الإبداعية للمتعاملين ، ومن ثم إيجاد حلول إبداعية للمشكلات ، أي توليد أفكار جديدة للتطوير. ولذلك يحرص قادة التغيير بصفة عامة على صياغة رؤية مشتركة للمؤسسة التي يديرونها والالتزام بتنفيذها وتعزيزه لدى جميع الفئات المعنية من داخل المؤسسة وخارجها بصفتهم شركاء مساهمين 
(3)
فيها . كما يسعى قادة التغيير الذين يريدون الارتقاء بمؤسساتهم إلى تطبيق الاستراتيجيات المناسبة لتحقيق هذه الرؤية وترسيخ القيم والاتجاهات الجديدة والتجارب التطويرية داخل ثقافة هذه المؤسسة. 
إن الإبداع فاعلية إنسانية وخلق يتغيا تجاوز المعتاد وتخطى ما هو مألوف وسائد ، بهدف إنتاج صور ورموز وأفكار مغايرة ، واستشراف آفاق جديدة تبرهن على الملكة الخلاقة لدى الإنسان ككائن عملي يسعى دوما إلى تغيير واقعه ، وصياغة علاقات أكثر ملاءمة لطموحاته في الحرية والعدالة والتقدم. ولعل هذه الرغبة العارمة في الإبداع التي تتملك الإنسان منذ بداياته هي التي كانت الحافز القوي وراء صنع أشكال الحضارة والتقدم التي عرفتها كل المجتمعات الإنسانية. 
وهي التي تحفّز على مختلف أشكال التعبير لإنتاج ثقافة تعطي لعلاقات الناس فيما بينهم وبين واقعهم المادي والاجتماعي تلك الأبعاد السامية والمثالية التي تجعل الحياة قابلة لأن تعاش.والإبداع ، كتجسيد لجهد إنساني ، إما أن يبقى متقوقعا في الحدود الذاتية للفرد ، وإما أن ينصهر في إيقاع جماعي يحّفز مختلف القدرات الذاتية على تطويع الواقع وتحسين شروط العيش . وقد انقسم الباحثون في تناولهم للإبداع إلى اتجاهين أساسيين : 
الاتجاه النفسي الفردي الذي يؤكد على أولوية الذات ، وعلى المخزون الفردي في الإبداع باعتباره تفجيرا لرغبات وصور وأفكار لم يتمكن الفرد من التعبير الصريح المباشر عنها ، فيجد في المجال الإبداعي متنفسا ولحظة تعويضية يكّثف فيها تلك الصور والأفكار والرغبات بشكل أكثر سموا وجمالا.
أما الاتجاه الجماعي : فيرى أن الإنسان من حيث هو كائن اجتماعي ، لا يمكن أن يبدع إلا داخل سياق اجتماعي يسمح له بتفجير قدراته الإبداعية ، بل إن الإبداع ليس اجتماعيا فقط من حيث دوافعه وشروط إمكانه ، بل هو اجتماعي في مضمونه وأدواته كذلك. فالإبداع من هذا المنظور ، عملية ذات أبعاد اجتماعية تستمد مقوماتها من ثقافة الجماعة، وتسهم في نفس الآن في تغيير الحساسية الجمالية والفنية للأفراد. ومهما يكن من شأن هذا التضارب في النظر إلى العملية الإبداعية فإن ما هو موضع اتفاق هو أن الإبداع رهين بمجموعة من الشروط الذاتية والمجتمعية التي توفر إمكانات الظهور والتحقق. 
في العملية الإبداعية إذن يتجلى تركيب خلاق بين الذاتي والموضوعي ، بين ما هو موجود وما هو ممكن ، بين الحاضر والمستقبل . والإبداع بالتالي جدل متوتر لا يتحقق إلا ضمن سياق صراعي بين قوى المحافظة والاجترار أو قوى التجاوز والتقدم.
إن شخصية الفرد هي النمط الفرد لملامحه ، ويتجلى الإبداع من خلال السلوك ، ويشمل السلوك الإبداعي ـ فيما يشمل ـ الاختراع والتصميم والاستنباط والتأليف والتخطيط . الأشخاص الذين يظهرون مثل هذه الأنواع من السلوك وإلى درجة واضحة هم الذين يوصفون بالمبدعين”.ولا شك أن الاهتمام بالإبداع يدعونا إلى الاهتمام بالتعليم الذاتي ، بوصفه منهجا في التعلم غير تقليدي ، ويعالج كثيرا من مشكلات التعلم في العصر الحديث ، بعد أن زادت العلوم والمعارف وفاضت حتى أصبحت المقررات الدراسية والمصنفات التعليمية لا تستطيع استيعابها أو ملاحقتها، وقد أصبح التعلم واكتساب المعرفة مسئولية شخصية في عصر انتشار الميديا والثورة المعلوماتية. 
التعليم الذاتي : يختلف مفهوم “التعليم الذاتي” عن مفهوم “تفريد التعليم” الذي يقصد به مراعاة خصائص الفرد في كل جوانبه ثم وضع البرامج التعليمية التي تناسب قدراته ، وليس بالضرورة ان تكون هذه البرامج معتمدة على التعليم الذاتي . وبإجراء مقارنة بسيطة بين مفاهيم التعليم الذاتي Self – instruction الذي هو ضرب من التعلم يستخدم فيه التلاميذ تعليما أو أي مواد أخرى 
(4)
مبرمجة ولا يتلقون مساعدة مباشرة من معلم ، ولو أن الفرد عادة قد تم إعداده وفق غايات محددة للغاية ـ على ما يذكر الباحث “سائر بصمة جي” في مقاله عن “التعليم الذاتي”. 
والتربية الذاتية Self – education التي تعني عملية دفع النمو والنماء والتعلم الذاتي من قبل المرء نفسه ، وبوساطة دوافعه الذاتية ، فيختار المرء بنفسه المنبهات التي يود الاستجابة إليها ، ويحدد بذاته كيفية قولبة نفسه وتكيفها ، وإلى أي مدى. والتعلم الذاتي Self – learning وتعريفه بأنه “نوع من التعلم الذي ينطلق من فلسفة مؤداها : أن التربية في حد ذاتها تعد الفرد مسؤولا عن تثقيف نفسه بنفسه ، وان كل فرد في العملية التعليمية كائن قائم بذاته ومستقل عن باقي ذوات الآخرين. 
وهذه الفلسفة تشجع الاعتماد على النفس لا على المدّرس أو المدرسة أو الجامعة على أساس أن عملية التعليم والتعلم مستمرة دائمة مدى الحياة .. فإننا نجد تقاربا كبيرا في المعنى والمبنى والمقصد ، فهي جميعا تدور في فلك واحد ، وتهدف لمساعدة الفرد على تكوين الشخصية المتكاملة المتوازنة ، مع تزويده بالثقة بالنفس ، وإمكانية تعليم نفسه بنفسه ، الأمر الذي يساعد على التنمية الذاتية ، والانتقال إلى عالم المعرفة ، والاعتماد على النفس وتعليمه كيف يتعلم. 
أساليب التعليم الذاتي : كما يذكّرنا الباحث “سائر بصمه جي” هذه الأساليب حين يقول أن التعليم الذاتي نلاحظه فيما يتعلمه الناس من خلال حياتهم اليومية . فالأطفال الصغار يتعلمون اللغة بالاستماع إلى الآخرين وهم يتحدثون ، ثم يحاولون التحدث كما يفعل الآخرون ، ويتعلمون كيفية ارتداء ملابسهم ، أو آداب الطعام ، أو ركوب الدراجات ، أو إجراء الاتصالات الهاتفية أو كتشغيل جهاز التلفاز. ويمكن ان تكون التربية ذاتية عندما يحاول الناس الحصول على معلومات او اكتساب مهارات بمبادرة شخصية دون معلم .. وذلك عن طريق زيارة محل لبيع الكتب أو مكتبة أو متحف. وقد يشاهدون برنامجا في التفاز أو شريط فيديو أو قرصا مضغوطا أو يستمعون إلى برنامجا إذاعيا ، أو إكتساب خبرات حاسوبية معينة ، وكذلك المشاركة في دورات تدريبية متخصصة في تنمية جانب معين لدى المتعلم. 
وفي جميع هذه الحالات لا يُطلب منهم النجاح في امتحان ، وكلنا يعلم طريقة الطبيبة الإيطالية مونتسوري في تعليم الأطفال بين(2 ـ 5 سنوات) التي تعتمد على التربية الحسية للطفل القائمة على اكتساب الخبرات ، وليس للمعلم دور سوى الإشراف على الأطفال. ولذلك اترك ولدك أو من تقوم بتعليمه يمارس ما يتعلم ، وإن وقع في خطأ أول أو ثاني مرة ، فإن سيتعلم الصحيح في الثالثة ، وتأكد أنه لن ينسى ذلك طوال حياته. 
ومن هنا فليس غريبا أن نجد عالم التربية الفرنسي الشهير”جان بياجيه” يقول:” يجب أن يتاح للأطفال أقصى قدر ممكن من النشاط الذاتي ، باستخدام الأجهزة والأدوات التي تمكنهم من تحصيل المعارف والخبرات ، بحيث يفهمون ما يصلون إليه بأنفسهم .. وإذا حاول الكبار ان يسّرعوا في إحداث هذا التعليم ، فإن الأطفال سوف يحرمون من لذة اكتشاف المعلومات بأنفسهم..”. 
وفي هذا القول دلالات كبيرة وواضحة تؤكد على مبدأ التعليم الذاتي ، الذي يجب أن يعتاد الطفل عليه من الصغر ، لما فيه من توافق مع طبيعة الطفل التي تميل إلى البحث والاكتشاف وإلى تفعيل التعلم وتجويد نتائجه ، وهذا يفرض على الوالدين والمربين ان يؤمّنوا للأطفال فرص التعلم الذاتي ، من خلال توفير المناخات الضرورية لهذا التعلم ، والأساليب والأدوات والوسائل المناسبة لقدرات الأطفال وقدرتهم على استخدامها وتوظيفها ، بحيث يستطيعون التعامل معها والاستفادة منها بفاعلية كبيرة ، فيشعرون بالسعادة والرضى عن الذات. 
(5) 
إن عصر سمته الأساسية أنه عصر العلم والتكنولوجيا ، يصبح الإبداع مطلبا لا مناص منه ، لمن أراد أن يجد لنفسه موقعا متميزا على خريطة عالم يتقدم من خلال وثبات علمية كيفية تتجاوز كل قدرة على التنبوء. والإبداع في صميمه تجاوز للمألوف ، وهذا التجاوز لا يتحقق إلا من خلال مسايرة التيارات الكوكبية التي تنشغل ـ في كثير من الأحيان ـ بتعليم الطفل باعتباره حجر الزاوية في المجتمع الكوكبي الجديد ، حيث الأطفال فيه هم قادة المستقبل في إحداث التغيير المطلوب . 
ولا يتأتى ذلك إلا عن طريق تعليمه وتدريبه على إنتاج المعرفة ، بدلا من تدريبه على أن يكون مستهلكا للمعرفة. وهو ما يقتضي إطلاق العنان لخيال أطفالنا ، حيث أن “العلم ثمرة الخيال” على حد تعبير “أينشتاين”. وعندما نسمح لأطفالنا بالدهشة التي هي جوهر الإبداع ، ولا نقهر في داخلهم روح التساؤل ، ولا نضع حدودا لتعطشهم المعرفي ، ولا نحبط داخلهم أي نزوع صوب البحث والتنقيب والاستكشاف ، عندما نفعل ذلك ، نكون قد بدأنا بوضع الجذور الجنينية لجيل بمقدوره أن يحدث التغيير الإبداعي المطلوب.
ولا مبالغة في هذا القول فتنمية القدرة على الإبداع لدى المتعلمين ضرورة من ضرورات التربية في هذا العصر ، لأنها تساعدهم في مواجهة مشكلاتهم ، ومشكلات مجتمعهم بكفاءة ، وتطور حياتهم ، وتنمي الإنتاج ، وتساعدهم على تقديم حلول غير تقليدية للوفاء باحتياجات التنمية . والمجتمع الحديث في حاجة إلي إنسان يرقى بتفكيره ليتناغم مع تطوره ، إنسان يعي متطلبات العصر ويعرف ما عليه وما له ، ويشارك في حل المشكلات التي تواجه مجتمعه ، ويعمل على انطلاقه وتطوره.
___________________
المصادر والمراجع: 
1ـ د. بركات محمد مراد : أطفالنا وتربية عصرية ، جدة ، كنوز المعرفة 2.11 
2ـ سائر بصمه جي : التعلم الذاتي وأثره في المتعلم ، الوعي الإسلامي ،العدد 566، الكويت أغسطس 2.12 
3ـ سالم عبد الجبار : التنمية البشرية والتنمية المستدامة.المنهل ، العدد635 ،جدة إبريل 2.13 
4ـ عزت جرادات ومنى عبد الهادي : مؤتمر “التجارب العالمية المتميزة في الإدارة التربوية” تونس ، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ، تونس 2… 
5ـ د. محمد الرميحي : الإدارة .. فن ، العربي العدد 44. يوليو 199. 
6ـ فايزة محمد أحضر: إذا كنت مديرا فحاول ان تكون قائدا ، المعرفة العدد 145 مايو2..7 
7ـ يسري حسن عبد الهادي : قيادة التغيير ، المعرفة العدد 143 ، الرياض مارس 2..7 
_________
* أستاذ الفلسفة الإسلامية / قسم الفلسفة والاجتماع / كلية التربية ـ جامعة عين شمس

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *