*ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي
هذه ترجمة للجزء الأول من المقالة التي نشرتها ( جيني إيردال Jennie Erdal ) في الفاينانشيال تايمز في 7 نيسان 2012 و تحت عنوان ( بحثا عن الفكرة العظيمة ) ، تأتي في سياق إستكمال مقاربتي للإشكاليات المقترنة بتناول الحقيقة في شكل روائي أو فلسفي والمحدوديات والإمكانيات الملازمة لكلّ من هذين الشكلين الإبداعيين ، كما تعرّج المقالة على موضوعات غاية في الحيوية و الإثارة والسلاسة في سياق تجربة روائية عاشتها الكاتبة – كما نقرأ في متن المقالة – عندما نشرت روايتها ( ظل الأزرق المفقود : مغامرة فلسفية The Missing shade of Blue : A Philosophical Adventure ) عام 2012 ، ولعلّني أترجم مراجعة تعريفية لهذه الرواية في الأيام القادمة .
” المترجمة”
كانت الفلسفة في بداية سبعينات القرن الماضي واحدة من المفردات الدراسية الأساسية في المقرّرات الواجبة على كل الطلبة الذين يرومون الحصول على مرتبة الشرف Honours Course في جامعة ( سانت أندرو ) البريطانية. ووفقاً لهذا الشرط كنت قد عقدت العزم على الفراغ من متطلّبات البرنامج الدراسي الفلسفي سريعاً في سنتي الدراسية الأولى وانتهيت إلى خيار إسقاط تعلّم إحدى اللغات في مقابل الحصول على درجة جامعية ثنائية في الفلسفة الأخلاقية مع الأدب الروسي وقد بدت لي هذه التوليفة الثنائية بمثابة الحصول على تذكرة المرور إلى أرض الأحلام لأنني كنت أدرك كم كان الأدب الروسي غارقاً في مقاربة المعضلات الوجودية والفوضى الأخلاقية الضاربة في عالمنا مع ما يقترن بها من إشكاليات فلسفية : فمثلاً تواجهنا مشكلة الإرادة الحرة في ” الاخوة كارامازوف ” لدوستويفسكي ، والمعنى الكامن في مفهوم الحياة ذاتها في ” الحرب و السلام ” لتولستوي ، هذا إلى جنب مجموعة زاخرة من الصور المحتشدة بالعواطف ، و حالات الانتحار ، والقتل ، والمعاناة التي واجهتها الإنسانية في تاريخ ارتقائها الطويل . أما الفلسفة الأخلاقية فأمرها مختلف لانها توفّر تحليلاً أخلاقياً عالي الانضباط والصرامة مستخدمةً وسائل المقاربة المنطقية والمنهجية في استكشاف مفهومَيْ الخطأ والصواب في حياتنا . لم يكن اشتغالي الفلسفي ليمضي على ما كان متوقعاً له في السياق الفلسفي المعتاد : فقد اكتشفت أن الفلاسفة وبرغم كونهم حاذقين في طرحهم الأسئلة وإمتحان الدلائل فإن إشتغالهم في موضوعة الحقيقة غالباً ما يأتي في أشكال يراها الكثير من الادباء موغلة في التجريد ، وإن للفلاسفة دأبهم الخاص في البحث عن الحقيقة لا يلامس جوهر المادة التي تستقي منها الروايات موضوعاتها والتي يجوز لنا ان نسميها ” الحقيقة الروائية ” في مقابل ” الحقيقة الفلسفية ” ، وقد رأيت ان هذين الشكلين للحقيقة يختلفان جوهرياً : فالمقاربة الفلسفية للحقيقة تعمل في إطار مقايسة analogy شديدة الخصوصية وأسلوب تحليلي صارم يفصل بقسوة بين العقل والخيال ، وبين الانضباط و التحليق الحر في عوالم لا نهائية.
تحدثت الروائية والفيلسوفة ( آيريس مردوخ ) في مقابلة معها عام 1978 عن ” ذلك النوع من الصوت المحدّد البارد والواضح الذي يسهل تمييزه بين الأصوات ” الذي تحتاجه الفلسفة : الصوت الذي يمتلك صلادة وقدرة على مواجهة الغموض ، وربما أضافت إليه انه ” صوت غير مصمّم لعكس حقيقة حيوات البشر والعلاقة الوثيقة بين النعيم والشقاء ” كما يصفه هنري جيمس في مقدمته لأحد كتبه عام 1897 ، وبالنسبة لي كنت كلّما قرأت روايات اكثر في الجامعة ازداد إيماناً بان الرواية تعمل في الفضاء الذي يتوجّب البحث عن الحقيقة فيه ، وقد كان عليّ أن أعاني ذات ” الصدمة المعرفية ” التي عاناها ( ملفيل ) و التي أيقظت فينا الشعور بان معرفة بعض الأشياء – وبخاصة تلك الأشياء التي تجعل منّا كائنات بشرية – لا يمكن التعبير عنها أبداً بوساطة النثر الفلسفي المتداول . ليس من الواضح بصورة مباشرة وبدهية لماذا هذا الاختلاف في المقاربتين الروائية والفلسفية ، فمنذ الأزمنة القديمة اعتاد الفلاسفة تناول موضوعة ” كيف نعيش بطريقة افضل ؟ ” والتي هي في ذات الوقت الموضوعة الشاغلة للروائيين وحكّائي القصص في كل مكان من هذا العالم وبخاصة هؤلاء المهتمّين بكتابة الروايات الجادة والرصينة . ومن الواضح أن السعي في البحث عن المعرفة والحقيقة يشكّل الأرضية المشتركة بين الاشتغالين الروائي والفلسفي ، وربما جاز لي ان ازعم أن افلاطون لو كان رأى هذه القاعدة المشتركة في السعي لما كان استبعد الشعراء من جمهوريته ولكنه رأى في الشعراء أشخاصاً مثيرين للمشاكل وينقصهم النوع الصحيح من المعرفة ويتعاملون مع العواطف الخطيرة : خوف ، حزن ، شفقة ، والتي من شانها أن توهن الشخصية الإنسانية وتقود إلى التدهور الأخلاقي في حين أن الفلسفة والأدب يسلكان دروباً مختلفة تماماً .
بعد أن أنهيت دراستي في موضوعي الفلسفة الأخلاقية والأدب الروسي تعلّمت مسألتين اثنتين : الأولى هي أن الأحجيات والمتناقضات ذات الخلفية الفلسفية المثيرة هي غالباً تلك التي لا يتداولها المهتمون في الكواليس الخلفية للمؤتمرات والاحتفاليات الفلسفية بل تنشأ عن محض محاورات يومية بين عدة أصدقاء وهم يتناولون الشاي مثلاً ، والمسألة الثانية أن افلاطون كان مخطئاً تماماً في ظنّه أن ليس للأدب ما يمنحه للفلسفة : فمثلاً إن دراسة دفاع ( جون ستوارت مل ) عن مبدأ النفعية في الأخلاقيات مسألة تختلف تماماً عندما نقرأ مقطعاً في رواية دوستويفسكي ” الجريمة والعقاب ” ونرى كيف يمتحن ( راسكولنيكوف ) مبدأ النفعية في أقصى غاياته عندما يتناول فأساً ويشطر رأس المرابية العجوز إلى نصفين ، لأننا غالباً ما نحتاج إلى إيضاحات مثل هذا الذي فعله راسكولنيكوف لإقناعنا ان الفلسفة الأخلاقية تظل في حاجة ماسة إلى شكل روائي ما لبيان الغرض الأسمى ممّا نبتغيه من موضوعات . داعبت هذه الأفكار خيالي عندما انغمست في كتابة روايتي ” ظل الأزرق المفقود The Missing Shade of Blue ” و لحسن الحظ لم يكن في روايتي أية قتلة بالفأس بل كان ثمة فيلسوف ورسّام و مترجم يتشاركون ذات النظرة اليائسة والتبرم بالحياة ، وقد حصل أن اقتبست عنوان الرواية من العمل الفلسفي المرموق “مقالة في الطبيعة البشرية A Treatise on Human Nature” لفيلسوف عصر التنوير الأسكتلندي الذائع الصيت ( ديفيد هيوم ) الذي عرض في مقالته كيف يمكن للعقل وتحت ظروف محددة أن يولّد فكرة ما بدون ان يكون قد خاض في تجربة حسّية باعثة لتلك الفكرة ، وقد رأيت في هذه الموضوعة التي أسماها هيوم ” الظل المفقود ” إمكانيات روائية ذات حدود لانهائية : كيف يمكن مثلاً لرجل هادئ ومكتفِ بذاته طوال حياته و لم يختبر الحب من قبل ادراك ان تجربة حب قد سنحت له متى ما حصل فعلاً و خاض في تجربة حب حقيقية عاصفة ؟ وربما يكون الكاتب المسرحي ( سايمون غراي Simon Gray ) قد عبّر عن ذات الامر بطريقة أخرى عندما وصف يومياته بأنها ليست عن الموضوعات العظيمة والخطيرة بل عن الحياة كما تحصل وقائعها حقيقة ، وعلى الرغم من أن روايتي التي حكيت عنها أسرفت في عرض الأفكار الكبيرة التي تعرض لنا في الحياة مثل الطبيعة المخادعة للسعادة ، و المخاطر المترتبة على الانغماس في التفكير المتواصل الطويل ، وزيف الإرادة الحرة ،،،،،،، لكنني كنت في النهاية أرمي إلى الكتابة عن حكاية صغيرة مرتبطة بالحياة كما يعيشها أغلبنا فعلاً ولذا لم يكن من الغريب أن أكون مرتبكة بعض الشيء عندما أطلق ناشرو روايتي عليها عنواناً فرعياً هو “مغامرة فلسفية A Philosophical Adventure” لانني كنت أظن واهمة أن عالم الفلسفة سينفّر الناس ويبعدهم عن تداول الرواية ، ولا أظن أن ثمة نوع من أية هواجس أو تبكيت ضمير قد حصلت مع دوستويفسكي الذي تعدّ رواياته مثالاً بيّناً لما بات يعرف “الرواية الفلسفية” التي تفهم بصورة أساسية بانها تلك الرواية التي تتناول انشغالاً يختص بالقيم الأخلاقية والحقيقة ، أو أنها تتناول موضوعات لها أهمية وجودية ، وقد صارت الرواية الفلسفية اليوم نوعاً أدبياً ذا أساس موطّد الأركان و أضحت تشغل مع ” رواية الأفكار Novel of Ideas ” حيزاً مهماُ وراسخاً في النتاج الادبي .
يصف ” دليل أوكسفورد للفلسفة Oxford Companion to Philosophy ” الرواية الفلسفية بانها ” ذلك النوع الروائي الذي يرمي لعرض وجهة نظر فلسفية ما سواء أكانت ميتافيزيقية ، أو أخلاقية ، أو جمالية ” ، و كانت الرواية في روسيا القرن التاسع عشر أقرب إلى ان تكون ” تجربة ذهنية Thought Experiment ” والتي غالباً ما تتمحور على شخصية تتطلع أن تعيش فكرة تجريدية لا نرى لها ما يماثلها في العالم الحقيقي كلّما تقدمنا في قراءة السرد . تبدو الأمور في عالم السرد الروائي اليوم أقل تحديداً ووضوحاً ، ويمكننا أن نسأل في هذا الشأن : ما هو المعادل المعاصر للرواية الفلسفية ؟ وكيف لنا ان نعرفها متى ما وقعت بأيدينا واحدة منها ولم يكن فيها ثمة إشارة إلى ( كانت ) أو ( فتغنشتاين ) ولم تكن تحوي مفردات مثل ( إيبستمولوجي ) أو ( أنتولوجي ) ؟ ذاك سيكون مادة موضوعنا في الجزء الثاني من هذه المقالة.
______
*المدى