*بيتر راي أليسون
لا تعد أكثر الأماكن برودة على الكرة الأرضية شيئا يذكر مقارنة بدرجات الحرارة الأكثر انخفاضا وتجمدا في ليلة واحدة على سطح القمر، ولذا؛ ليس من السهل بناء قاعدة فضائية على القمر يمكنها تحمل مثل هذه البرودة الشديدة.
لعشرات السنوات، داعب استيطان القمر خيال المخططين والعلماء على حد سواء. وقد ظهرت على شاشات السينما عدة مستعمرات: من مستعمرة ألفا مترامية الأطراف في فيلم “الفضاء: 1999″، إلى مستعمرة التنجيم الصغيرة في فيلم “القمر”.
المستعمرة القمرية هي الخطوة المنطقية التالية للجنس البشري. فالقمر هو أقرب جار طيب لنا، وعلى بعد 238 ألف ميل فقط، مما يجعل إعادة التزود بما نحتاجه سهلاً نوعاً ما. وأحد الأمور الجذابة أيضا هو إمكانية التزود بغاز الهيليوم3 الوفير على سطح القمر، والذي يعتبر وقوداً مثالياً لمفاعلات الاندماج.
وقد وضعت العديد من برامج الفضاء خططاً لإقامة مستعمرات قمرية مأهولة على الدوام. وقد أبدت الصين رغبة في إقامة قاعدة لها على سطح القمر. وكشف النقاب في أكتوبر/تشرين الأول 2015 عن أن وكالة الفضاء الأوروبية، ووكالة الفضاء الاتحادية الروسية تخططان لإرسال عدة بعثات إلى القمر لتقييم إمكانية إقامة مستوطنات دائمة فوق سطحه.
لكن ذلك كله لن يجري دون مواجهة تحديات حقيقية. فدوران القمر لمرة واحدة يستغرق حوالي 28 يوماً من أيام الأرض، مما يعني أن كل ليلة قمرية تستمر 354 ساعة، أي ما يعادل أكثر من 14 يوماً من أيام الأرض. هذه الدورة الليلية الطويلة تعني أن درجات الحرارة تنخفض بشكل كبير.
وتتنوع درجات الحرارة على امتداد خط الاستواء ما بين 116 درجة مئوية في النهار إلى 173 درجة في الليل. وستكون الليلة القمرية أقصر إذا كانت القاعدة معزولة في القطب الشمالي أو الجنوبي للقمر.
يقول ادموند تريلوب، المهندس التشغيلي لسفن الفضاء في شركة ” تيليسباتزيو فيغا دويتشلاند”: “هناك عدة أسباب وجيهة لبناء تلك القاعدة عند القطبين، لكن هناك عوامل أخرى ينبغي أخذها في الحسبان أكثر من مجرد عدد ساعات ضوء الشمس”.
وكما هو الحال على الأرض، يمكن أن يصبح القطبان شديدي البرودة. فعند قطبي القمر، تتحرك الشمس حول الأفق وليس في السماء، لذا هناك حاجة لبناء ألواح في وضعية مماثلة لوضعية الجدار، مما يجعل بناءها أكثر تعقيداً.
إن وجود قاعدة كبيرة مسطحة عند خط الاستواء يمكننا من تجميع الكثير من الحرارة، لكن للحصول على الحرارة عند القطبين علينا أن نشيد الألواح بطريقة قائمة وليس مسطحة، وهو ما يزيد الأمر تعقيدا.
يقول فولكر مايوالد، الباحث في المركز الألماني للفضاء “دي إل آر”: “الاختيار الذكي لموقع إنشاء القاعدة الفضائية يمكن أن يخفف من الفرق بين درجات الحرارة”.
الفرق الشاسع في درجات الحرارة بين الليل والنهار يعني أن القواعد القمرية يجب أن توفر وقاية كافية من البرد المتجمد والحرارة العالية، لكن ينبغي أن تكون قادرة أيضاً على مقاومة الضغوط الحرارية والتمدد الحراري.
الحماية الحرارية
وقد صممت الرحلات الأولى إلى القمر – مثل رحلات الاتحاد السوفيتي المعروفة باسم لونا- للبقاء على سطحه لمدة يوم قمري واحد (والذي يصل إلى أسبوعين من أسابيع الأرض).
وكان يمكن استخدام السفن التي هبطت على القمر في رحلات ناسا المعروفة باسم “سرفيور”، وإعادة تفعيلها وتشغيلها في اليوم القمري التالي. لكن الأضرار التي لحقت بها خلال الليل حالت دون الحصول على معلومات علمية قيمة.
وكانت حوامات القمر التي استخدمت في برنامج الفضاء السوفيتي المعروف باسم برنامج “Lunokhod” أواخر الستينات والسبعينات تشتمل على مولدات حرارية تعمل بالأشعة، مع وجود نظام تهوية معقد، وقد مكنها ذلك من العمل لمدة 11 شهراً.
وتكون هذه الحوامات ساكنة خلال الليل، وتعود للعمل بمجرد أن تتعرض للطاقة الشمسية.
أحد الخيارات المطروحة لتجنب الفروق الشاسعة بين درجات الحرارة في اليوم القمري والليلة القمرية هو دفن هيكل القاعدة الفضائية تحت تراب القمر. فهذه المادة من المسحوق الترابي التي تغطي سطح القمر مقاومة للإشعاع الشمسي، وتتميز بخمولها الحراري.
هذا يعني أنها تمتلك ميزات عزل حراري عالية، وكلما كانت المستعمرة مدفونة في مكان أعمق، كانت حمايتها الحرارية أفضل. كما أن ارتفاع درجة حرارة القاعدة، والانتقال الضعيف جدا للحرارة على سطح القمر، بسبب عدم وجود غلاف جوي، يؤديان إلى زيادة خفض الضغط الحراري.
وبينما يعتبر دفن القاعدة تحت سطح القمر فكرة مقبولة، إلا أن القيام بذلك عملياً ينطوي على تحديات حقيقية. يقول فولكر: “لم أر بعد تصميماً لقاعدة يمكنه القيام بذلك. أفترض أنها ستكون أجهزة روبوت يمكن تشغيلها عن بعد”.
غطاء أم صدام؟
طريقة أخرى للقيام بذلك هي من خلال عملية الهبوط على سطح القمر. فقد قُدم اقتراح بأن تقوم الأجهزة التي تخترق السطح بهذه المهمة (على نطاق أضيق) لعدة رحلات إلى القمر، مثل مهمة Lunar-A اليابانية، واقتراح مون لايت المقدم لوكالة الفضاء البريطانية، (والذي تم تأجيله، رغم أن فكرة الهبوط الاختراقي كانت مقنعة لدرجة أن وكالة الفضاء الأوروبية أولت لها اهتماماً إضافياً كآلية فائقة السرعة في إعطاء نتائج لتحليل عينات من سطح القمر أو الكواكب).
ميزة هذه الفكرة هي أن القاعدة تدفن بقوة مما يعني أنها ستكون فقط معرضة لظروف حرارية معتدلة قبل أن يتم حمايتها. مع ذلك تبقى هناك مشكلة التزود بالطاقة، حيث أن تصميم الخوازيق يمكن فقط من توفير خيارات محدودة لاستعمال الطاقة الشمسية.
هناك أيضاً مشاكل أحمال السرعة الفائقة عند الهبوط وضرورة وجود دقة عالية للسيطرة والتوجيه. يقول ترولوب: “قوة الارتطام الضرورية لدفن الهيكل سيكون من الصعب مواءمتها مع مواصفات القاعدة المأهولة برواد فضاء”.
هناك بديل لهذا الحل، وهو غمر المستوطنة بتراب القمر، وذلك باستعمال أجهزة من قبيل الحفارات الهيدروليكية. ولضمان فعالية هذه العملية لابد أن تتم بسرعة.
إن لم يكن بالإمكان وضع التراب القمري على المستعمرة، فبالإمكان استعمال عازل متعدد الطبقات (أو ما يعرف بـ (MLI فوق المستعمرة لمنع الحرارة من التسرب.
وتستخدم مواد العازل متعدد الطبقات هذه على نطاق واسع في مركبات الفضاء لحمايتها من برودة الفضاء. الميزة في هذه الطريقة هي أنها تسمح بسهولة تجميع أشعة الشمس وتخزين الطاقة الناتجة عنها خلال فترة اليوم القمري الذي يستمر أسبوعين. وفي حالة عدم تجميع طاقة كافية، فلا بد إذن من التفكير في طرق أخرى لتوليد الطاقة.
ويمكن استخدام مولدات الكهرباء الحرارية لتوفير الطاقة خلال دورة الليل، فبينما تكون طاقة هذه المولدات منخفضة فإنها تحتاج إلى صيانة أقل بسبب عدم تحرك أجزائها.
هناك بديل آخر، وهو مولدات “راديوستوب” الحرارية، وهي ذات فعالية أكبر، وتستخدم مصادر طاقة صغيرة الحجم. وتحتاج القاعدة على سطح القمر إلى حماية من الإشعاعات، مع السماح للحرارة بالانتقال إليها.
وليس من السهل توفير وسائل لنقل المولدات، أو وسائل الحماية من الإشعاعات. كما أن إجراءات الأمان والسلامة يجب أن تراعى خلال عملية الإطلاق من الأرض، فضلاً عن المسائل السياسية والأمنية المتعلقة بعملية التزويد.
هناك أيضا المفاعلات النووية التي يمكن استخدامها كبديل، رغم أن المسائل التي ذكرت أعلاه تشكل عقبة في طريق ذلك. وعندما يتم تصنيع مفاعلات الاندماج ، فسيكون من الممكن استعمالها، نظراً لوفرة غاز الهيليوم 3 على سطح القمر.
وكبديل لذلك، يمكن أيضا استخدام بطاريات الليثيوم إذا تمكنا من توليد طاقة شمسية كافية لتلك الليلة القمرية التي تستمر لمدة 14 يوما من أيام الأرض.
وهناك فكرة لتزويد محطة سطحية بالطاقة خلال دورة الليلة القمرية، وهي من خلال الأقمار الصناعية التي تدور حول الأرض، وتبث الطاقة عن طريق موجات المايكرويف أو الليزر. وقد تحدثت دراسة سابقة عن هذه الفكرة قبل عشر سنوات.
وجاء فيها أن وجود قاعدة قمرية كبيرة يحتاج إلى كهرباء تصل قوتها إلى عدة مئات من الكيلو واط التي تتزود بها من المدار عن طريق 50 كيلو واط من الليزر، وإلى جهاز يعرف باسم “ريستينا” (وهو نوع من أجهزة الاستشعار، أو عمود إرسال يستخدم لتحويل الطاقة الكهرومغناطيسية إلى تيار كهربي مباشر)، وينبغي أن يكون قطر تلك القاعدة 400 متر، كما يتطلب الأمر 5000 متر مربع من الألواح الشمسية.
ولتقريب هذه الصورة، يذكر أن المحطة الفضائية الدولية لها حوالي 3300 متر مربع فقط من الألواح الشمسية.
وعلى الرغم من الصعوبات الحقيقية في بناء مستعمرة يمكنها الصمود وتحمل دورة الليل القمرية شديدة البرودة، إلا أنها تحديات وصعوبات يمكن التغلب عليها.
فعن طريق حماية حرارية مناسبة، ونظام مناسب لتوليد الطاقة خلال الليلة القمرية الطويلة التي تستغرق أسبوعين، بإمكاننا أن نحصل على مستعمرة قمرية مأهولة خلال العقدين القادمين. ومن ثم يمكن أن نبدأ في تطوير رؤيتنا لهذا الأمر نحو آفاق أرحب.
___
*BBC