المتصوفة بين التضييق وأشكال الموت… رؤية ثقافية


*ياسين الحراق


يعتقد المصريون القدامى أن الروح لا يمكنها الخلود بغير جسد، لذلك قاموا بتحنيط موتاهم. أما المتصوفة وإن رأوا في الجسد الأنثوي تكثيفا لصور البهاء الإلهي، فهو مجرد وعاء محتضن للروح البشرية، ومادة فانية عائدة إلى عناصرها الأولية – تراب- حيث يفقد جانب الظاهر أهميته ليغلب جانب الباطن لذلك يقول أبو القاسم الجنيد « إذا رأيت الصوفي يعنى بظاهره فاعلم أن باطنه خراب».
ينزاح الصوفي عبر مجاهدات باطنية ليتصل بالعالم العلوي، جاعلا إرادته تسقط في الإرادة الإلهية حتى لا يعود يشعر إلا ببقائه مع حقيقة مطلقة هي الله. فحكمة الطبيعة حسب الأديب الألماني يوهان فولفغانغ غوته، « لا تتناسب مع موقوتية حياة الإنسان، فلا بد من وجود صورة ما من استمرارية الحياة بعد الموت».
من هنا يتخذ الموت هيئة براق يقود الروح إلى حضرة بارئها، بينما تتخذ الحياة هيئة حجاب مانع لإدراكها، ما دامت تمثل وجودا محدودا يحول بين المحب ومحبوبه. وتبدو رؤية أبو حامد الغزالي في «إحياء علوم الدين» في كتاب «ذم الدنيا» المجانبة للحياة الدنيا أكثر ملامسة لهذا التصور «الدنيا عدوة لله وعدوة لأعداء الله أما عداوتها لله. فإنها قطعت الطريق على عباد الله، ولذلك لم ينظر الله إليها منذ أن خلقها. وأما عداوتها لأولياء الله عز وجل: فإنها تزينت لهم وعمتهم بزينتها ونضارتها حتى تجرعوا مرارة الصبر في مقاطعتها، وأما عداوتها لأعداء الله، فإنها استدرجتهم بمكرها وكيدها فاقتنصتهم بشبكتها حتى وثقوا بها». وبموجب ذلك فرؤية الصوفي للدنيا تنم عن اعتقاد يفضي بعدم أزلية العالم الذي يولد ويكبر ثم يموت، فيختار الصوفي غض الطرف عن الدنيا بالزهد والرجاء والقبض، والبسط والصفاء والوصل والسكر، والصحو والوجد والفناء والبقاء … كشكل يحقق الاكتمال. وهذه المجانبة ستضع المتصوف أمام محك سلط ثلاث – البلاط، الفقيه، العامة – مما يحيل إلى علاقة مشوبة بالحذر والتوجس. وتقدم نتف المصادر ضروب تضييق وموت مختلفة طبعت تاريخ التصوف، حيث يمكننا التمييز بين ثلاثة أشكال منها:
الصنف الأول تعرض للتضييق والمقاطعة ليفضل الانزواء بعيدا عن الحياة العامة ومختلف السلط، إلى أن قضى نحبه بشكل يكاد يكون أقرب إلى الاغتراب والمنفى، ويمثله كل من سفيان الثوري، أبو الفضل بن النحوي ، ابن عربي، أبو يزيد البسطامي، أبو القاسم الجنيد، عبد القادر الجيلي، أبو بكر الشبلي، سمنون المحب، أبو مدين شعيب بن الحسن، … وسنعرض كنموذج تجربة كل من ذو النون المصري، وسمنون المحب، ثم سفيان الثوري.
يطلعنا صاحب «وفيات الأعيان» عن محنة ذي النون المصري الذي أفضى اتهامه بالزندقة من قبل الفقهاء إلى اقتياده من مصر إلى بغداد مغلولا في الحديد. وهو اتهام كاد يفضي إلى هلاكه غير أن المتوكل الخليفة العباسي آثر أن يطلق سراحه منتهجا سياسة تلميع الزجاج، بعد إرث التضييق الذي طال عددا من الفقهاء المعارضين لفكرة خلق القرآن، حيث سبق أن تعرض ذو النون المصري لاضطهاد مماثل أثناء محنة خلق القرآن. خلافا لمحنة ذي النون المصري يروي كل من القشيري وابن كثير نتفا عن مأساة أبو الحسن سمنون بن حمزة، الملقب بـ»المحب» وذلك لتكريس حياته للزهد والتقشف والحب الإلهي، حيث اتهم من لدن العامة بالزنا بعد تعرضه لكمين امرأة شغوفة به، لكنه انزاح إلى محبة العالم العلوي الأزلي عن محبة العالم السفلي الفاني، وبين سمنون المحب ويوسف النبي شبه كبير، فقد أودعا كلاهما السجن بالتهمة نفسها وكانا حسني الصورة. واستمرت مأساة سمنون إلى أن قضى نحبه معزولا مغتربا، إذ لم يحضر أحد جنازته.
كما وردت في «حلية الأولياء وطبقات الأصفياء» و»سير أعلام النبلاء»، تفاصيل تعرض محنة سفيان الثوري، فرغم محاولات استمالته من قبل البلاط العباسي، بدءا بالخليفة أبو جعفر المنصور، وانتهاء بالخليفة أبو عبد الله المهدي، فضل الثوري النأي بعيدا لكون عالم الصوفي، عالم خاص يقوم على «معارضة الدولة والمحبة للناس»، وقد جعله موقفه هذا عرضة للتعقب والتضييق ليضطر إلى الفرار من بغداد إلى مكة، ثم من مكة إلى البصرة، بعد الجدال الذي دار بينه وبين الخليفة المهدي.
الصنف الثاني يرتبط بالمتصوفة، الذين لم تقتصر أشكال التضييق عليهم على التعقب والتتبع، بل تطور الاضطهاد إلى تصفية وتنكيل واغتيال. إن كلا من ابن برجان والسهروردي، والحسين بن منصور وابن العريف، وشمس التبريزي، وابن قسي … عرجوا إلى السماء عروجا مأساويا.
ففي المغرب نجد أبا العباس بن العريف، الذي يصفه صاحب أعلام النبلاء بأنه «متناهيا في الفضل والدين منقطعا إلى الخير…العباد والزهاد يقصدونه ويألفونه»، وهو وصف يحيل إلى مقام ابن العريف عند العامة، كما يحيل إلى توجس السلطة المرابطية ومعها الفقهاء منه. ومن هنا عد قتل هذا المتصوف امتحانا حقيقيا للسلطة المرابطية، التي ابتليت بأولياء الله، لاسيما أن أمر استمالة هؤلاء غاية لا تدرك. لذلك نأى الأمير المرابطي علي بن يوسف بنفسه عن الإيقاع بالرجل، تاركا أمره للقاضي الفقيه ابن الأسود – ألد خصوم أبي العباس- فانتهى مسموما. 
كما ظل ابن برجان عرضة تعقب دائم من لدن السلطة المرابطية التي كان عضدها الفقهاء، لينتهي به المطاف بالتنكيل والتصفية داخل غياهب سجن مراكش سنة 536هـ، حتى أن الأمير المرابطي علي بن يوسف أمر بأن لا يصلى عليه وأن ترمى جثته في المزبلة، حسبما جاء عن ابن الزبير في «صلة الصلة».
وقد عارض هذه الدعوة حسب إبراهيم القادري، بوتشيش، أحد كبار رجالات التصوف في المغرب الأقصى، ويتعلق الأمر «بأبي الحسن علي بن حرزهم» الذي أمر بالمناداة في الأسواق بحضور جنازة ابن برجان.
وفي المشرق نجد حسين بن منصور يفني حياته منحازا للفقراء، مناوئا للدولة. هذا الانتصار قاده إلى ميتة ما كان ليتمناها له حتى معارضوه حيث «قطعت يداه ورجلاه وخرت رأسه، وأحرقت جثته وألقي الرماد في نهر دجلة». وقد عدد الأستاذ محمد تركي في مؤلفه «التصوف الإسلامي أصوله وتطوراته» أربع تهم وجهها الفقهاء لابن منصور أدت إلى صلبه وهي: «المراسلة السرية مع القرامطة، اعتقاد طلابه في ألوهيته، قوله بالحلول، ثم قوله الحج بالهمة بديلا عن الحج الشرعي. وكانت هذه التهمة الأخيرة هي التي أدين بها. وهكذا سهل تقبل إعدامه من قبل الفقراء بعد أن كان لسان حالهم». 
بيد أن الصنف الثالث يرتبط بما تطالعنا به مختلف المصادر والمراجع، التي تكشف عن نهايات مأساوية لصنف آخر من المتصوفة. فخلافا لما تعرض له المتصوفة السابقون من تضييق وتعقب وتنكيل وقتل…اختار هذا الصنف أسلوب سفر عاجل نحو العالم الأكمل. ويمثله كل من عبد الحق بن سبعين، وشهاب الدين السهروردي. ظل عبد الحق بن سبعين المرسي لسنوات طويلة مقيما في سرج حصانه، فلا يكاد يستقر بموضع حتى يغادره متهما من قبل السلطات نفسها بالزندقة والخروج عن المألوف في الدين. ليستقر في نهاية ترحاله في مكة إلى أن مات فيها ميتة غامضة تضاربت حولها الروايات. فرغم أن ابن الخطيب وابن كثير يذكران أن ابن سبعين مات ميتة طبيعية، فإن كلا من الذهبي وابن شاكر يذكران أن الرجل مات منتحرا في مكة بأن «فصد يديه، وترك الدم يخرج حتى تصفى، ومات». هذه الميتة يسلم بها عبد الرحمن بدوي ويعتبرها «فعلة وجودية»، كما أن السبر في حياة ابن سبعين يحيلنا إلى إلمام الرجل بالديانات القديمة، فضلا عن إلمامه الموسع بثقافة الشرق وبالفلسفة. وقد أشار ابن تيمية في «مجموعة الرسائل والمسائل» إلى رغبة عبد الحق بن سبعين في الذهاب إلى الهند. ولعل هدفه كان هو الحصول على فسحة أوسع لفكره وحتى إن لم يتح له ذلك، فقد اضطلع بما يكفي على حضارة هذه الأخيرة.
يبدو أن هذه الفسحة قادته حسب المستشرق الفرنسي لويس ماسنيون إلى قتل نفسه رغبة في الاتحاد بالله، وهذا أسلوب جديد تجاوز به منهج أبو يزيد البسطامي.
ورغم كون المفكر العراقي هادي العلوي، لا يحسم في إشكالية انتحار ابن سبعين في مداراته، فإنه يورد على لسان صاحب «بُدّ العارف» بأنه « من وصل إلى الحق الصرف قلت وسائله وقربت مدته » متسائلا « هل كان خبر انتحاره لأنه بلغ هذه الغاية ولم يتبق له ما يفعله بالحياة». إن الغموض الذي يحايث وفاة ابن سبعين هو ذاته يحايث وفاة شهاب الدين السهروردي، بعد أن اختلفت المصادر في خبر موته بين مرجح للانتحار، ومرجح للسيف، ومرجح للتجويع… لكنها تجمع على حدث إعدامه بأمر من الناصر صلاح الدين الأيوبي مدفوعا بالفقهاء.
ويبدو أن فرضية الانتحار وهي فرضية معقدة الإثبات، محتملة الوقوع ارتباطا بما ورد لدى السهروردي في رسائله، حيث ينفي صفة الحكمة عن المتصوفة إن لم يستطيعوا الخروج من بدنهم وهم أحياء: «نحن لا نعد حكيما من لا يستطع أن يتجرد من بدنه حيا». هل كان الرجل يمارس الإسقاط النجمي -Astral Projection- فخرج من بدنه ثم آثر ألا يعود إليه؟ ربما. فابن خلكان يذكر أن الرجل أخرج ميتا من الحبس من دون أن يشير إلى تفاصيل هذه الميتة.
إن الرصيد الثقافي للمتصوفة المكتنز في مضغة القلب يصدم العقل المتداول ويتجاوزه مما يجعله في مواجهة مباشرة مع العقل. والقلب والعقل بينهما برزخ لا يبغيان لأن العقل تبعا لمولانا جلال الدين الرومي رائد في كل شيء إلا في الطريق الموصل إلى الحبيب. وهذا يجعل عالم الصوفي عالما خاصا قائما على المحبة كجوهر أساس.
_______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *