بيكون.. الوجه قناع الحقيقة المعذبة


*د. عمران القيسي


ولد الفنان فرانسيس بيكون في «دبلن» عام 1909، وتوفي منتصف عام 1992 في «مدريد»، وقد شكل حضوره في الحركة الفنية الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية استثناءً خطراً، لأنه مهد لما بعد السوريالية، بمعنى انه قدم مزجاً ثلاثياً بين التجريدية والتعبيرية والسوريالية، بحيث أضحت لوحته مفتاحاً لأكثر من قفل انطوت عليه حركة التجديد، بعد الحرب العالمية الثانية، وهي حركة سعت إلى تأكيد بطلان شرعية الحضور الرسمي لأية ثقافة تصويرية تنهض على ميراث عقلاني، من هنا كان سرّ الاصطدام بينه وبين بيكاسو الذي اعتبر لوحة بيكون تخريباً لكل ما هو مخرّب أصلاً، فيما اعتبر بيكون اغلب أعمال بيكاسو تمجيداً لنظام كوني حديدي سوف يعجن جسد وفكر الكائن الإنساني.
كان الصراع على ما يبدو بين تيارين أحدهما عدمي يمثله فرنسيس بيكون، وثانيهما عقلاني تحليلي ينهض على أسس من البناء التكعيبي الراسخ يمثله بابلو بيكاسو.
لكن رغم ذلك كله لم تستطع مجمل الانتقادات الكاثوليكية الطابع، أن تحدّ من اندفاعة الفنان (الدبلني) الغاضب الذي رأى في مجمل فنون عصر النهضة، عملية تكريس للهيمنة البابوية التي ربطت الحضور الإنساني (بالليتورجيا) الكنسية الصارمة، من هنا جاء غضب الرسام الكاثوليكي النشأة على كبار الفنانين الذين كرّسوا فنهم للكرسي الرسولي أمثال (فيلا سكويز) الذي رسم البابا مرات ومرات. كما أعاد بيكون رسم ما رسمه مانحاً إياه بُعداً تجريدياً.
يقول بيكون عن رسمه، خلال حديث له عام 1968 للإذاعة والتلفزيون البريطاني بلندن، «إن باستطاعتك أن تعمل – كما في الرسم التجريدي تماماً – علامات لا إرادية على القماشة، قد توحي لك بطرائق أعمق تصطاد بوساطتها الحقائق المستحوذة عليك. اذا ما قدّر لأي شيء أن يعمل في حالتي ، فلسوف يعمل بدءاً من تلك اللحظة التي لا أكون فيها واعياً بما كنت أفعله. في حالتي، إنها حقاً مسألة القدرة على نصب فخ يستطيع المرء فيه اقتناص الحقيقة في اكثر نقاطها حيوية».
نخلص إلى أن ما يرسمه فرانسيس بيكون عن نفسه، لا يشكل وعياً متكاملاً، ولا وعياً ناقصاً أيضاً، بل حالة غياب كلّي عن الوعي الذي يرسم بطريقة عقلانية. فالشكل هنا ملغى لصالح اللا شكل، وهذا الأخير هو جوهر الصورة الباطنية للحالة التي يكون فيها الفنان جلاداً لذاته، انه عدم الرضى عن الذات، بدعوى صعوبة الاكتمال، أو صعوبة الصعود إلى المستوى المطلوب. فكل شيء ناقص نقصاناً أزلياً، وكل شيء يحمل قابليته الفذّة للتأويل والتحريف.
إنها القدرة على نصب الفخ الذي وعدنا به سابقاً، فقط لكي يستطيع أن يصطاد ذاته، وهي في أوجّ انعطافها صوب الحقيقة -Self-Portrait- أو صورة ذاتية، يرسمها عام 1956 لذاته المنطوية ضمن خطوط بيضاء توحي بالعمق، وتساعد على الجلوس الانطوائي، وهي لغة يخاطب عبرها جميع التعبيريين المعاصرين، وربما في مقدمتهم صديقه وخصمه بيكاسو، لأنه ومن خلال هذه اللوحة التي رسم بها نفسه تقدم بكل عقلانية وجنون في آن واحد، صوب اللغة المباشرة للحوار الحضاري المطلوب آنذاك بين عناصر كثيرة، ربما في مقدمتها مسألة الموت والحياة. لهذا تراه عام 1955، وعندما توفي الفنان الرمزي الكبير «وليم بليك» صنع له قناعاً قبل الدفن. ولوّن ذلك القناع بالبني المحروق، وحوّله إلى دراسة لوجه الفنان الراحل. وهنا يكشف فرانسيس بيكون عن رغبته القوية بأن يخلد عبر قناع مماثل بعد الموت. لذلك ستأتي أغلب رسوماته الذاتية فيما بعد وكأنها رسوم لأقنعة ما بعد الموت.
أما صورته وهو يحلق أمام المرآة، فإن الذي يتأملها سوف يدرك على الفور إشكاليتي الزمان والمكان. حيث الحيّز المكاني الذي يرسمه ينطوي على مساحة ضيقة ومخصّصة لعملية حلق اللحية فقط، أما إشكالية الزمان هنا فإن بيكون يقدم نفسه كمفردة خاضعة لقوى عاتية لا قدرة لأي كائن على تغييرها أو التصدّي لها.
وفي عام 1966، يتعرف إلى الفنان البريطاني لوسيان فرويد، وهو فنان بالغ الغرابة والأهمية، لأنه يختار من الخارج كل ما هو غير مألوف فيرسمه. لذلك يضج عالمه بالنسوة المريضات، وبالسكارى، وبالمقامرين الخاسرين. ولهذا يرسمه كجزء من هذا العالم البائس، علماً أنه لا يبرئ نفسه أيضاً من هذا العالم السفلي.
وفي مقاربة غريبة بين صورته الذاتية وصور ثلاثية الإيفاع لجورج دير يرسم ذاته بحركة قوية حيّرت العديد من الفنانين المعاصرين في حينه، لأن بيكون قدّم خلال هذا البورتريه بالذات قوة تعبيرية عبر أيقاع شرس.
الصورة الأكثر هدوءاً وعقلانية للفنان بيكون جاءت خلال حقبة الستينات 1968 تحديداً. ففي هذه الصورة يرسم ذاته جالساً على كرسي خشبي بسيط وسط غرفة شبه فارغة لكنه يؤكد عبر الرسم بأن وجوده هو الامتلاء.
قلنا إن الحقائق عند بيكون، وكما يقول ذلك أيضاً (ادوارد لويس سميث) هي حقائق مفزعة، معزولة، ومعذبة، ومجرد زيارة أي معرض استعادي لبيكون ستكون تجربة قاسية وموجعة. أما رؤاه الأشد قساوة حيال رجال الأعمال ورجال الدين وبعض النسوة المترفات، فإن بيكون الذي عاش تجربتيّ الحربين الأولى والثانية، وشاهد دمار أوروبا، وغضب العالم إزاء البؤس والدمار، كان عليه أن يغضب على نفسه أولاً وقبل كل شيء.
لقد بات الإنسان مستلباً، وتجربة أواسط القرن العشرين التشكيلية في أوروبا لم تمنح بيكون موقعاً مميزاً في مدارس أوروبا، بل قدمته كخارج عن أطر المدارس والاتجاهات. حتى إن بعض الذين درسوه بعمق توصلوا إلى نتائج مأساوية حيال تجربته المتقطعة، والتي هي عبارة عن نظرة أحادية هجينة لكل المدارس السائدة في منتصف القرن العشرين.
بيكون الذي رسم نفسه بعشرات من اللوحات الغريبة الإيقاع أراد أن يطرح ذاته أمام الآخرين، كأنموذج مغاير لكل السائد في مدارس أوروبا، بل أن يتقدم على السورياليين بالذهاب صوب البعد التجريدي، وعلى التجريديين بالاقتراب من البعد التعبيري، وعلى التعبيريين بإلغاء الجوانب العقلانية لأي نظام تعبيري.
من هنا تبرز أهمية هذا الفنان الكبير وتتكرّس مدرسته التي لم يعترف يوماً انه أسسها، بل كان يكرّر أنه يسخر من كل مدارس الفن.
_______
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *