إدوار الخراط: عن اليقين والسؤال



حسين حمودة*


خاص ( ثقافات )

لم يكن رحيل الأستاذ إدوار الخراط، بالنسبة لي، يشبه معنى الرحيل في شيء. كان قبل ذلك، ولا يزال، حاضراً معي، وإن كان حضوره الآن مشوباً بافتقاد.


لم أستطع، لسنوات، أن أعود الأستاذ إدوار الخراط في مرضه.. ولم أستطع قبل فترة، أن أشارك في الاحتفاء به في “أتيلييه القاهرة”.. ولم أستطع، قريباً، أن أكون معه في تشييع جسده إلى المستقر الأخير. وكانت هذه التجارب الثلاث، بالنسبة لي، دروساً ثلاثة أخرجتني من وهمين: وهم أنني قادر على أن أواجه الألم العظيم لمن أحبهم، ووهم أنني قد تدرّبت تدريباً كافياً على مدافعة الفقدان.
لا أزعم أنني قد قرأت أعمال إدوار الخراط كما لم يقرأها أحد، ولا أنني قد عرفته واقتربت منه كما لم يعرفه أو يقترب منه أحد. قرأته كما قرأه كثيرون وكثيرات ممن ذهبت بهم وبهن كتاباته (الغنّية والمتنوعة والمغامِرة) إلى أقصى ما يمكن الذهاب إليه. وعرفته واقتربت منه مع كثيرين وكثيرات ممن أحاط بهم وبهن دفئه الإنساني وصوته النافذ، ونظرته الذكية الحادبة، وأسئلته التي كثيراً ما كانت تشبه الإجابات، أو تصوغ – بأدب جم – دليلاً نحو إجابات.. وأيضاً ممن فتنوا ببساطته وزهده، وتقريباً بتبتله، حينما كانوا من زائريه، الجالسين إليه في صومعة شقته، غرفته، التي يحيط – وربما يحاصر – الجالس فيها معه عبق الإبداع والثقافة المبتعث من تاريخ البشر الممتد، ومن جغرافياتهم المترامية، أي تقريباً من كل زمن ومن كل مكان. جلست إليه كثيراً، في سنوات بعيدة، فيما بين أعمدة الكتب العالية (وقد اكتشفت عنده أن الكتب يمكن أن ترصَّ أعمدة، وليس صفوفاً فحسب)، وعلى خلفية الموسيقى الخفيفة التي تتجاوب أصداؤها مع لحظات التدفق في الحديث والنقاش، وأحياناً مع لحظات الصمت في تأمل الحديث والنقاش.
في كتاباته التي نعرفها، ببداياتها وبانقطاعها لفترة، ثم بتدفقها الغزير منذ (ساعات الكبرياء) حتى آخر ما كتب، قبل الصمت الأخير.. في هذه الكتابات على امتدادها، وعلى خوضها مجالات جديدة في اتجاهات ومساحات معروفة وغير معروفة، مطروقة وغير مطروقة من قبل، مستقرة ومستكشفة.. في هذه الكتابات، ظل إدوار الخراط هو إدوار الخراط: رفع قيمة الذات المغدورة، المهملة، إلى قيمة الجماعة الكبرى.. تسامى بأحلام الفرد المهدرة في مسيرة الجماعة التي قد لا ترى أحيانا ما حولها أو ما بينها أو ما بداخلها..
وفى هذه الكتابات، كما نعرف جميعاً، ارتقى إدوار الخراط بمرتبة التساؤل واحتفى به احتفاءه باليقين نفسه: وضع الروح، والهواجس الإنسانية، والحب، والحلم، والشبق، والتوق للتواصل مع الكون الممتد، والنجاح والخيبات، والإيمان الذي يتجاوز الشعائر.. وضع هذا كله حيث يجب أن يوضع هذا كله، بعيداً عن اعتيادات أو اقتراحات أو افتراضات سابقة، ساذجة، جاهزة سلفاً، على مستوى الكتابة، وأيضاً على مستوى التنظيرات النقدية التي حومت – بتكاسل – حول الإجابة عن سؤال: كيف يمكن للكتابة أن تغير هذا العالم؟
استكشف إدوار الخراط، واقترح أبعاداً ووجهات أخرى لهذا كله، في أسئلته التي تشبه الإجابات، وفى إجاباته التي تشبه الأسئلة.. وفى هذا كله، أيضاً تدفقت كتاباته الإبداعية والنقدية، التي تفيض خارج جدران سجون التصنيف، وتتمرد على كل إطار، وتحتفى بما يجب الاحتفاء به، وتنظر وتتلفّت حولها ووراءها وأمامها باستمرار، دون تسليم بما يبدو بديهيات جاهزة ودون تقديس إلا للحقيقة المراوغة.
من هنا، كانت كتابات إدوار الخراط الإبداعية، وكانت اجتهاداته النقدية.. وبالدرجة نفسها من الوعى الرهيف.. كانت كلها سعياً إلى فتح مسارات أخرى غير المسارات المطروقة، وطموحاً إلى التقاط ما لم يُلتفت إليه، ما نُظِر ويُنظَر إليه بإهمال أو باستسهال.
من (حيطان عالية) إلى آخر ما أبدع، ومن دراسته اللافتة المبكرة حول “رحلة يحيى الطاهر إلى ما وراء الواقعية” إلى آخر ما قدم من مقاربات نقدية للإبداع.. استكشف إدوار الخراط، وكشف كيف يمكن أن يكون الواقع القريب بعيداً، وكيف يمكن للسطح الواحد، الماثل الظاهر، أن ينطوي على أغوار وأعماق لا نهاية لها، وكيف كان السعي المحموم، المهيمن، من أجل الوصول إلى نظرية مغلقة، أو إلى تصوّر نهائي، عن الإبداع وعن النقد.. سعياً بلا طائل.
وبهذا المعنى، كان إدوار الخراط، في إبداعه وفى نقده اللذين ناهضا الراسخ والمستتبّ، مقاتلاً من نوع فريد، مناوئاً هادئاً، مدافعاً مبتسماً، لأوهام تمكّنت في الأرض.. ولكنه، في الوقت نفسه، كان وظل مقاوماً واثقاً، لا ييأس، ليس للأفكار المعادية من “الضفة الأخرى” المتخلفة فحسب، وإنما أيضاً للتوهمات التي شاعت في الضفة الأولى، القريبة، ها هنا.
الأرض التي بسط عليها إدوار الخراط خطواته هي “كل أو معظم الأرض” (وأسمع صوته الواثق، المتواضع، الآن، يقول لي: يا عم حسين خليها “بعض” الأرض)، والمنابع التي نهل منها هي كل المنابع. إدوار الخراط، العارف الكبير بالثقافة الغربية في مظانّها المتنوعة، القديمة والحديثة، هو نفسه إدوار الخراط المشبع بتراث العربية، المستهام به، والمحلّق بذائقته وعبقه إلى مشارف وآفاق لا نهاية لها.
قدّم إدوار الخراط ما قدّمه، وكان هو نفسه في كل ما قدّم. تمثَّل هذا المعنى في تجربته المترامية كلها: في الرواية والقصة، والشعر، والمسرح، والنقد، والترجمة، وفيما بين التخوم الجاهزة داخل هذا كله، بما جعل بعض نصوصه وبعض تصوراته تنطلق من تسميات غير التسميات: (الكولاج القصصي – النزوات الروائية – المتوالية القصصية. إلخ).
وفي هذا كله، أيضاً، صاغ معالم أخرى، وطرح تصورات جديدة، حقيقية وعميقة، حول اللغة، والهوية الوطنية، وحول علاقة أبناء الوطن الواحد أياً كانت ديانتهم، وحول العدالة الغائبة، وحول معنى “التعدد” وقيمته الكبرى في التكوين المصري، والعربي، والإنساني، وحول التداخل بين العلم والغيب والطقس والشعيرة، وحول الممارسة الواحدة التي يمكن أن تحتوى بداخلها الصوفي، والأسطوري، والفلسفي، والواقعي، وحول الزمن بمراوغاته التي قد تقفز على فترات طويلة، وقد تتوقف – بتعبيره الأثير – عند “لحظة تعدل دهراً بأكمله”… في هذا كله، وغيره، قدم إدوار الخراط عطاءه الكبير.
بعد كل هذا العطاء… هل من سفر جسدي يمكن أن يغيِّب صاحبه؟
إجابتي، ولعلها إجابتنا جميعاً، هي يقين وسؤال: 
اليقين: “لا”.
والسؤال: “وكيف يمكن، حقاً، أن يغيب صاحب هذا العطاء كله؟”
آمل أنه في هذه الإجابة، في هذا اليقين وهذا السؤال، ما سوف يعيننا، أو يعينني على الأقل، على تعلم أو على استيعاب أبعاد أخرى في “درس الفقدان” الذي لم أتعلمه بعد، وربما لن أتعلمه أبداً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• كلمة ألقيت في تأبين إدوار الخراط بالمجلس الأعلى للثقافة.
* أستاذ النقد العربي بكلية الآداب جامعة القاهرة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *