ذات سفر


*منذر ابو حلتم

( ثقافات )

صوت القطار يتوالى بانتظام رتيب يبعث على النعاس .. ومن النافذة المغلقة تبدو سهول بيضاء
لا نهائية تمتد في كل الاتجاهات ..سهول شاسعة مغطاة بالثلوج .. والسماء ملبدة بغيوم كثيفة رمادية اللون ..!
منظر الغيوم والثلج يشعرني بالبرد .. فأحكم اغلاق المعطف حول جسدي .. واكور يدي امام فمي .. وانفخ ببطء بحثاً عن شيء من الدفء ..
انظر الى ساعتي .. ما زال امامي ساعات طويلة قبل الوصول ..
أخرج مجلة من حقيبتي .. اتكئ بظهري على مسند المقعد الخشبي المغلف بطبقة رقيقة من الجلد ..اتصفح المجلة لكنني اشعر بالملل .. اخرج دفتراً صغيراً .. وقلماً .. اكتب كلمتين ( سهول الثلج ..وفي الروح جمر ) ..لكن فراشات الشعر تغادرني ، فأغلق الدفتر ..
ليتني انام قليلاً ..فكرة النوم تبدو معقولة ، بل وملحة ..انظر من النافذة .. ذيل القطار يبدو وهو يتلوى عبر السهول الثلجية المتراميه ..
أغمض عينيّ ..واستمع الى صوت القطار ..وشيئاً فشيئاً تغيب السهول البيضاء .. ويغيب صوت القطار ……
الشمس مشرقة هذا الصباح .. وها انا اسير في الجامعة ببطء بين مجموعات الطلبة .. الاشجار تبدو لامعة ونضرة ..اجلس على مقعد خشبي طويل .. دقائق .. ثم ها هي تجيء مسرعة تنظر هنا وهناك بعينيها الجميلتين ..!!
اتعمد البقاء جالساً .. اتابعها وهي تتلفت يميناً ويساراً .. الى ان تلمحني فتجيء راكضة ..تقول :
-آسفه .. تأخرت عليك ..!
كانت ترتدي طاقية صوفية زهرية اللون شبيهة بقبعات الاطفال .. ومعطفاُ جلدياً اسوداً ..
ابتسم وامد يدي مصافحاً واقول :- خفت عليكِ ..!
-لا تخف .. انا مثل القطط بسبعة ارواح ..!
اضحك واقول :- بل سته ..لا تنسي انك نجوت من الموت بأعجوبة قبل اسبوع ..
نجلس معاً على المقعد الخشبي ..
_ هل تشعرين بالبرد ؟؟
-نعم .. الجو بارد مع ان الشمس مشرقة ..! ثم تابعت :- لكنني احب هذا الطقس .. كل شيء نظيف ومغسول بالمطر ..
الطلبة يروحون ويجيئون .. مجموعات صغيرة .. و جامعة ( بير زيت ) تبدو اليوم مشرقة وجميلة ..
نقوم .. نسير معاً نحو كشك القهوة .. اطلب كأسين من القهوة بالحليب ..
– ها .. ماذا تخبرني ؟
انظر الى عينيها واقول :- انتخابات مجلس الطلبة ستجري في موعدها .. وانت ستكونين ضمن قائمتنا ..!
– انا ؟!
– نعم انتِ .. فأنتِ لا ينقصك النشاط والخبرة .. ثم انك محبوبة من الجميع .. ستحصلين على اعلى الاصوات ..
تبتسم بخبث وتقول :- من الجميع ؟!
انظر اليها نظرة جادة واقول :- لكن الامر لن يكون سهلاً .. الانتخابات ستكون شرسة .. واذا فزنا .. ستكونين في بؤرة الاحداث ..فهل انت مستعدة ؟
انتبه فجأة على صافرة القطار ..افتح عيني .. كان القطار يتباطأ في سيره ، ومن النافذة الزجاجية المغلقة بدت محطة قديمة وقف على رصيفها بعض المسافرين ..
اغمض عيني مجدداً ..وصوت القطار يغيب شيئاً فشيئاً ..
ساحة الجامعة تغص بالطلبة .. وعلى البنايات اعلام كثيرة ولافتات عديدة مكتوبة بخط واضح كبير
( يوم الارض يوم خالد في تاريخنا )
( لن يذهب دم الشهداء هدراً )
( حملت رشاشي لتحمل بعدنا الاجيال منجلا )
هتافات تنطلق من كل الجهات .. ومن خلف اسوار الجامعة تبدو الدبابات الاسرائيليه وهي تحاصر مداخل الجامعة
اقف على منصة مرتفعة .. امسك في يدي مكبر الصوت .. كانت هي تقف الى جانبي تهتف بحماسة شديدة .. وحول عنقها تلتف كوفية سوداء وبيضاء ..
باب مقصورة القطار يُفتح مصدراً صوتاً مرتفعاً .. انتبه وافتح عينيّ .. رجل ينظر اليً ويقول معتذراً بلغة البلاد :- آسف .. ابحث عن صديقي ..! ..ثم اغلق الباب ومضى
.. من النافذة كان المساء يقترب .. والسهول الثلجية تكتسي لوناً رمادياً شبيهاً بلون الغيوم .. والقطار يواصل عزف انشودة السفر ..
غرفة التحقيق معتمة .. وخدر مؤلم عميق يتغلغل كالسكين في كتفيّ .. وانا معلق من يديّ في سقف الغرفة تكاد رجلاي تلمسان الارض ..!
اصوات المحققين تصل اليّ غريبة متداخلة .. وكأنها تأتي من بئر عميقة .. لكنني كنت انشد بصوت منخفض كالهذيان :
– انني عدت من الموت لأحيا .. واغني ..انني ..مندوب جرح … جرح .. جرح …
وكنت احاول جاهداً ان اتذكر باقي القصيدة .. لكن ذهني مشوش تماماً ..ققد منعوني من النوم منذ عشرة ايام ..!
استيقظ فجأة وانا ارتجف من البرد .. النافذة مفتوحة قليلاً .. والثلج يدخل من النافذة .. والليل يمد عباءته على كل شيء ..والسهول الثلجية تبدو رمادية كلوحة نسي الرسام ان يلونها ..
أغلق النافذة واجلس على المقعد .. اضيء المصباح الاصفر المعلق في سقف المقصورة ..ابحث عن علبة السجائر .. اشعل سيجارة وانظر من النافذة ..
الحلم المتقطع اعاد وجهها الى ذاكرتي بقوة .. شوق جارف يجتاحني .. اتذكر كيف عانقتني بقوة وامام الجميع .. بالقرب من الحدود وهي تودعني ..
دموعها كانت تنساب على وجهها دون ان تفكر بمسحها ..اتذكر كيف ارتجفت شفتها السفلى وهي تقول بصوت مرتفع وتلوح بيدها :
– انت اقوى من المنفى ..
الجنود يقتادونني بعيدا .. انظر خلفي .. احاول احتضان وطني بعيني .. يجيئني صوتها :
– نحن اقوى من الموت ..!
اسند رأسي على جدار المقصورة الخشبي … يا الهي .. لقد مرت خمس سنوات ..! .. خمس سنوات من السفر والرحيل المستمر ..بين موانئ ومطارات الاغتراب ..
استغرب هذا الحنين الدافق لكل شيء .. لوجوه اصدقاء احبهم وافتقدهم .. لأماكن وأحداث تتجسد الآن في مخيلتي بحضور طاغٍ غريب ..
وجهها الطفولي يطل مبتسماً حيناً .. وحزيناً احياناً ..رنة صوتها تنبض في داخلي
– انت اقوى من المنفى ..
اقف قرب النافذة .. الافق بدأ يصطبغ بلون الشروق الاحمر ..والثلج يغطي الارض والاشجار ..
كان الفجر جميلاً .. وهو ينشر ضوءه على التلال البعيدة ..
انظر الى ساعتي .. القطار سيصل الى المحطة الاخيرة بعد ساعة ..امسح عيني .. اتفقد حقيبتي واوراقي جيداً .. انظر الى الشمس وهي تبرز من وراء الافق .. اتنهد بعمق واهمس ..: – نعم يا حبيبتي .. يجب ان نكون اقوى من المنفى .. واقوى من الموت ..!!

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *