*ماجد كيالي
منذ بداياتها طرحت الثورات العربية إشكالية ثقافية تتعلق بعلاقة الفكر بالواقع، والثورة بالنظرية، إلى درجة أن هذه المسألة احتلت حيزا أكبر في النقاشات الدائرة حول هذا الموضوع، طوال السنوات الأربع الماضية، ولا سيما أن هذا النقاش ارتبط بالموقف من هذه الثورات، من حيث ضرورتها ومشروعيتها، رفضا أو قبولا، تنكرا أو اعترافا.
“لا حركة ثورية من دون نظرية ثورية”، ومن دون حزب ثوري، أو طليعة ثورية، بحسب المدرسة التنظيرية التقليدية، المستمدّة من أيديولوجيا الماركسية اللينينية، وهو موقف مسبق، يتسم بالجمود، والانغلاق، والتهرب من الواقع، والتعالي على الحراكات الشعبية والتنكر لعدالة مطالبها.
في الواقع فإن النخب الثقافية التي تعتقد بالنظرية الثورية والحزب الثوري تدين نفسها بنفسها، مرتين: أولاهما، من كونها هي المسؤولة عن قصورها، وتخلفها، وتضاؤل مكانتها في مجتمعاتها. وثانيتهما، بتنكرها للمطالبات الشعبية المشروعة المتعلقة بالحرية والكرامة والمساواة، وتحولها نحو تمجيد الاستبداد، بل والدعوة إلى تأبيده، ناهيك عن تبرئته، بدعوى تخلف الحركة الشعبية.
وعندي فإن الثورات العربية، ورغم كل ما اعتورها من مشكلات ونواقص وانحرافات، أدخلت عشرات الملايين إلى السياسة، في غضون بضعة سنوات، أكثر مما فعلت الأحزاب السياسية في غضون عقود، في ما يمكن اعتباره بحدّ ذاته بمثابة ثورة في الثقافة السياسية.
هكذا بات الناس العاديون يتحدّثون عن قيم ومصطلحات مثل الحرية والمساواة والعدالة والمواطنة والهوية والديمقراطية والدستور ودولة القانون والتداول السياسي، التي لم تعد حكرا على النخب الثقافية والسياسية المهيمنة، وهذه في حدّ ذاتها نقلة ثورية، بغض النظر عن مآلات الثورات ذاتها.
هكذا احتلت المفاهيم المتعلقة بالدولة والمواطنة، والحرية والديمقراطية، المكان الأول في سلم النقاشات التي أثارتها ثورات “الربيع العربي”، كونها تركّزت أساسا على التغيير السياسي، تبعا لشعارها الأثير والأشهر: “الشعب يريد تغيير النظام”.
ووالمعنى من ذلك أن الثورات، هذه المرة، لم تنشأ بادّعاء مواجهة التحديات الخارجية، وإنما انطلقت من الشعور بأولوية الحاجة إلى التغيير الداخلي، ما شكّل حالة انقلابية في الوعي الثقافي السائد في العالم العربي، بالنظر إلى أن معظم الحراكات السياسية التي وسمت مرحلة ما بعد الاستقلال، في البلدان العربية، تركزت على مواجهة العدو الخارجي، أي مواجهة التركة الاستعمارية والتدخلات الأمبريالية والوجود الصهيوني، في ظل شعارات تتعلق بالسعي إلى تحرير فلسطين وإقامة الوحدة العربية.
ولعل هذا الانقلاب في طريقة التفكير هو نتاج تنامي ثقافة سياسية جديدة، في العالم العربي، مفادها أن مكمن الداء في تخلف أحوال العالم العربي إنما يتأتّى من مشكلاته الداخلية، وأن المسؤولية في ذلك تقع على عاتق الأنظمة القائمة، التي تتحكم، أو تحدّد، أو تعيق، مسارات التطوّر السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي فيه.
في تعثرات الثورات العربية بدا أن العالم العربي يقف، أيضا، إزاء اختبارات تتعلق بقيام الدولة والمجتمع والمواطنة، بمعنى دولة المواطنين الأحرار والمتساوين، الذي يجعلون من الدولة دولة حقا، ومن المجتمع مجتمعا حقا. كما بدت أنه يقف إزاء معضلة المواءمة بين الديمقراطية والعلمانية، بمعنى التمييز بين الديني والدنيوي، والمواءمة بين الديمقراطية والليبرالية، بمعنى الحرية، بحكم التأزم الحاصل في العلاقة بين هذه القيم والآليات.
كما فتحت الثورات العربية على مسألة العلاقة بين الدين والهوية والدين والمواطنة، والدين والدولة، والشرعية والشريعة، والنص الديني والتاريخ.
القصة أن الثورات العربية أكدت على بداهة نسيها الساكنون في بطون الكتب والتي مفادها أن الثورات هي التي صنعت النظريات، وليس العكس، وأنها تثقف ذاتها، وأنها تعبير عن الضرورة والحرية.
_____
*العرب اللندنية