*إبراهيم البوزنداكي
خاص ( ثقافات )
طفرت من عينيه عبرات حارة و انحدرت على وجنتيه المتغضنتين بصمت. تراءت له الدنيا خلاء و قفارا من دون شريكة حياته التي قاسمت معه الحلوة و المرة، و قاست معه من شظف العيش و نكد الحياة مدة غير يسيرة.
هاهي الآن يحملونها عاجزة على هذا النعش الخشبي الأصم، يرددون عبارات شهيرة:” مولانا نْسعاوْ رضاك و على بابك واقفين…
يكاد يرى ابتسامتها الأخيرة على وجهها الذي أنهكه الهم و الحزن. عيناها الممتلئتان محبة و حنانا ودّعتاه، و لسانها لم ينطق إلا بكلمتين: نلتقي هناك، وداعا.
“هناك” لم تنطقها شفتاها و إنما كانت إشارة من سبابتها إلى السماء. كانت تعني أن العشرة الطيبة لا تنتهي بفناء الجسد، إن هو إلا غلاف لما لا يفنى: الروح.
الروح هو الكيان الخالد في الإنسان، و على هذا فالعشرة بينهما لا تنتهي بانتهاء الأجل في الدنيا، بل ستستمر هناك. إن هو إلا انقطاع يسير، لمدة معلومة، و كأنه عقاب من نوع ما. لأن المتحابين المتآلفين لا يرضيان بالفراق و لو لبرهة. الأكيد أن مثل هذا الانقطاع يزيد من المحبة و يقويها.
هاهم الآن يهيلون الثرى على جسدها بعدما أخذوه من النعش و مددوه في اللحد الضيق على جنبها الأيمن ليكون وجهها مستقبلا القبلة. لم تكن تحب النوم على جنبها الأيمن قيد حياتها.
هاهي الآن، قد حكم عليها بالنوم على هذا الجنب نومة أبدية. لماذا يتذكر الآن قول المعري:
ضجعة الموت رقدة يستريح الجســــــــــــــــــــــم فيها و العيش مثل السهاد
لقد نأت، و نايها لا تبلغه المطايا و لا المراكب.
” هنيئا لك، فقد كنت نعم الزوجة و الرفيقة. لم أدخل البيت قط إلا ووجدتك في انتظاري على العتبة هاشة باشة. تذهبين عني كل ضنى و كل تعب بابتسامتك الجميلة. حين أمرض لا تكفين عن خدمتي و القيام على حوائجي و تذكيري بمواعيد الدواء”.
حثوا التراب حتى لم يعد الكفن الأبيض ظاهرا. استمروا في تغطيتها بذات الرداء الذي سيحجب كل ذي نفس سائلة. يكاد يحس بها تنتفض و تصرخ باسمه، تضرب بقدميها و تستغيث به: “أغثني إنني أختنق”.
” أرجوكم لا تضعوا تلك الجمادات عليها، أنتم لم تعرفوها، لقد كانت إنسانا حقيقيا”
لكنهم غائبون عن هذا النداء الذي لم يبارح دواخل عقله، و هم سادرون في ترصيف اللّبِن على جسد زوجته حتى انتهوا إلى آخر القبر، ثم شرعوا يسوّون الطين بأياديهم على اللبنات.
” إنها الآن هناك تسأل، يا ربي ثبتها وارزقها العقل الراجح لكي تجيب”
هاهو ذا الآن يتقبل التعازي و الرجال يقبّلونه وهو عنهم غافل، ما هذا الألم الذي يفتك بصدره؟
” رويدك يا ألم فلم أعد أطيقك، كما قد عوّدتك”
وانتشر الناس من حوله و بقي وحيدا أمام القبر. هو ذا ابنه راجع إليه ليقول له كلمات هو نفسه من علمه إياهن .وصل إليه وقبل رأسه وساقه إلى خارج المقبرة دون كلام عكس ما توقعه.
” إنها تبكي، أعضائي كلها تبكي يا بني و أنت تسأل عن عيني، لقد كانت تلك زوجة و أما و صديقة و أختا، إنها عالمي الذي عشت فيه قد تركني ومضى”
و لفه الحزن الممض، و لم يستطع نسيانها. هجر مجالس الأصدقاء فأصبحوا يأتونه في البيت، لكنهم يجدونه جالسا على كرسيه الهزاز أمام المدفأة يحدق في النار. يحلقون من حوله في جلسة و يتحدثون بأمجاد الماضي، لعله يشاركهم، لكنه كان تمثالا لا يتحرك و لا يتكلم. مجرد بحلقة مستمرة إلى النيران، لا يقوم إلا إلى المرحاض
أو إلى النوم.
يئس الأصدقاء من صديقهم و علموا أن كونه كله كان منحصرا في “زينب” زوجته. عندما غادرته، غادرت بروحه و لم تترك لهم إلا غمدا أو وعاء لا ترجى معناه و لا فائدته.
تقضّى تردد العواد، وانقطعت زيارة الأقربين ولم يعد يأتي لزيارته إلا ابنتاه. ذات ليلة، في جلسته المعتادة أمام المدفأة و النار تزفر خيطا رفيعا من دخان متصاعد لا يرى لظلمة الغرفة، لأنه يأمر ابنه بتركه وحيدا في الظلام. أشعل النور واتجه نحو غرفة نومه. هناك، فتح صندوقها الخشبي القديم الذي أتى مع جهازها يوم زفّوها إليه. كان يريد أن يتذكر، أن يعيش بعضا من نفحات الماضي الذي صار في نظره أحلاما و خيالات.
وجد سجادتها و السبحة العملاقة التي صنعتها من حبات الأرڰان، و الحايك الخاص الذي كانت تتلفع به يوم كانت شابة. تنسم تلك الرائحة الجميلة القادمة من أعماق الماضي. أغمض عينيه و تبدت له في كامل زينتها أمام وجهه تدعوه و تناديه.
في قعر الصندوق علبة قديمة أخذها بين يديه، تأملها و مرقت في ذهنه كتلة من الذكريات كالوميض. فتح العلبة فوجد فيها دميتين مخاطتين من ثوب مخملي جميل، محشوتين بالقش.لكل منهما يدان ورجلان ورأس. أحد الوجهين مدور و متقن العينين و الأنف المدبب الذي كان عبارة عن كريّة منسوجة من خيط. الآخر كانت عيناه نقطتين سوداوين واضحتين والأنف مستطيل. لهذا الرأس شعرات من الصوف تتدلى من ورائه و كأنها تؤكد أنه امرأة. كان يجهل أن زوجته تصنع هذه الدمى، و كان ذلك غريبا لأنها لم تكن تحب الأسرار. نظر في العلبة ووجد ورقة مطوية كانت مكتوبة بخط زوجته.
” آه ما هذا، إنه الألم اللعين مجددا يقطع صدره. مهلا على رسلك، فما زالت فيّ بقية من رجل، لن تحرمني الآن من قراءة الخطاب”.
شد أصابعه على الورقة و كأنها ستطير من يده، أمسكها بكلتا كفيه وأنحى بها ناحية وجهه. قربها إلى عينيه لأنه لم يعد يبصر كما كان. إنها خط يدها لا محالة.
كانت قد استطاعت أن تحارب الأمية بمساعدته. كانت لديها عزيمة لا تنثني، قوة جبارة من الحزم و العزم.
استطاع أن يرى الحروف بشكل ضبابي مشوش.
” آه ويلي، ما لهذا الألم يستبد ولا يترك لي حرية القراءة و التذكر.. ابتعد يا ألم و دعني أعيش.. آآي”
ابتعدت الحروف وتشوشت الرؤية أكثر فأكثر. سقط على ركبتيه، انقبضت أساريره و تحول وجهه إلى لوحة مجسدة للألم. سقطت الورقة من يده التي أسند بها صدره بقوة. جمع قوته كلها في صرخة، صرخة هدت أركان البيت و أيقظت أهله الذين سارعوا إليه، لكن بعد أن جاد بآخر أنفاسه، ساقطا على جنبه الأيسر و ساقاه مضمومتان إلى وركيه. يده اليمنى ممتدة أمام وجهه حيث سقطت الورقة و كأنه كان في صراع مع الموت حولها.
جس الابن نبض أبيه، و علم عن يقين أنه رحل. ولولت زوجته و بكى الطفلان. أما هو فقد نظر إلى أبيه و هو يعلم أنه مات منذ اليوم الذي ماتت فيه أمه. تأمل اليد التي امتدت تحاول الإمساك بشيء ما. رأى الورقة المطوية و العلبة المعدنية و دميتي القش.
أخذ الورقة بين يديه، فتحها و قرأ:
” زوجي العزيز،
عندما لا يكون الائتلاف بين روحين، يكون الاختلاف بين الجسدين محتما. لكن أنا و أنت، روحانا مئتلفتان، و أنت تعرف أن الجسد وأخلاطه من مادة دنيئة يخالطها ذلك الطبع الخسيس. و الغضب هو نقمة و ليس نعمة، ولا أدري لم خلق الله الغضب؟!!
ربما قد تتهمني بالجنون، لكن أنت تغضب مني و أنا أغضب منك، ورغم ذلك كانت حياتنا رائقة فضلى. أنا لم أظهر لك يوما غضبي، وأنت ظننت أنني لم أغضب يوما عليك، لكن هذا مخالف للحقيقة.
أتدري ما السبب ؟؟ كنت أخفي غضبي عنك هناك في غرفة السطح، أخيط هذه الدمى. في كل مرة أغضب فيها أحول ذلك الغضب إلى قوة إنتاج تخلق لي دمية أحشوها بالقش”.
رفع الابن عينيه عن الورقة موجها إياها إلى جسد أبيه المسجى على مقربة، مستشعرا عظمة والده من خلال هذا الخطاب، هذا الرجل الذي عاش حياته كلها و لم يغضب فيها زوجته إلا مرتين، ياله من رجل!!
أعاد عينيه ناحية الورقة ليكمل قراءة الأسطر الباقية: ” وقبل أن تعجب بنفسك و تفخر على الرجال بكونك لم تغضبني طوال هذا العمر إلا مرتين، أقول لك إنني بعت كل الدمى التي أنتجتها إلا هاتين اللتين تمثلان أكبر غضبتين غضبتهما. أما المال الذي جنيته فستجده هناك في غرفة السطح داخل سقالة خزفية.. لكني أقول إنني قد صفحت عنك إذ أعلم أنني أنا نفسي لست ملاكا “.
تجاوز الابن حكاية المال مؤقتا و خرج ليعلم الناس بموت أبيه.
اضطر أن ينتظر قدوم الفجر، لأن أباه قد مات قبيل منتصف الليل بقليل. جهزه و غسله مع إمام المسجد، و كانت جنازته مشهودة.
لم يمر على موت أمه إلا أربعة أشهر، و هاهو ذا أبوه يغادره.
” آه منك أيها الموت، تضرب ضربات العارفين بمكامن الألم”
تلقى التعازي من الجيران و الأقارب و أصدقاء أبيه. كان حزنه صادقا لأن أباه كان يستحق أن يقال إنه أب.. رجل مسؤول أحب عائلته وضحى من أجلها بالمال و المجد و الشهرة.
” نسله الآن يتلخص في ابنتيه و فيّ و في أولادي”.
تأمل ابنته الصغرى “إكرام”، ناداها فجاءت تتهادى في مشيتها تكاد تسقط. أخذها بين يديه و قبلها. يدها الصغيرة قابضة على دمية القش المستطيلة الأنف. تذكر أين رآها، إنها إحدى غضبتي أمه اللتين تحدثت عنهما في الخطاب. على إثر ذلك تذكر المال و الصقّالة. وضع الطفلة من يديه وارتقى الدرج في سرعة المتلهف المستعجل.
في غرفة السطح، بحث مطولا بين القناني المختلفة و الخردات و الأواني القديمة. وجد الصقالة مخبوءة في سلة قصب محشوة بالصوف و القش.
كسر الصقالة الخزفية و عد المال المكون من أوراق من فئات مختلفة، مطوية على أربعة لصغر خرم الصقالة.
وجد المبلغ يناهز عشرة آلاف درهم، تنقصها مائة فقط. صفّر بفيه رافعا شفته العليا، وارتفع حاجباه من الدهشه. لم يستطع أن يمسك نفسه عن التساؤل بصوت مرتفع:
كم كان عدد الدمى التي باعتها أمي لتحصل هذا المبلغ؟؟
قدّر أن غضبات أمه كانت تعد بالآلاف، تحولها بفضل طاقتها الإيجابية الخلاقة إلى دمى من ثوب تحشوها بالقش.
” رحمك الله يا أمي، و غفر لك يا أبي فقد نفخت قلبها غضبا!! ”