رأس السنة.. ليلة ميلاد الروايات



*نبيل سليمان

هي ذي الساعة تدق معلنةً انتصاف ليلة الثالث عشر من شهر كانون الثاني – يناير لعام 2016. نحن إذن في ليلة رأس السنة البربرية التي تحمل الرقم 2967م. وهذه الليلة، كما هو معلوم، هي عينها ليلة رأس السنة الميلادية لشطرٍ من الطوائف المسيحية، يأخذ بالتقويم الشرقي. ومن المفارقة أنها هي أيضاً ليلة رأس السنة التي يحتفل بها العلويّون في سوريا وتركيا فيما يعرف بعيد (القوزلّي). لكن الساعة تدق معلنة انتصاف ليلة الحادي والعشرين من شهر آذار – مارس لعام 2015م. نحن إذن في ليلة رأس السنة الفارسية، بل الكردية، بل الإيزيدية، أي نحن في عيد النوروز لعام 2715.

سواء أكانت الليلة واحدة من تلك الليالي، أم ليلة رأس السنة الميلادية، أم ليلة رأس السنة الهجرية، فالمرام في هذا المقال هو معاينة بعض الصور الروائية لليلة العتيدة، بما هي لحظة من الزمن مفصلية، وليس فقط بما هي حدث روائي، والزمن- الزمان هو التحدي الأكبر للرواية، شأنه بالنسبة للفن أو الفكر بعامة، وللإنسان بخاصة.
الاحتفال هو الرواية
«فوق الجبل تحت الثلج»، إنها رواية حنا مينة التي حملت عنواناً فرعياً – إضافياً هو (الدقائق الأولى من عام 1990). والرواية التي صدرت عام 1991 تبدأ بتقديم (بطلها) الشاعر الكهل مران الطوراني، وحبيبته البلغارية الحقوقية بربارة ألكسندروفيتش، وهما يرفلان في الثلج، حيث لا ينقص شجرات السرو البيضاء إلا الزينة الشهيرة لشجرة الميلاد: بالونات ملونة وأجراس صغيرة ومصابيح مشعة.
باقتراح من بربارة كانت سهرة العاشقين الاستثنائية، فغادرا فندق فيتوشا الذي ينزل فيه مران في قمة الجبل، ولاقتهما العاصفة، وإذا بهما في (ورطة) ستقوم عليها الرواية، عبر الحوار غالباً جداً، بين هاتين الشخصيتين الرئيسيتين، أو مع وبين الشخصيات الأخرى التي تستدعيها ذكريات أو سجالات مران وبربارة. ومع الحوار، سترد من حين إلى حين تأملات وهواجس وأفكار في هيئة مونولوجات تظهر بين مزدوجين. وعبر كل ذلك يصير مران نسخة أخرى من أبطال رواية حنا مينة منذ نأى بهم عن البحر وعن سيرة طفولته ونشأته، فإذا بمران الطوراني مثل زبيد في رواية (المغامرة الأخيرة) أو كرم في رواية (الربيع والخريف) أو… هو الخبير الذي لا يجارى في تناول المشروبات الكحولية، وفي صداقته للبارمانات واجتذابه للنساء، وفي كرمه وعناده، وباختصار: في استثنائيته.
في بار أوتيل فيتوشا التقى مران وبربارة بعدما غادرا الندوة التي تشارك فيها هذه المترجمة وهذا الصحفي اللبناني الذي قذفته الحرب إلى لندن، ويعد تحقيقاً صحفياً عن بلغاريا بعدما سقط الاتحاد السوفييتي وكواكبه الاشتراكية، ومنها بلغاريا. وفي احتفال العاشقين بليلة رأس السنة سيتوالى قصّهما لقصة عشقهما ولقصص حياتيهما، بالاشتباك مع قصص ملكة العالم السفلي الغجرية مورانا وملكة العالم العلوي السويسرية ماغدا التي تثير غيرة بربارة، وكذلك الإمبراطور وشمّول وملك العالم السفلي رئيف اللبناني وسواهم من شخصيات عالم التهريب والجنس وتصريف العملة في السوق السوداء، والروليت والقمار… وعلى أهمية كل ذلك في تعريته لمن قصدوا (العالم الاشتراكي) للدراسة أو التجارة، وفي تعريته للبيروقراطية ومواطن الفساد، فالأهم هو وقائع احتفال العاشقين بليلة رأس السنة، والتي بدأت باقتراح بربارة أن يقوما بنزهة، وتركت له اختيار الجهة، فاختار جبل فيتوشا، ومضيا بسيارتها حتى عجزت، فحملا الطعام والشراب وتابعا سيراً في الغابة التي لا حدَّ لشساعتها ولا لبياضها. لكن العاصفة الثلجية حاصرتهما حيث عواء الذئاب وانتظار الصيادين الذين يؤمل أن ينقذوهما. ولكن لا منقذ لهذين اللذين أويا إلى (العش) تحت الصنوبرة. ثم سيأتيان على الشراب ومران يهجس بفارق العمر بينهما: كهل أنا وهي فتية، أنا من الماضي وهي من الحاضر، أنا ذاهب وهي آتية.. لكن هذا الذي يثير الشفقة هو المغامر الذي ستصير بربارة مثله مغامرة. ومثل بطلات روايات حنا مينه السابقات واللاحقات ستهتف لـ مران: «كن وحشاً معي دائماً. هكذا أحبك أكثر». أما مران فيحدّث أنها لم تقاومه، بل تركته لجنونه، وقبلت أن «أفترسها».
يتوج احتفال رواية فوق الجبل تحت الثلج برأس السنة في مشهد بديع، يحسب مران فيه أنهما في رقصة مجنونة هي البكر في الرقص وفي (الجنون العاطفي)، على إيقاع موسيقى من الصخب والعنف «حيث تقبل الأشجار صفاً صفاً مجلببة بأكفانها البيضاء، كأن النشور قد بعثها من مراقدها». ومن الحفر التي خلفتها أقدام مران وبربارة في الثلج، تعالت ألسنة لهب الأشجار، كأنها في فتلها (المولوي) تدور على نفسها وعلى ألسنة اللهب: «وإذ تمر في الأجمات النارية، في دخول وخروج منتظمين، تبدو كأنها تصنع تشكيلات رقصية على إيقاعات زئيرية متواترة متعانقة ضاجة، تقترب صنوفها وتبتعد في نقلات موزونة خفيفة سريعة تذكّر بنقلات أرجل فتيات شركسيات على خشبة مفروشة بالثلج».
في سيرهما يحسب مران أن ذئباً يقتفي أثرهما، ليكون «الذئب من ورائنا والجبل من أمامنا» والطاقة نفدت. وفي منتهى الرواية يفقد أثر الذئب – الذئاب، فربما كانت قطيعاً عابراً. لكن مران بعد ذلك سيرى توشيحات على الثلج من آثار القطيع لاتزال بادية، ثم سيذكر أنه تجنب تخريب الآثار الذئبية، فقد تركها كي يراها الصيادون… وهكذا نرى ذاكرة مران – ذاكرة السرد تتخبط. لكن الأهم أننا سنرى للذئب حضوراً مركزياً في رواية واسيني الأعرج (2084 العربي الأخير). وهكذا – استطراداً – أضيف إلى ما كتب حنا عبود للتو عن الذئب في الشعر العربي في هذا الملحق، أن الذئب يحضر بامتياز في الرواية.
وإذا كانت العاصفة الثلجية في رواية حنا مينة تضيع رائحتها على الذئب، فتضلله، فبربارة ترى للعاصفة فضلها الأكبر، فبهذا الفضل تزوجت ومران الذي بات يخاطبها: أنت الآن زوجتي وحبيبتي وصغيرتي. وبربارة التي كانت عازفة عن الزواج، ركعت على الثلج رافعة يديها في وضعية الصلاة، وشكرت العاصفة، وأمرت مران بالركوع والشكر كي تبارك العاصفة زواجهما. لقد جنت العاصفة التي صنعت معجزتها، فجنت بربارة، وبالجنون تزوجت ومران، وبالجنون سينجبان.
ومران الذي يتبجح دوماً في الشقاوة وجرثومة المغامرة والبذاءة والسخرية… يريد أن يموت وحيداً. لكن بربارة لن تفارقه وهي تدرك أنها مذ طردت الخوف في هذه الليلة الفريدة، قد طردت خوفها. ولأنها باتت حرة فهي ترفض العقل والمنطق والسلامة. لقد تقبلت – كما يشخص مران – السم الذي على شفته، كما تقبل سقراط السم. وهذه الحمامة التي يراها مران قد صارت نسراً ولبوة وزوجة، ترى العاصفة قد عزفت للعاشقين موسيقى فاغنرية. أما مران فيدرك الجانب الحيواني فيه، وينفي أن يكون إنسانا قادراً على نفي الجانب الحيواني من شخصيته. ولأنه لا يماري بهذه الرؤية، يقدر أنه بلغ أن اكتشف جزءاً من حقيقة الأنا الإنسانية.

الرواية تولد في الاحتفال
إذا كان الاحتفال برأس السنة هو رواية (فوق الجبل تحت الثلج)، فلولا الاحتفال ما كانت رواية (السجينة) لمليكة أوفقير التي روتها، بينما كتبتها بالفرنسية ميشال فيتوشي. وقد ذكرت فيتوشي في تقديمها للرواية أن (يد القدر) قد صنعت لقاءها بمليكة أوفقير مصادفة، في الاحتفال بعيد النوروز سنة 1997، لكن فيتوشي لم تحدد ما إذا كان العيد هو عيد رأس السنة الكردية أم الفارسية أم الكردية/‏‏ الإيزيدية.
طوال الاحتفال، كما تكتب فيتوشي، ظلت تتابع مليكة التي تعكس عيناها ضيقاً، وتبدو شاردة، كما بدت منصرفة إلى رفيقها تماماً. وأعجبت فيتوشي برقص مليكة وبعزلتها وسط الجمع، وفي نهاية الاحتفال تبادلتا أرقام الهاتف، لتبدأ العلاقة الحميمة الخصيبة بين المرأتين، وبالتالي لتولد رواية (السجينة).
الاحتفال يفتح الرواية
ينادي العنوان الأول لرواية واسيني الأعرج «2084 حكاية العربي الأخير» رواية جورج أورويل (1984). وكما كانت هذه نبوءة كاتبها بمستقبل كارثي عالمي، تأتي رواية الأعرج نبوءة كارثية بمستقبل العرب، ومن هنا يطلع العنوان الثاني للرواية (حكاية العربي الأخير)؛ فبعد أقل من سبعين سنة، سيكون بطل الرواية (آدم) العالم النووي العربي الأصل، الأميركي، هو العربي الأخير، وإن يكن نثار من البشر – العرب ضائعين في الفضاء الرملي لما تسميه الرواية (آرابيا).
بعد مهاد قصير من الرواية الطويلة، يفتحها الاحتفال بليلة رأس السنة، إذ تخترق الشهب السماء، بينما يتكوم آدم مثل ثوب عتيق، مستذكراً إخفاقه في أن يكون شاعراً، ورغبته بأن يكون طبيباً يداوي الفقراء، فحلمه في أن يصنع قنبلة لا يستعملها، بل يهدد بها من يعتدي على الآخرين. وهكذا سينتهي إلى صنع قنبلة نووية صغيرة من أجل القضاء على (التنظيم) الذي ينادي تنظيم الدولة الإسلامية الراهن، وداعش الراهن.
فجأة يخترق العواء الظلمة: إنه الذئب (رماد) الذي يسكن العربي الأخير. وآدم يضرع إلى رماد أن يمنحه بعض سره، ويجهر باشتهائه أن يكون هو أيضاً ذئباً مثل رماد، بينما المطر يعصف كما لم ير من قبل في قلعة (ميروبا) حيث احتُجز لإنجاز القنبلة العتيدة، وحيث شكل الوقت هو هو، كما ولد في بدء الخليقة. وإبّان الاحتفال بليلة رأس السنة تتلامح لآدم زوجته اليابانية (آمايا) التي تخصصت في الطب النووي رداً على قنبلة هيروشيما.
منذ شهر أكتوبر بدأ الاستعداد للاحتفال بمرور قرن على ميلاد الأخ الأكبر (بيغ بروذر) الذي لم يمت، ولم يشخ. وللاحتفال ترفرف الأعلام على قلعة ميروبا، واللافتات أيضاً، ومنها ما حمل شعار (العربي الجيد هو العربي الميت)، ثم نُزِعَ لعنصريته. وفي ليلة رأس السنة يبدأ الاحتفال التاريخي بالجد الأول الذي علّم الجميع ما لم يعلموا: إنه بيغ بروذر الذي جرى بمناسبة مئويته توزيع عشرين مليون نسخة من رواية (1984) عبر العالم. ولسوف توالي الروايةُ المناوبةَ بين مونولوجات آدم، وفيها بخاصة يحضر الذئب رماد، وبين وقائع الاحتفال، حيث تبدو حركة الساعة بأرقامها المائية الحمراء، وكأنها ثابتة، ففتح آدم عينيه على وسعهما ليتأكد من أن الزمن الحقيقي هو ما كان يراه، وليس ما استقر في دماغه، ثم بدأ يراقب أرقام الساعة بدقة، والأرقام تصعد أمامه على الشاشة الصغيرة الملتصقة بالحائط القديم، ثم تنزل بالهدوء نفسه في وتيرة انزلاقيَّة منتظمة ليكتمل العدد الجديد من السنة الجديدة التي جاءت بثقل، كأنها ولادة عسيرة: 2084، فابتسم قليلاً، وتذكر جورج أورويل حين كان «يحاول أن يهدئ من روع حيوانات حظيرته التي انتفضت من حوله مرعوبة من السنة الجديدة الحاملة للخوف والغموض، كأن المدار الذي كان لا زمنياً حوله، أصبح خاضعاً للنظام المعتاد الذي يحكم البشر جميعاً. سنة مضت وأخرى جاءت ولا شيء يتغير في نظام الأشياء. الغبار نفسه. الضجيج نفسه. العويل نفسه والموت نفسه».
وفجأة سمع آدم صوتاً شبيهاً بعواء السفن. ولأول مرة غابت نداءات الذئب، ولم يشعر آدم بأن سنة قديمة مضت، وأخرى جديدة حلت، لكنه تأكد من أن شيئاً يخصه قد تغير نهائياً. وإذ بدأ النوم يغالبه حضر وجه سيد القلعة الأخ الصغير (ليتل بروذر) ليبارك لآدم بالسنة الجديدة. و(ليتل بروذر) هذا هو حفيد الطاغية (بيغ بروذر)، أحد أبطال رواية 1984. وعبر الحوار يخبر (ليتل بروذر) آدم بأن أبواب قلعة ميروبا ستفتح لمشردي آرابيا لتغذيتهم، كجزء من الاحتفال العظيم. وسيرى آدم في الفجر الآرابيّين الذين يدرؤون عن وجوههم الرياح الرملية، وينتظرون ما تجود به القلعة: هذا هو إذن المستقبل الذي ينتظرنا، ولا نستحق سواه، ما دمنا على ما نحن عليه.
الاحتفال يختم الرواية
وهذه رواية أخرى لواسيني الأعرج، تأتي أيضاً من التفاعل – لا تكفي كلمة التناص – مع رواية عالمية هي رواية (لوليتا) الشهيرة لنابوكوف. وسوف تحضر حرفياً مقبوسات عديدة من هذه الرواية في (أصابع لوليتا).
تلفح البوليسية رواية الأعرج، وقد جاء الفصل الأخير من الرواية (فصل في جحيم التيه)، وفيما يعادل خمس الرواية تقريباً، ليختمها بالحركة الفاصلة: الاحتفال بليلة رأس السنة.
تبدو لوليتا ليونس منشغلة بما يقلقه ويجهله، ثم تحدد هي: الغياب المفاجئ للشرطة التي تحميه، مما يضعه بين أيدي القتلة. ولأنها لا تريد أن تختم السنة حزينة، أعدت لوليتا لليلة عدتها، فحجزت جناحاً في نزل فوكتس – باريير، مطل على الشانزلزيه. وبلوحة لجورج دولاتور، ومارشيلو أحد أكبر مقلدي اللوحات الكلاسيكية، بالفن الذي يراهن على العتمة، بدءاً للخليقة وختاماً، بمريم المجدلية ونور الحياة وشعلتها والدعوة للحياة خارج الأطماع… بكل ذلك يتأثث الفصل الأخير من رواية (لوليتا)، حيث يقول يونس: «سنفتتح سنتنا الجديدة بفصل حي أتمنى ألا ينتهي أبداً. قد يكون فصلاً في الجحيم، ولكنه سيكون جنتنا. هذه أول سنة حب وأريد أن أهديها كل ما هو استثنائي».
كانت لوليتا تحمل اسم نوّة. وقد تعرضت لاغتصاب والدها وأخيها وصديقها. وبهذه الحمولة من العناء اندفعت إلى الأمام، فالتقت في معرض الكتاب في فرانكفورت الكاتب الذي تهدده الإرهابيون في بلاده، فجاء إلى باريس التي تحميه شرطتها. ولا تخفى الظلال السيرية في ذلك كله. لكن الأهم هو ما ترمح فيه رواية (أصابع لوليتا)، إن كان في الفضاءات المترامية بين اليابان وإندونيسيا وفرنسا و… أو في فضاءات الروح وفي فضاءات الجسد، وما يتلبسها جميعاً من العلاقات الاجتماعية والثقافية… وصولاً إلى الليلة الفاصلة التي يبدو كأن لوليتا تودع فيها، ليس يونس وحده، بل الحياة كلها. وفي حوار السهرة الأخيرة يرد الكثير مما يشي بذلك، أي بأمر جلل. فلوليتا تعلن أنها مازالت قادرة على حماية يونس من نفسه ومن الآخرين، بينما القتلة كثر في البلاد، وهوياتهم تعددت. وإذا كان يونس يخاطبها: «لايمكن أن نمضي نهاية السنة داخل فقاعة الألم» فهي تحذره من أن تحتضنه حتى الموت، فهل تتزنر بحزام ناسف، مثلاً؟
تثبت لوليتا عينيها على الساعة الحائطية، محذّرة أيضاً من أن احتضانها ليونس سيكون قاتلاً، ثم تخرج، ويونس يطلب إليها أن تعود بسرعة: «لا يمكن أن نترك هذه الليلة تموت في البرودة والعزلة». وإذ يلاحظ أنها قلقة جداً، تؤكد أنها تخلصت اليوم من أثقال كبيرة، وبعد قليل لن يبقى أثر للألم، وسيسكن كل شيء «وأصبح أخف من فجر ساحلي»، فهل هذا إيذان بالموت؟
ليونس بدت عينا لوليتا فجأة فارغتين تخفيان خوفاً مضمراً، كأنها غدت شخصية أدبية وسط تيه لا ينتهي، لكن لوليتا تهدئ هواجس يونس «سنحتفل بأجمل عيد ميلاد في حياتي، وبرأس السنة. سأخرج حبيبي. وسأعود لك بعد قليل نوراً منفلتاً، شظايا نجمة هاربة، في عرس من الألوان المعمية».
من النافذة يرقب يونس لوليتا حيث يبدو له الإغلاق التدريجي لشارع الشانزلزيه قبل إقفاله نهائياً بمناسبة نهاية السنة. ومن موقعها ترسل لوليتا بقبلة إلى يونس، وإذا ببرق يلمع معمياً البصر: لقد انفجرت لوليتا وتطاير جسدها الهش في كل اتجاه مشكلاً حرائق صغيرة على كتل الثلج، ظلت مشتعلة، وتبعتها لحظة بياض تجمد فيها كل شيء: «النظر. حركة الناس. الصور. الأضواء. السيارات. الناس. توقف أيضاً تساقط الثلوج للحظة. انسحب وجه لوليتا الطفولي نهائياً من المشهد، وحل محله فراغ شديد البياض مثل ضباب حليبي نزل فجأة على ساحل مهجور».
إنه الكابوس الذي سيتفاداه يونس مارينا فيغمض عينيه. وحين يفتحهما سيجد أن الصور البشرية قد عادت إلى حركتها التي ثبتتها قوة الانفجار، وسيجد أن الشرطة قد وسعت دائرة الأمان بأشرطتها الحمراء، بينما امتلأ الشارع بالمارة وبالهواء الذي دخل بقوة إلى عمق الغرفة، حيث يأتي صوت رجل الأمن محذراً: لا تتحرك من مكانك، أنت في خطر حقيقي، لا تفتح الباب لأحد، حتى لوليتا، لا تعد إلى بيتك.. وسيجد يونس رسائل صوتية أخرى: لوليتا – واسمها الحقيقي: نوة أو ملاك – متابعة من الأنتروبول بسبب جريمة ارتكبتها في جاكرتا: قتل أخيها… وقد تبين أنها كانت وراء انتحار صديقها… وهي مكلفة بقتلك من طرف تنظيم مرتبط بجهة متطرفة وضعتك على رأس القائمة بسبب روايتك عرش الشيطان.
في أجمل شوارع الدنيا، في الشانزلزيه، توالى الاحتفال: اشتعلت الأضواء على كل أشجار الرصيف، فتلألأت مرة واحدة تحت تصفيق الناس وأفراحهم. وعلى شاشة التليفزيون ارتسم خبر الجريمة التي نفذتها إرهابية في الشانزلزيه، كانت مكلفة بتفجير نفسها ضد كاتب سياسي لاجئ.
في الشارع زادت حركة الناس الذين كانوا ينتظرون بقناني الشمبانيا نهاية سنة وبداية سنة أقل جحيمية من التي مضت. وبالثلج الذي يغطي كل شيء، وبقدوم (القدر الإرهابي) تنتهي الرواية بالنهاية التي ستتشكل من جديد في نهاية الرواية التالية (2084 حكاية العربي الأخير). حيث الإرهابي (الكوربو) قائد (التنظيم) يتسيّد المشهد، وآدم يتبدد.

لحظة روائية بامتياز
إنها لحظة وامضة، ليلة، زمن، زمان، وحدث أيضاً، تلك هي لحظة رأس السنة. إنها لحظة حاسمة جداً وعابرة جداً كما هي حياة البشر. وبكل ذلك هي لحظة روائية بامتياز. وكما ختمتْ هذه اللحظة/‏‏ الاحتفال (أصابع لوليتا) هي ذي تختم روايتي (جداريات الشام – نمنوما) باحتفال العاشقين صباح ونمنوما وبالتفجير الإرهابي أيضاً:
بهذه الأغنية سنبدأ بالاحتفال
«قد تقضي حياتك وأنت تبني من لا شيء، فتأتي العاصفة وتهدم ما بنيت. ولكن ابنِ على أية حال.
قد تحلم بشيء، والأكيد أنه بعيد المنال، وقد يمضي العمر ولا تحصل عليه. ولكن احلمْ على أية حال.
قد تحبين شخصاً بكل جوارحك، ولكل الأسباب المناسبة وغير المناسبة، يختار الحبيب أن يمشي في لحظة ويتركك، ولكن أحبّي على أية حال.
وقد تسكب روحك في قالب أغنية، مؤمناً بها، فيأتي الغد، ويُنسى أنك غنيتها، ولكن غنِّ على أية حال.
هذا العالم مجنون إلى درجة يصعب معها أن تصدق أنّ غداً أفضل من اليوم، ولكن آمنْ على أية حال».
ما بي من سرّ عليك: فكر، وخاف من أن يكون ذلك صحيحاً، بينما لا يعلم هو مما تخفي أمراً». وإلى أن يبدأ الاحتفال سيتسلل إلى شوقهما الراديو في السيارة، والتليفزيون في البيت: إعادة لمشاهد انفجار السيارة المفخخة في إدارة أمن الدولة، وانفجار السيارة المفخخة في فرع المنطقة، وهذا هو الإعلان الأول عن جبهة النصرة، وهذا نثار هائل ولزج من الدماء والأشلاء والكلمات، ويدا نمنوما تزيحان الستارة عن النافذة، لتحدق عبر الشرفة في البحر البعيد، ثم ترتد بنظراتها إلى السماء بينها وبينه: ما هذا؟
تهمس مرتاعة، فيسرع صباح إليها، ويروّعه أن الثلج قد بدل بياضه وخفّته، كأنما هو يستنقع. وإذ تلتصق به نمنوما يجفله أن الشوق يبهت، ثم يباغته أنها تنأى عنه، وتهمس: هل ترى ما أرى؟
كان شعاع وانٍ يرسم في الأفق: 31 ـ 12 ـ 2011، كأنه يومئ إلى هاوية. وكان البحر البعيد يحضن الفراغ اللامع بينه وبين نمنوما وصباح، فيبدو مرحاً في لحظة، وفي لحظة مثل طفل يتقلّب في نومه.
جنون الثلج
يتوج احتفال رواية فوق الجبل تحت الثلج برأس السنة في مشهد بديع، يحسب مران فيه أنهما في رقصة مجنونة هي البكر في الرقص وفي (الجنون العاطفي)، على إيقاع موسيقا من الصخب والعنف «حيث تقبل الأشجار صفاً صفاً مجلببة بأكفانها البيضاء، كأن النشور قد بعثها من مراقدها». ومن الحفر التي خلفتها أقدام مران وبربارة في الثلج، تعالت ألسنة لهب الأشجار، كأنها في فتلها (المولوي) تدور على نفسها وعلى ألسنة اللهب: «وإذ تمر في الأجمات النارية، في دخول وخروج منتظمين، تبدو كأنها تصنع تشكيلات رقصية على إيقاعات زئيرية متواترة متعانقة ضاجة، تقترب صنوفها وتبتعد في نقلات موزونة خفيفة سريعة تذكّر بنقلات أرجل فتيات شركسيات على خشبة مفروشة بالثلج».
قصة رواية
التقينا، مليكة وأنا، للمرة الأولى في شهر آذار/‏ مارس من العام 1997 عند أصدقاء كانوا ليلتها يحتفلون بعيد النيروز الفارسي. أشارت إحدى الصديقات إلى سيدة سمراء جميلة ونحيفة، واقفة بين المدعوين قائلة: «إنها مليكة أوفقير ابنة الجنرال أوفقير البكر».
صفعني الاسم، إذ إن اسم عائلة أوفقير مرتبط في ذهني بالظلم وبالمأساة. فأطفال الجنرال الستة وزوجته عاشوا عشرين عاماً في المطامير المغربية بحسب ما قرأت في الصحف. في تلك اللحظة تذكرت المقالات التي كنت قد قرأتها حول الموضوع، وشعرت بالتأثر.
قبل انفضاض السهرة تبادلنا أرقام هواتفنا. أيامها كنت بصدد إنهاء مجموعة قصصية كانت كانت في طريقها إلى الصدور خلال شهر أيار/‏ مايو، وكنت أعرف أن إتمام الكتاب سيحتاج إلى بضعة أسابيع، اقترحت على مليكة أن نلتقي فور فراغي من عملي هذا، فوافقت دون أن تخرج بتاتاً عن تحفظها الأول.
صداقتنا التي كبرت يوماً بعد يوم جاءت لتؤكد حدسنا ومشاعر لقائنا الأول. قررنا كتابة هذا الكتاب معاً، لكننا احتجنا إلى بعض الوقت كي تتحول رغبة مليكة إلى إرادة فعلية. وقعنا العقد مع دار نشر غراسيه في شهر أيار/‏ مايو من العام 1997 لكننا لم نبدأ بالعمل إلا في شهر كانون الثاني/‏ يناير من العام 1998، وذلك بعد مغامرات طويلة.
ميشال فيتوسي،
من مقدمة رواية السجينة
___________
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *