فيلم «العشيرة» تأمل في تجاوز الديكتاتورية


عبدالله الساورة


يطرح المخرج الأرجنتيني في فيلمه «العشيرة» الحاصل على جائزة الأسد الفضي لأفضل مخرج في المسابقة الرسمية في الدورة 72 من مهرجان فينسيا السينمائي مفهوم الديكتاتورية، إذ عاشت الأرجنتين خلال سنة 1982 لحظات مختلفة وأساسية، من بينها الديكتاتورية المدنية- العسكرية المرتكزة بطريقة أو بأخرى على سلطة تضمن بقاءها في السلطة، وانتهت بطلقة نارية في الرأس: بالعودة إلى الدولة المدنية وأيضا إلى المؤسسات الديمقراطية وأيضا إلى التأمل والتفكير في هذه اللحظات العصية. هكذا يصور الفيلم عائلة بوتشيو التي تنتمي بشكل سري إلى ديكتاتورية تنمي الخوف والجزع في النفوس وتتظاهر بأنها أسرة عادية رفقة باقي أصدقائهم. 
ينسج المخرج بابلو ترابيرو في فيلم «العشيرة» مرآة روحية وتأملية لزمن المطالبات الاجتماعية وزمن التغيير لمجتمع يخرج من غرفة العناية المركزة. فحينما تنحاز الحياة الطبيعية عن المألوف وتنعرج عن كل ما هو طبيعي وتفرض الرداءة نفسها، نجد أنفسنا أمام قواعد لعبة جديدة، فالطبيعي هو ما نحن عليه وما يحدد هويتنا ونطمئن إليه، لكن أن يبدو الطبيعي عكس ذلك فهناك أمر مريب جدا. تضعنا عائلة بوتشيو أمام هذه المفارقة الصعبة منذ اللقطات الأولى للفيلم، أسرة عادية من الأب المنضبط والمسؤول إلى الأم الأستاذة للأطفال الصغار، التي تحسن التربية، إلى الأخ المشهور في فريق الركبي إلى الأخت الطالبة والأخ الصغير، بينما يلقي الأب التحايا الصباحية وهو يصعد إلى الشقة العلوية نرى «وكر» الاختطاف.. الدهشة تأخذنا أي عائلة هذه وتتناسل الأسئلة،. يبدو الطبيعي هو الاستثناء عوض التوسط والاعتدال، تحل الغرابة، الخطف، القمع، التخويف والأقنعة في منزل يقع في إحدى المناطق الراقية في العاصمة الأرجنتينية بوينس أيرس. يعالج الفيلم هذه المظاهر وما تستر خلفها: الحدود التي تحدد منطقة فاصلة لمجتمع بورجواي. يحكي «العشيرة» عن فترة تاريخية سوداء. ففي بداية الثمانينيات من القرن العشرين، تتخصص أسرة وأفرادها في زرع الرعب عبر الخطف والتعذيب والقتل في نهاية المطاف.. يصور الفيلم العمليات بدقة، اختطاف الشاب عبر عملية استدراج ، وتتحول العملية الى عمل ومصدر للرزق وكسب المال. تقطن العائلة الميسورة في شارع للطبقة الراقية، بعيدة كل البعد عن شبهات الجريمة والقتل.. ورغم كل الدلائل يصر الأب بنوع من الصرامة على أنه ليس مذنباً رغم انتحار الابن في المحكمة. يحول المخرج هذه الوقائع التاريخية إلى معالم رمزية قلقة وقاسية لنظرة مثالية انطلاقا من نظرة المتأمل في مجتمع زمنه، بل أبعد من ذلك. إنها عائلة في قلب الطغمة تعيش في طمأنينة وبدون ندم، إلى شكل من الحياة الأكثر غرابة إذا جاز التعبير، لنظام ينهار ويريد زرع الرعب في مجتمع بدأ يتنفس قليلا من الديمقراطية. على ذلك تستيقظ الأرجنتين على جحيم الكوابيس المزعجة بتعداد يفوق (9) آلاف من المفقودين والمخطوفين، وهناك حفرة سوداء من الانعراجات والانحرافات المقلقة، تبدأ في ظهور العديد من التفسيرات، وفي توالي عمليات القتل ورمي الجثث، ولائحة طويلة من المفقودين. كل هذا يعبر عنه المخرج بنوع من السلاسة في مشاهد تثبت أن العائلة هي جزء من عائلات مترابطة وتترابط مصالحها الاقتصادية والسياسية لدوام الزمرة في حكم البلاد. 
من هذا المنطلق، بابلو ترابيرو كما في أعماله السابقة «ليونيرا» الذي يحكي عن معاناة شابة داخل السجن، أو الفيلم الرائع «النسر كرانشو» الذي يحكي عن مافيا التأمينات. ينسج المخرج بأسلوب إثارة وتسارع وتيرة الكاميرا وتسليط الضوء على الكثير من القضايا مع الدعوة لشيء آخر: التأمل في الأحداث والقضايا المرافقة.
فجأة ومن خلال السرد يبدو الثبات البارد بالذنب الجماعي المقترف. المجتمع نفسه الذي يحمي، ينظر من الجانب الآخر، وبشكل مباشر ومتعاون للأخطاء الجسيمة والفظيعة لقرن من التحولات والتحالفات بين البورجوازية والطغمة العسكرية الحاكمة، تتجلى بوضوح داخل هذا المجتمع ومن خلال عائلة بوتشيو التي التقطت مغزى الدرس، القتل بالنيابة، وعملت عليه بنوع من التتابع.
أنتج الفيلم من طرف الأخوين ألمودفار، وحقق أعلى الإيرادات في شباك التذاكر الأرجنتيني وغدا حدثا يستحق الاهتمام والمتابعة. 
الفيلم في عبارة بسيطة درس أخلاقي في تجاوز الديكتاتورية من خلال إعادة التذكير بما وقع خلال هذه الفترة. اختار المخرج ترابيرو نظرة شفافة من صرامة الأب وعزم الأم وإقدام الإخوة.. فما يهم هو حمى السرد والشعور المرافق بالغثيان والخوف.
بالفعل قصة الفيلم تحتاج للتوقف لأنها تتصادف مع النظرة القاسية لبطل الفيلم «الأب» ونفسيته، الأب الذي يتحول إلى رمز للقسوة والعنف ضد الآخر، وما تبقى صفعة فعالة للتحذير من الأدلة على ما هو مشترك وشائع. 
في النهاية العائلة البطريكية للعشيرة سمحت بارتكاب فظائع أكبر: بتلاوين طبيعية ولكن أقبح ما فيها هو الصمت المغلف، رغم أنه من الصعب أن نعترف حينما نشاهد اليوم بأننا نحن أيضا يتملكنا الإحساس بالعشيرة والقبيلة بكل ما فيها..
الفيلم هو تأمل سوسيولوجي.. لمجتمع الثمانينيات في الأرجنتين حيث يضع المخرج يده في يد المتفرج لتبيان عائلة بوتشيو ومنزلها وأجوائها: أين يضعون الرهائن والمختطفين، وكيف ينفذون جرائمهم ببرودة الأعصاب، وكيف يتهامسون وكيف يتعاملون بشكل طبيعي جداً مع الآخرين. 
للإشارة فالمخرج ترابيرو من مواليد سان خوستو 4 أكتوبر/ تشرين الأول 1971، تعالج أفلامه المشاكل اليومية انطلاقا من سياقات اجتماعية واقتصادية، في مجتمع يحيا فيه أبطاله ويتصارعون من أجل البقاء، كما في فيلمه «عالم الجرافة/ عالم الرافعة»، «القاطن في بوينس أيرس» (2002)، «ولد ونشأ» (2009)، «ليونيرا» (2011) هذا الفيلم الجميل جدا عن حكاية شابة رفقة رضيعها في السجون ومتاهات العذاب؛ ثم الفيلم الرائع «النسر» (2011)، عن تداخل فساد السلطة والتأمينات وتواطؤ جهات عدة في دعم الفساد أو السكوت عنه، ثم فيلم «الفيل الأبيض» (2013)، عن تداخل الدين والسياسة والجنس. 
مخرج له من الإمكانيات ما استطاع أن يؤسس بها لسينما بديلة وواقعية ولكن بمتخيل إبداعي وبقدرة على إدارة الممثلين بنوع من المهارة، في أفلامه نجد الكثير من الوجوه السينمائية تتكرر حتى نكاد نألفها. 
يتبع المخرج مقولة الكاتب الكبير خورخي لويس بورخيس في تقفي آثار الفيلم أن «الديكتاتورية يمكن أن تكون جيدة، ولكنها ليست كذلك، لأن الديكتاتورية المستنيرة هي المدينة الفاضلة والعسكر هم السيئون»، الفيلم قريب مما يقع في العالم العربي وإن اختلفت الأجواء وتباعدت المسافات.
_________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *