تشيخوف في ‘بستان الكرز’ بين الكوميديا والتراجيديا


*أبو بكر العيادي

“بستان الكرز” هي آخر مسرحيات تشيخوف والتي عرضت مؤخرا على خشبة “الهضبة” بباريس من قبل الفرقة البلجيكية “تي جي ستان”، وجد تشيخوف صعوبة في إنجازها، إما للبرد الجاثم آنذاك على ضيعته قرب يالطا، وإما لجمال الطقس الربيعي “الذي يغري بتأمل بدائع الطبيعة ولا يشجع على الكتابة”، كما يقول، وإما لكسل انتابه واعترف به لزوجته في إحدى رسائله، وهو كسل ناجم أساسا عن مرض السلّ الذي أصابه.
ولمّا كتبها أخيرا في نهاية الصيف ومطلع الخريف، جاءت في شكل فسيفساء، وليست سبيكة واحدة على غرار مسرحياته الأخرى. ثم اختلف مع مخرجها قسطنطين ستانيسلافسكي (1863 /1938) الذي عالجها كتراجيديا فيما أصرّ تشيخوف على كونها كوميديا.

ومنذ مئة وإحدى عشرة سنة والسؤال لا ينفك يطرح كل مرة، يطرحه النقاد “لماذا كان تشيخوف على يقين من أنها كوميديا، وحتى مسرحية هزلية؟” ويطرحه المخرجون “كيف نقاربها في هذه الحالة أو تلك؟”.

تحوم المسرحية حسبما يتبدّى من عنوانها حول بستان كرز ضخم، قدّر أعضاء الفرقة، استنادا إلى كلام لوباخين في بداية المسرحية، أن مساحته تعادل ألفا وخمسمئة ملعب لكرة القدم، فهو مفخرة الجهة، ولكن تفاقم الديون يجعل بيعه أمرا محتوما، لا مفرّ لصاحبته ليوبوف أن تتنازل عنه. تلك المرأة التي عادت إلى وكرها بعد أن عاشت خمس سنوات في باريس، مخرومة الجيب، مصدومة من علاقة غرامية مدمرة ومفلسة، وهي تدرك أكثر من سواها أنها أعجز من أن تسدّد ديونها في الآجال المحددة.

المرأة ومن معها يتصرفون وكأن معجزة ستأتي، وكأن بستان الكرز ممتنع على غير أهله، أي أنهم جميعا يغفلون عمدا عن القضية الجوهرية ويخوضون في مواضيع أخرى، وكأن المسألة لا تعنيهم، وهي الطريقة التي يتوخاها تشيخوف في الغالب ليصور تعلق الناس بمواضيع مجردة للهروب من مواجهة الواقع.

يبلغ هذا الهروب ذروته في الفصل الثالث، فبينما كان الجميع ينتظرون غاييف، أخا ليوبوف، ولوباخين العائد من عملية البيع، يشهد البيت آخر حفل راقص، ذلك البيت الذي تملكه العائلة على امتداد أجيال متعاقبة، وكان يستقبل البارونات والجنرالات وبات يفتح بابه لمدراء محطات الأرتال، حسب العبارة التي همس بها فيرس، الخادم العجوز الذي رفض العتق.

وإذا كان الحفل الراقص في الفصل الثالث قد وضع جانبا في الكواليس مع أغلب المخرجين الآخرين، أو مرّ كمشهد عارض لا يدوم، فإنه في المسرحية البلجيكية يحتل عمق البلاتو خلف جدار ذي فرجات زجاجية قديمة تعلوها ستائر بالية.
رقص حديث موقّع كما أراده تشيخوف امتدّ في الفضاء المكاني والزمني كحفل شعائري لتوديع البيت نهائيا وبلا رجعة. واللافت أنهم يرقصون كل على حدة. ويبقى السؤال: هل هي تراجيديا أم كوميديا؟

المعروف أن التراجيديا تستحضر أساطير وتقدم مآسيَ كبرى تصيب أناسا مهمّين يعيشون صراعا بين حرية الفرد والقدر الإلهي المحتوم، بين قوى يتنازعها الخير والشر. بهذا المعنى، يبدو بستان الكرز مكانا مقدسا، تقوم الأشجار فيه مقام الأشباح والأرواح الضالة.

واقتراح لوباخين لأسياد البستان يبدو مثل تدنيس مقدسات، وضياع البستان يعلن عنه منذ الفصل الأول، لتعمل الفصول التالية على جعله حقيقة ملموسة، أي أن كل شيء يجري وكأن ضياع الملكية ناتج عن قدر محتوم لا يقاومونه ولا يتمردون عليه، أضف إلى ذلك أن ليوبوف تظهر في مظهر الشخصية التراجيدية، حيث لا تنفك تتحدث عن العقاب الذي تجازى به نتيجة خطاياها، وعن قدرها.

والنزاع بينها وبين لوباخين هو أيضا صراع قيم تتساوى من حيث شرعيتها ومبرراتها، حتى أنه يمكن أن نطبق عليها المقولة التي وسمت صراع أنتيغون ضد كريون: أخطأت إذ كانت على حق، وأصبت إذ كانت على خطأ.

كما توجد في المسرحية مشاهد كوميدية كسلوك بيشتشيلك الذي يبتلع أقراص ليوبوف وينام في عز الكلام، أو فانيا التي أرادت ضرب إيبيخودوف بخيزرانة فأصابت من يحاذيه، كما أن بعض الخدم، كدونياتشا، لهم سوء طبع يذكّر بشخصيات الكوميديا الكلاسيكية.

الثابت أن “بستان الكرز” تصور في الآن ذاته انحدار أرستقراطية خاملة وانتصار رأسمالية ضارية، توسّع نهمها الريعي لتلتهم حتى أشجار الكرز. ورغم ديكورها الملائم للنقد الاجتماعي وحتى الكآبة، اختارت “تي جي ستان” أن تنزّلها في مشاغل الراهن.

وبعد مسرحيات “العمّ فانيا”، و“إيفانوف”، و“الأخوات الثلاث”، و“بلاتونوف”، و“طلب الزواج”، هذه سادس مرة تستدعي فيها الفرقة أنطون تشيخوف، أحد المؤلفين القلائل، كما يقول أعضاؤها، الذي يستطيع بفضل نفاذ بصيرته أن يساعدنا على المحافظة على توازننا الذهني، فرادى وجماعات، أو على استرداده.
________
*العرب

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *