* إعداد: نوّارة لحـرش
( ثقافات )
الموت التراجيدي الذي سربها وسحبها من الكتابات والحياة إلى أسفل الجسر
في هذا الـ29 من جانفي، تحل الذكرى الـ27 لرحيل وغياب الشاعرة والإعلامية صفية كتو، رحيل في أقسى حالاته وتفاصيله التراجيدية والدراماتيكية، كيف لأنثى شاعرة ترتشف الحياة في القصائد والنصوص الطازجة بالرهافة والحبّ والأمنيات، أن تنهي رشفتها وترمي جسدها/حياتها من أعلى الجسر؟، وتقذف بنفسها روحا لطالما رفرفت بالكلمات والقصائد وبالكتابة التي كثيرا ما تكون ملاذا ومتكأ وحياة أخرى توازي الحياة الواقعية وأكثر تضاهيها متعة وخصوصية وفنا ورغبات. ترى كيف شعرت كتو لحظة رمت بنفسها من الأعلى؟، كيف كانت مشاعرها بين الأعلى والهاوية؟، وهل لهذا الموت من أعلى وهاوية؟، أليس هو هاوية الحياة والجسد والأحلام لحظة تختار شاعرة وأنثى وامرأة متلبسة بالنصوص أن تغوص فيها كما لم تغص من قبل في حياة أو في خيالات. صفية كتو، “الشاعرة المأساة” على حد تعبير الروائي أمين الزاوي، الشاعرة المدماة بحياة ربما خانتها وآذتها في الكثير من المرات والممرات، وربما لم تكن على رحابة ممكنة لتستقبل خيانات أكثر وطعنات أكثر، فقررت أن تدفع بالجسد كما بالروح كما بالحياة، إلى هاوية سحيقة. ما أقصر الحياة بين أعلى وأسفل الجسر، ما أخف الروح بين أعلى وأسفل الهاوية. صفية كتو عادت هذا الأسبوع من خلال ذكراها، هي التي عادت ذات شتاء ماطر في 29 من يناير 1989 إلى مسقط رأسها “عين الصفراء” محمولة على الأكتاف، وقتها اشتد اللغط والجدل حينما تعالت صيحات البعض ممن اعرض على دفنها والصلاة عليها كنوع من العقاب لها وعدم الرضا عنها لأنها خرجت عن الأعراف حسبهم حينما هجرت مدينتها واختارت العاصمة، هجرت حياة الخنوع الذي كان مصير سيدات المنطقة في ذاك الزمن واختارت مصيرها وحريتها بعيدا عن وصاية الأهل والمجتمع القبلي الذكوري، لكن إصرار بعض النزهاء والحكماء من أهل المدينة كان رحيما بها وتم دفنها في مدينتها/مسقط رأسها رغم سنوات الهجران والغياب ورغم عدم الرضا المعلن ضدها. صفية كتو التي تطل اليوم على الحياة من خلال ذكرى رحيلها، تطل من بين كلمات الذين كانوا على مسافة مقربة منها. وهنا بعض أصدقائها، يتحدثون عنها وعن حياتها الأدبية ومسيرتها القصيرة الحافلة بالعطاء والغموض والشقاء، هنا شهادات/وقفات عنها وعن تجربتها وسيرتها وقيثارتها وموتها التراجيدي الذي أنهت به حياتا ومسيرة ومحطات.
مرزاق بقطاش/ روائي وصحفي
(كانت تعاني اضطرابا نفسيا، لكنه الاضطراب الجميل الذي مكنها من أن تصير شاعرة)
سؤالك هذا أثار بعض مواجعي وبعث في نفسي الكثير من الذكريات. وأولها أن الشاعرة الراحلة نادية قندوز كانت قد رثت صفية كتو بمقالة هي من أبلغ المراثي التي قرأتها في حياتي كلها. قالت عنها ما معناه: إن جسر تيلملي لم يخطئك هذه المرة!. ونادية قندوز كانت تعرف بحكم تجربتها الطويلة في مصحة التوليد ونضالها ضد الاستعمار الفرنسي معنى المعاناة النفسية لدى النساء الجزائريات، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بالشواعر الجزائريات؟.
لقد كانت بدورها تعاني بعض الاضطراب النفسي وهو الأمر الذي جعلها أقرب من غيرها إلى فهم نفسية شاعرتنا الراحلة صفية كتو، عليها رحمة الله الواسعة. كانتا صديقتين تلتقيان في الكثير من الندوات الشعرية وفي اتحاد الكتاب الجزائريين خلال السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم. وسؤالك هذا ذكرني أيضا بالشاعرة المصرية الراحلة ملك عبد العزيز التي التقيت بها عام 1975 في نادي الصنوبر بمناسبة انعقاد المؤتمر العاشر لاتحاد الأدباء العرب. وجدتها مصدومة نفسيا هي الأخرى، وأذكر أنها تأملت وجهي وقالت لي: إنك تشبه ابني!. وطربت في البداية لهذه المقارنة، فسألتها: وهل يقول الشعر؟ وهنا أشرقت عيناها بالدمع، وقالت لي بصوت خفيض: لقد انتقل إلى رحمة الله. فلقد كان طيارا عسكريا، واستشهد قبل سنتين، أي عام 1975 في سيناء. وشاءت الأقدار أن تنتقل ملك عبد العزيز إلى الدنيا الأخرى، فلقد كانت تنتظر الحافلة في القاهرة، وإذا بشجرة عجوز تتهاوى وتسحقها. ولك أن تسألي عن سبب هذه الصورة، فأجيبك بأن الزميلة الراحلة صفية كتو، واسمها الحقيقي فاطمة الزهراء رابحي، أصيبت في صغرها في رأسها، حين وقع عليها أصيص من الزهور في مدينة عين الصفراء، فيما قيل لي بعد ذلك بسنوات. ومنذ ذلك الحين وهي تعاني اضطرابا نفسيا، لكنه كان اضطرابا جميلا، لأنه مكنها من أن تصير شاعرة مرهفة الأحاسيس، تريد أن تنأى عن هذا الوجود، لتحلق في سماوات لا نكاد نعرف عنها شيئا، بل إننا ما كنا نفهمها في الكثير من الأحيان.
كانت أشبه بذلك الشاب الروسي الذي سقط على رأسه أصيص من الزهور فظل غائبا عن وعيه بضعة أيام، ولما أفاق صار يحل أعقد المعادلات الرياضية. صفية كتو، كانت تحل أعقد المشاعر بكلماتها اللطيفة التي تخفي في حقيقتها أغوارا سحيقة لا يفهمها إلا من إكتوى بالنار التي اكتوت بها هي. عملنا معا في وكالة الأنباء الجزائرية بضع سنوات، لا يمر عليها يوم دون أن تسعى إلى رصد مشاعرها عن طريق التعبير الشعري الرقيق، وكانت محبة للمطالعة، عاشقة للسينما والندوات الشعرية. تغضب حينا، لكنها تبتسم أحيانا كثيرة. وقد شاءت الأقدار أن تدفن في مدينة عين الصفراء، مسقط رأسها، غير بعيد عن المقبرة التي دفنت فيها الكاتبة إيزابيلا إيبرهاردت في عام 1906.
رحم الله الفقيدة، وكلا من نادية قندوز وملك عبد العزيز. والأمر الذي ألاحظه اليوم هو أن الساحة الأدبية الجزائرية بدأت تخلو من الشاعرات باللغة الفرنسية وتفسح المجال للواتي اخترن التعبير باللغة العربية عن خلجات أنفسهن. فهل كان جيل صفية كتو ونادية قندوز هو الجيل الأخير الذي استخدم اللغة الفرنسية في مضمار الشعر؟. هذا مجرد سؤال أطرحه على نفسي، قبل أن أطرحه على القراء.
بشير خليفي/ شاعر وباحث في الفلسفة
(أنطولوجيا الخيال والحزن)
تمر هذه الأيام الذكرى السابعة والعشرين لرحيل الأديبة والصحفية صافية كتو، ويقتضي منا الوفاء استذكار جزء من خصالها وأعمالها الفكرية المتنوعة. تعود الذكرى لتعيد الدموع إلى عيون وقلوب المخلصين الذين عرفوا صافية كتو وأدركوا معاني عباراتها المتوهجة المغسولة بمطر الشعر، والممتدة كحال المقاصد الجميلة التي تحتفي من خلالها بالطفولة والطبيعة والجمال. وإذ نتذكر اليوم صافية كتو شاعرة هذا البلد على حد وصف الروائي لعرج واسيني فلكي نلقي بعضا من الضوء على مسار كاتبة اتسمت بالفرادة في الإبداع والتعدد في النوع، بكتابتها للرواية، القصة القصيرة، الشعر، المقالة، التحقيق الصحفي، المسرح، أدب الخيال العلمي، أدب الأطفال. وقد كانت بداية التفرد حينما أقرت الشاعرة بضرورة البحث عن فضاء فكري رحيب يسمح لها أن تتنفس ملء سعتها باختيارها للكتابة الأدبية والصحفية، كان ذلك حينما اعتزلت التدريس سنة 1969 مفضلة الانتقال من مدينتها ومسقط رأسها “العين الصفراء” التي ولدت بها في 15 نوفمبر 1944 إلى العاصمة حيث عملت صحفية في وكالة الأنباء الجزائرية وكذا محققة صحفية في جرائد متعددة كالمجاهد، جزائر أحداث، أفريك أزي. أصدرت صافية منتخبا شعريا مطبوعا في كندا بعنوان “صديقتي القيثارة”( Amie cithare) سنة 1979 وكذا متتالية قصصية بعنوان “الكوكب البنفسجي”(La planète mauve) سنة 1983، هذا زيادة على مسرحية تحمل عنوان “أسما” (Asma) مثلت في القناة الثالثة، ومجموعة قصصية للأطفال – لم تطبع- سمتها “وردة الرمال” ( La rose des sables)، ورواية تهتم بالشق النفسي والاجتماعي أقرت كاتبتها ذات مرة بأنها ستشكل منعطفا نوعيا للكتابة الروائية في الجزائر. كما ينبغي الإشارة إلى أن صافية كتو تعد سباقة في مجال أدب الخيال العلمي هذا ما دفع الناقد والصحفي التونسي حمادي عباسي -في رؤية له بجريدة الوقت (Le temps) التونسية يوم 26/12/1984- إلى اعتبارها رائدة في مجال القصة المرتبطة بالخيال العلمي. ويصنف أدب الخيال العلمي بوصفه واحدا من أهم الأجناس الأدبية المعاصرة وأوثقها ارتباطا بالحاصل في مجتمع ما.
المسألة هنا لا ترتبط بالمنجز بحدود ضيقة بل بما يتوقع اختراعه أو اكتشافه مثلما حصل مع الروائي العالمي جيل فيرن (Jules Verne 1905-1828) في رائعته “من الأرض إلى القمر” كتبها سنة 1865 والتي تحدث فيها عن نبوءة أدبية تحققت حينما وطأ رائد الفضاء الأمريكي نيل امسترونغ سطح القمر في 19/07/1969. أما بالنسبة لصافية كتو فإن مجال الخيال العلمي يظهر بجلاء في القصص الثلاث “فيكا المحققة الفضائية” (Vyka, reporter spatial) سنة 1967، “القمر يحترق” ( La lune en flammes) سنة 1968، “الكوكب البنفسجي” ( La planète mauve) سنة 1969. ففي قصة “القمر يحترق” تطير بنا صافية كتو إلى المستقبل في رحلة فضائية إلى سنة 2222 تحديدا على متن الطائرة العائدة 15، والمشكلة من 500 مقعد والتابعة لشركة طيران القمر الواقع مقرها في جزيرة اصطناعية بالبحر المتوسط، تحت إمرة “ياسين” مؤطر وقائد الرحلة وبمساعدة “مليكة” مضيفة الطائرة النشيطة التي بإمكانها قراءة الرسائل من خلال الشاشات المختلفة، حيث تلمح الركاب في سعادة غامرة، فالبعض يستمتع بالقراءة وآخرون يكتبون بينما تستمع البقية بموسيقى هادئة ألفها موسيقي مختص في الأمراض العصبية. بشكل مفاجئ طلب من ياسين قائد الطائرة العودة بها إلى الأرض لأن القمر في خطر.. أخبر ياسين الركاب بقرار العودة، حدثت جلبة وكثر التساؤل من دون أن يخبرهم بالسبب وأثناء عودتها إلى الجزيرة الاصطناعية نزل الركاب وطفقوا يتأملون بمناظيرهم الفضائية إلى المكان الذي كانوا سيقصدونه فوجدوا بأن القمر يحترق. وتماهيا مع طريقة روبرت ستيفنس ( Robert Stivens)، وهربرت جورج ويلز ( H.G.Wells) وكثير من رواد أدب الخيال العلمي تفننت صافية كتو في وضع عالم طوباوي يجد من البحث والدراسة العلمية أساسا له، كحال الروائي الأمريكي المعاصر مايكل كرايتون ( Maichel Krayton) الذي يختم روايته في الخيال العلمي خصوصا، بأهم المراجع التي اعتمد عليها. بقي أن نقول بأن صافية كتو ترجلت عن صهوة جواد الحياة الجامح الذي طاف بها في أرجاء الدنيا بعد خمس وأربعين سنة من العطاء والترحال، مثلما ترجل همنغواي، وترجلت فرجينيا وولف، ياسونارب كوباتا الأديب الياباني المتحصل على جائزة نوبل، وكذا الأديب الأردني تيسير السبول والشاعرة العراقية حياة شرارة. كان ذلك يوم الأحد 29 جانفي 1989 بالجزائر العاصمة، ليتم نقلها إلى مسقط رأسها العين الصفراء بالجنوب الغربي الجزائري حيث تم مواراتها الثرى في مقبرة سيدي بوجمعة قرب والدتها وغير بعيد عن قبر الفارسة والكاتبة العالمية إيزابيل ابيرهارد.
بوداود عميّر/ كاتب وباحث ومترجم
(محطات مسار حافل بالأحلام والخيبة)
أوحى مصير صافية كتو التراجيدي للروائي الأعرج واسيني فكرة جسّد نهايتها من خلال عمله الروائي الموسوم “سيدة المقام” معتبرا المكان في الرواية: جسر تيليملي بالعاصمة فضاء رمزيا جسّد الملاذ الوحيد لبطل الرواية، بعد أن استنفذت أمامه جميع سبل الخروج من هشاشة وضع كان يتجه رويدا رويدا صوب أفق مسدود، مستحضرا وهو يهمّ بإلقاء جسده المتهالك من علو هذا الجسر الشاهق صورة الشاعرة صافية كتو وهي تتأمل محدّقة المسافة بين الأرض والجسر وخيبة أحلامها التي اغتالتها ذات قادم سيجرف مع مرّ الوقت كل شيء جميل في الفن والمرأة والحياة، “تذكرت صديقتي الشاعرة صافية كتو التي قتلتها المدينة فرمت بنفسها من أعلى قمة في جسر تيليملي الذي يربط أسفل المدينة بمرتفعاتها”، همهم بطل رواية الأعرج واسيني في نهاية الفصل بعد أن تخلص من أوراق هويته ومزّق مخطوط مؤلفه، معترفا في آخر المطاف بعدم جدوى الكتابة. عندما انتقلت الزهراء رابحي من مسقط رأسها: مدينة العين الصفراء في الجنوب الغربي الجزائري، فكرت أن فضاء هذه المدينة المحافظة ليس بمقدوره أن يسع طموحها في ممارسة الشعر والتوق للحرية، لذا عقدت العزم على تغيير واقعها وقررت الانتقال إلى مدينة الجزائر، تركت جانبا فساتينها، اسمها ولقبها، وتبنت اسما آخر: صافية كتو، اسم هو مزيج من تسمية قديمة للمدينة مسقط رأسها ولجدة حدثتها أمها أنها كانت ذات محاولة تقول شعرا شعبيا لم تستطع كتابته، ليغيب متواريا في فضاء النسيان ولوعة العجز عن ممارسة أشياء الكتابة. الوجه الآخر لصافية كتو الإنسانة مثير حقا، كيف استطاعت هذه المرأة، الغزالة السمراء كما كان يحلو لها أحيانا وصف نفسها، القادمة من مجتمع محافظ حريص على عدم تجاوز خطوط حمراء رسمتها تقاليد بالية ضحيتها المرأة بالدرجة الأولى، تجلت خريطتها من مدينة كالعين الصفراء انسلخت من حالة الكسموبوليتية التي عاشت تجلياتها خلال العهد الاستعماري، لتتحول إلى قرية متكئة بخنوع لقدرها، كيف استطاعت أن تهرّب أشعارها وتوقها للحياة كامرأة وكمبدعة إلى العاصمة المدينة وأن تنال بالتالي حظها من الشهرة كإعلامية تكتب في كبريات الصحف الوطنية آنذاك وتحقق طموحها في الكتابة والإبداع الأدبي؟، بل وتشتغل على تجارب إبداعية جديدة؟، لماذا تغيّرت حالة السعادة التي عاشت فتراتها الأولى بالعاصمة، الجلية في قصائد تيمتها الأساسية: الشوق، الأمل، الحلم، الطفل… “أتوق لوطني أن يكون حرا/ مثل عصفور حر/ لا أطيق تحمله مكبلا / أتوق لوطني أن يكون سعيدا / لعل أطفاله يولدون وسط الأغاني…”. لتتحول في أواخر الثمانينات إلى حالة شقاء دفعها قسرا إلى اختيار هذه النهاية التراجيدية؟، هل كانت للأحداث الدامية التي ألمت ببلادنا في العشرية السوداء مسوغا لرؤية تنمّ عن فراسة وبعد نظر بعد أن طال الاغتيال نخبة من الكتاب والصحفيين ابتداء من رفيق دربها الطاهر جاووت مرورا بقائمة طويلة من شهداء الحرف؟. واسيني يؤكد بما لا يدع مجالا لشك فراستها فهي “كما الكائنات البرية التي تتحسّس عمق الأرض ترقبا لحدوث زلزال وشيك”. في كتابها الموسوم: “سيجيء الموت وتكون له عيناك” أحصت الإعلامية والشاعرة اللبنانية جمانة حداد 150 شاعرا وضعوا حدّا لحياتهم خلال القرن العشرين: “كل مرة ينتحر إنسان، يولد سر، سر منيع لا يستطيع أحد كشفه يوما” كتبت تقول في مقدمة الكتاب، لقد استطاعت صافية كتو أن تتبوأ مكانا ضمن كوكبة من الشعراء المدرجين في ثنايا الانطولوجيا جنبا إلى جنب مع سيلفيا بلاث، ايميلا روسيلي، تييري ميتز، خليل الحاوي، مايكوفسكي… وآخرين، رغم أنها لم تنشر سوى مجموعة شعرية واحدة. صحيح قد لا يعثر المتصفح لمجموعتها الشعرية “صديقتي القيثارة” على نصوص متفردة، فقصائدها عموما لا تكاد تنفصل عن منحى أدب الكتابة في فترة السبعينيات، لكن التميز يبدو واضحا في الكتابة السردية خاصة من خلال مجموعتها القصصية “الكوكب البنفسجي” حيث الإرهاصات الأولى للكتابة في مجال الخيال العلمي، ولو لم يفاجئها الموت لاستكملت اشتغالها بهكذا تجربة، ولتبوأت دون شك مرتبة الريادة في جنس أدبي نادر لم ينل حظه من الاهتمام عندنا. حظيت سيلفيا بلاث الشاعرة الأمريكية المنتحرة بفيلم سخرت له بي بي سي الانجليزية إمكانيات مادية وبشرية معتبرة – من بطولة غونييت بالثرو وإخراج كريستين جيفس، فيلم نجح في اقتفاء أثار حياة شاعرة عاشت بمرارة ثنائية الشقاء والسعادة، الأم والشاعرة، كما نالت الكاتبة الانجليزية المنتحرة فرجينا وولف – بطولة نيكول كيدمان وإخراج ستيفان دالدري- نفس الاهتمام أو يكاد، الشاعر الروسي المنتحر مايكوفسكي أيضا حظي بفيلم وثائقي، فهل نطمع أن تحظى صافية كتو هي أيضا بفيلم سينمائي يتطرق لحياتها كشاعرة وكإنسانة، جميع مقومات نجاح الفيلم متوفرة، صافية كتو الفتاة، المرأة، الشاعرة، الصحفية، حياة مليئة بالنجاح والانكسارات، صراع صافية مع المجتمع في نظرته القاصرة للمرأة، فرارها من القرية، لجوئها للمدينة، تفجر طاقاتها الإبداعية، نجاحها الإعلامي، اكتشاف ذاتها، هاجس الاقتران، خيبة الأمل، الانكسار… نتمنى.
عبد القادر ضيف الله/ كاتب ورئيس جمعية صافية كتو للإبداع الثقافي لمدينة العين الصفراء.
(صوت الأنوثة، صوت الحرية)
تمرّ سبعة وعشرون سنة على غياب صافية كتو أو زهرة رابحي، كاتبة “الكوكب البنفسجي” التي رحلت ذات مساء بارد من عمر هذا الوطن وهي تتحسّس زلزاله في 29 جانفي من سنة 1989، رحلت وفي صدرها صوت الأنثى التي خرجت من ظلام تاريخ سيطرت عليه أعراف الذكورة التي نبتت جدارا أمام انعتاق المرأة في مدينتها الصغيرة العين الصفراء. من هناك رفعت صافية كتو تحديها ضد الوقت الإنساني الذي حجبه الرجل لنفسه، مبعدا طرفه الآخر عن نهار الحرية، باسم أعراف بالية تدين المرأة وحدها دائما وتخرجها من التاريخ وتتعالى عليها على حساب ذكورة تمارس ساديتها على الحياة، لهذا رحلت صافية بإنعتاق العنقاء من رماد الغياب صوب العاصمة حيث مارست مهنة الصحافة في وكالة الأنباء الجزائرية، وتنقلت إلى دول عديدة كنحلة تعبر زهور البنفسج فكانت ترسم في كل نص وجع الأنثى وصوتها الذي تجترحه من معاناتها كامرأة اختارت طريق المغامرة في الكتابة متعدية بذلك على أحد أهم حصون الرجل وهي الكتابة، مسجلة رؤى الغبن الأنثوي الممزوج بغبن الشعوب عبر حنين طفولي ترصده قصائدها الشعرية في ديوانها “صديقتي القيتارة” وكذا متتاليتها القصصية “الكوكب البنفسجي” اللذين صدرا تباعا عن دار أنطوان نعمان عام 1979 بكندا.
ولأن صافية كتو قد منحتنا عبر صوتها الشعري والقصصي نصوصا تُعبـّر عن ما يسكن الذات الإنسانية تجاه العالم وتجاه اللحظة القاهرة التي تجرح رغبة الحرية في ذاك الوقت الذي كانت لا تزال فيه المرأة تعاني من تهميش التواجد والحضور حتى في عالم اللغة الذي سيطر عليه الرجل وجعله أداته الخاصة مبعدا البوح الأنثوي ليبقى رديف الحكي في ليالي البرد. مند شهرزاد إلى اليوم، المرأة تحاول إثبات قدرتها على تغير مصيرها ومصير العالم سواء عبر الحكي أو عبر الكتابة التي سجلت فيها حضورها رغم صعوبات الحياة التي تتوّج الذكورة وتتعالى على الأنثى في مجتمعاتنا العربية، ولأن صافية كتو آمنت بالكلمة وبالكتابة وبالحرية منذ أن قررت التمرد على ذهنية المدن الضيقة لتتجه إلى فضاء المدينة حيث اشتغلت في حقل الصحافة وكتبت أغلب نصوصها هناك منتصرة لقضايا الإنسانية وقضية المرأة بالخصوص، والتي نستشعرها اليوم ونحن نعيد قراءة نصوصها بأن صافية كتو ومثيلاتها الكاتبات هن مفتاح التحول في خارطة التاريخ الذي يعبر بساق واحدة في عالمنا العربي. ولأن العالم يشهد كل يوم فتوحات جديدة ونحن لازلنا لم نقطع في قضايا مهمة في واقعنا المعاصر، ولأن الكتابة أيضا هي صوت الشعوب المقهورة وصوت الرؤى التي تستشرف القادم فإن صافية كتو هي نموذج للصوت الأنوثي الذي يساوي صوت الحرية، لهذا كانت صافية كتو صوتا رسم لنا طريقا في الإبداع وطريقا في معرفة جوهر الإنسان الذي يعطي المعنى لإنسانية البشر التي حينما تتكلم لا تحضرها تلك القسمة الإستشراقية “غرب/ شرق، امرأة / رجل”، لأن الإنسانية في سعيها الوجودي هي التي تستفيد في نهاية المطاف. وصافية كتو الشاعرة والصحفية هي علامة فارقة في عالم الكتابة التي هي هبة الله للإنسان في هذه الأرض وهي علامتنا نحن المبدعين القادمين من مدينتها الصغيرة العين الصفراء . نقف اليوم إذا، لنستذكر هذا الصوت الأنثوي، لنقول للعالم أن مدينتنا الصغيرة أنجبت يوما ولازالت تنجب طاقات إبداعية لها مكانتها في خارطة هذا الوطن.
——————–
إضاءة حول الشاعرة/القيثارة
صافية كتو، اسمها الحقيقي زهرة رابحي. ولدت بتاريخ 15 نوفمبر 1944 بمدينة العين الصفراء ولاية النعامة في الجنوب الغربي الجزائري. شغلت منصب معلمة اللغة الفرنسية في المدرسة الابتدائية للبنات بالعين الصفراء لمدة سبع سنوات (من سنة 1962 إلى غاية 1969).انتقلت إلى الجزائر العاصمة عام 1970. إلتحقت بعالم الصحافة عام 1973 كصحفية معتمدة في وكالة الأنباء الجزائرية. نشرت عددا من مقالاتها وقصصها وأشعارها في يومية المجاهد وأوريزون وأسبوعية الجزائر الأحداث باللغة الفرنسية، إلى جانب مجلتي الثورة الإفريقية وأفريك آزي الصادرتين بفرنسا آنذاك. صدر لها عن دار النشر نعمان بكندا مجموعة شعرية بعنوان: “صديقتي القيثارة” سنة 1979 وتضم 67 قصيدة باللغة الفرنسية. كما صدر لها عن نفس الدار سنة 1983، مجموعة قصصية بعنوان “الكوكب البنفسجي” وتضم 14 قصة أغلبها في الخيال العلمي. أنتجت مسرحية إذاعية بعنوان: “أسماء” أنتجتها الإذاعة الثالثة مع مطلع الثمانينيات. تركت مخطوطا روائيا لم يكتمل، يحمل بعدا نفسيا وإجتماعيا. توفيت صافية كتو بالعاصمة في 29 جانفي 1989 بجسر تيليملي بالعاصمة ودفنت بمدينة العين الصفراء مسقط رأسها. وبمدينة العين الصفراء مسقط رأسها، وفي سنة 2008 وتخليدا لذكراها أسس مبدعون شباب جمعية ثقافية باسمها هي “جمعية صافية كتو للإبداع الثقافي لمدينة العين الصفراء”. كما أصبحت تنظم سنويا بولاية النعامة ملتقيات وطنية باسمها كذلك. وفي هذه الآونة يتم التحضير لملتقى سينظم خلال شهر مارس بمسقط رأسها، يتناول حياتها وكتاباتها.
————————-
جريدة النصر الجزائرية