الآثار بأثر رجعي


*نجيب نصير


خاص ( ثقافات )
من يستمع اليوم ويرى أخبار الآثار ونهبها والإتجار بها، لا بل وتحطيمها ودثرها، تأخذه حسرة وأسف إلى ما آلت أمورها،…. يتفاجأ، وكأنها المرة الأولى التي يسمع بها بهكذا أخبار، بحيث يصبح معنياً “ولو لوهلة” قبل أن يتجاوز الأمر برمته مسلماً الأمر لعوادي الزمن، دون تمعّن في علاقة هذه الآثار بوجوده، أو محاولة لمعرفة العلاقة المعرفية معها، ومن دون أن يتساءل، لماذا هي باقية؟ وما الفائدة من بقائها والمحافظة عليها، أو غيابها ودرسها في رمال الماضي؟ تعبر هذه اللحظة خضوعاً لهموم الحاضر المضنية، وأيضاً وهذا الأهم، خضوعاً لنوعية ثقافية تربوية، جعلت من الآثار مسألة هامشية (إذا لم نقل ملغاة)، في الوجود الجماعي لسكان هذه القارة العربية.
ربما من يرنو إلى مسرح بصرى الضخم (سوريا)، وما آلت اليه الحركة المسرحية في بلادنا، أو من ينظر إلى فن النحت في المتحف المصري، وما آلت إليه الفنون التشكيلية بين ظهرانينا، أو من ينظر إلى الأهرامات أو البتراء، وما آلت اليه العمارة في تجمعاتنا السكانية، قد يربط إلى حد ما، بين هذه الحسرة العابرة وبين فداحة الخبر، فالمسألة برمتها تتمحور حول الإرتقاء، فالآثار هي شاهد على الإمكانيات المعرفية للشعوب، وعلى لحظة تمثل إرتباطها بالعالم، فالمعرفة البشرية هي معرفة مشتركة بالضرورة، والإرتقاء هو ديدن الفعل البشري وسبيله إلى البقاء.
لاشيء نتج عن ذاك الشيىء، إلا إفساح المجال لتتباهى الصلعاء بشعر خالتها، فكل هذه الفخامة القديمة، يقابلها حاضر مزر، غير قادر على مجاراة أسلافه بالإرتقاء، لأسباب تظهر وكأنها مسكوت عنها، أكثر مما هي غير معروفة، أو حتى مهملة، ومع ذلك نصرّ على التباهي بإنجازات الأجداد، بل ونغضب على طريقة أحد الأدلاء السياحيين في مصر، عندما أشار عليه أحدهم، أن هناك آراء تقول، أن من بنى الأهرام هم قوم أتوا من الفضاء، غضب وكأن إهانة لحقت به، على الرغم من إشاراته التأثيمية المتكررة، حول الأهرام وأبو الهول على أنها أصنام من صنع فرعون، وهذا مثال يتكرر في جميع البلدان العربية.
عند هذه النقطة بالذات ينشطر التاريخ والتراث والآثار جزء منهما، ينشطر إلى قسمين، قسم مؤثم لا ضير من غيابه، وقسم مبجّل يجب البحث عنه وحفظه، وتأدية كافة طقوس الفخر به والإجلال له، في تقسيم لا عقلاني، يتعاكس مع بدهيات العيش البشري، وما يكتنفه من معلومات ومعارف، وبهذا أيضاً يتمزق الكائن البشري بين تاريخين وتراثين وآثارين، واحد عزيز على القلب، محتفى به، محتمل على مضض وتجب المحافظة عليه وكأنه لمّا يزل حياً، وذلك بحكم أنه يمثلنا في الشق الماضي من سيرورة الحياة، وآخر مكروه،على الرغم أنه يمثلنا هو الآخر إنطلاقا من نفس المنطق، ولكن يمكن التغاضي عن إختفائه، أو سرقته ،أو نهبه، إنه تاريخنا وآثارنا ولكن من الناحية السلبية، تاريخ وآثار جريمة ارتكبها الأجداد، وتجلب العار لنا.
منذ بدء الاهتمام بالآثار واكتشافها، وتوظيفها في الدراسات المعرفية، وآثار المنطقة العربية تسرق وتنهب وتباع وتشرى، ولها أسواقها السرية والعلنية، ولها سارقون منظمون وعشوائيون، معروفون من أصحاب السطوة والنفوذ (أو ما يسمى مسؤولية)، أو من النكرات ممن يسمون “بالكنازين”، ولها دارسوها الذين يوجّهون أبحاثهم بالإتجاه الذي يريدون، ومع هذا كله لم تقم مظاهرة واحدة في عموم العالم العربي، تطالب بمحاسبة المسؤولين والنكرات، ولم تقم أي مجموعة من النخبة بأي فعل عملي تجاه هذه الظاهرة، ما يعبر عن استغناء العامة عن هذه “الكنوز”، لما لها من صفات غير مستحبة، وكأن هذه الآثار هي ملك الحكومات والسلطات النافذة ومسؤوليها، أو أن هذه الآثار وجدت مصادفة في هذه البقاع ولا تنتمي إليها، ومع هذا نتبجح بشوفينية ثقافية بإمتلاكنا لها، تأكيداً على عراقة مشروطة بالتأثيم والتكفير، في تعبير عن موقف لاعقلاني منها، يتعاكس تماماً مع ضرورات الثقافة السوية.
لا يدر المرء …. هل يصاب بالفرح، عندما يعلم أن هذه الآثار قد تم نهبها وسرقتها، وهي قابعة بالحفظ والصون في أحد أرجاء العالم؟ حيث هناك من يقدرها ويعتني بها، وعلينا تهنئة النهابين والسراق على فعلهم هذا، وكل ذلك مقارنة بأفعال التهشيم والتحطيم والإفناء، التي تتعرض لها هذه الآثار على أيدي الشعب بقيادة نخبه الثقافية التاريخية، وهل علينا ونحن صاغرون الإعتراف، أن نهب وتهريب الآثار، هو أشرف من تحطيمها وإفنائها؟ إنه سؤال الرمضاء والنار.
تبدو البنية الثقافية المولجة بالرد على هذا السؤال بنية مستعملة إلى حد الإهتراء، وجبانة لا تقو على ستر نفسها، بسبب إيغالها في اللاعقل واللامعرفة، على الرغم من توفر العلوم التي تستطيع تفسير أهمية الآثار، ودورها في إغناء المعرفة البشرية، بنية ثقافية لا تقبل إلا بالغلبة (الغزو) كشهادة علمية، تستطيع التعامل معها، لذلك تعامل كل الحوادث على أنها غزو، فنهب متحف بغداد كان ناتجاً عن الغزو، ولكن بماذا نفسر تحطيم الآثار العراقية لاحقاً؟ بنية ثقافية لا ترى بنفسها حاجة، إلا لقسم صغير من التاريخ والآثار، ومع هذا تعرف نفسها، وتتعرف على نفسها من خلالهما، إنها قمة من قمم الفصام الثقافي الذي يصاب به المتخلفون فقط، ولهذا بالذات ليس لدينا حركة مسرحية عليها القيمة، ولا فنون تشكيلية باهرة، ولمّا نزل نستورد فنون العمارة كما نستورد السيارات، إن علاقة البشر مع الماضي تشبه العلاقة مع درجات السلم، نتجاوزها كلّما ارتقينا، لا نلغيها، لأن في ذلك إلغاء للسلم نفسه. 

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *