
*فاطمة سلام
يُعرف الناي على أنه آلة موسيقية مصنوعة من صلب الغابات، فيه ستة ثقوب أمامية وواحد خلفي، ينفخ في جوفه، ويصدر اصطدام أنفاس العازف بحافة فم الناي أصواتا، لا تسمى بالموسيقى إلا إذا ارتبطت بالإحساس والدربة.
ويصف العازفون الناي بـ”الآلة القوية” كونك تحتاج إلى أن تضع كل روحك فيها، قبل أن تصبح طيعة بين أصابعك، وهي قوية أيضا لأنها تأخذك إلى مناطق من المشاعر ربما لم تكن تعرف أنك تمتلك جمالها، أو أنها تعصف داخلك.
ارتبط الأنين بالناي، وصارت تتشح صور الحزن بموسيقاه، لكن من جعله حزينا؟ هو القادم من الروح الكلي لسلام الطبيعة، منذ زمن الفراعنة ثم الإغريق وإلى وقتنا الحالي ..
الناي قداسة .. من الفراعنة إلى الإغريق
تقول بردية “الرمسيوم” إن الفراعنة عرفوا المسرح الغنائي، وشددوا على تعليم أبنائهم الدندنة والعزف على القيثارة والناي، أي أنه حتى في ذلك الوقت ( 4000 سنة قبل الميلاد)، عرف الفراعنة أن القصب يمكن أن تنفخ فيه الروح، ويحاكي عالما بدا مجهولا لكنه يطرب.
هذا العالم الخفي كان متداخل العواطف، الجمال فيه واضح لكن الروح خفية، ومن حيث لا تدرك يتبدى الشجن، ليس حزنا خالصا ولا فرحا خالصا، إنه التباس شغوف يجعل الحياة ما بعد الحياة، والإدراك في وعي ثان، أمرا ممكنا. وربما وعيا منهم بهذه القدرة العجيبة للموسيقى التي عرفها الفراعنة، وسطوة الناي بينة فيها، وضعوا قوانينا صارمة قيدت الموسيقى شكليا فيما كان المقصود تطهير النفس وحماية التراث الموسيقي والغنائي الفرعوني وخلوده، ما أسبغ على موسيقى الناي ما يشبه القداسة.
ولأنه في عرف الموسيقى، عندما تنتقل آلة من مكان إلى آخر، فإن موسيقاها تنتقل معها، انتقلت هذه “القداسة” من الفراعنة إلى حضارة الإغريق في اليونان والأعرق في أوروبا.
عرف الإغريق أن “الموسيقى أسمى من أن تكون أداة للهو والسرور، فهي تطهير للنفوس وراحة للقلوب” كما يقول الفيلسوف أرسطو، وكتب أفلاطون “من حزن فليستمع للأصوات الطيبة فإن النفس إذا حزنت خمد منها نورها، وإذا سمعت ما يطربها اشتعل منها ما خمد”.
وهنا ننتقل إلى البعد الميتافيزيقي (ما وراء الطبيعة)، كيف يطهر غير الملموس والخفي/موسيقى الناي، المحسوس/الجسد؟ وكيف يسمو الخفي/موسيقى الناي بالخفي الآخر/الروح؟
هكذا أسئلة يكاد يكون مستحيلا التوصل إلى أجوبة عقلية عنها، حتى في اليونان، حيث تم اللجوء إلى تفسيرها بالميثولوجيا (علم الأساطير) حيث للناي إلهة هي “لنيوتيربي” وحيث عزف “أبولو” الشهير إلاه الموسيقى والشمس “نشيد أبولو” على آلة “الأولوس” أي الناي، بنغمات طويلة يمكن للروح أن تلبسها كل المقاسات العاطفية، وتخرج بها عن المألوف، وتعيد تعريف المعرف وتولجه عالم العواطف الذي لا قواعد فيه.
انتقلت آلة الأولوس/الناي إلى الرومان، حيث استعملها شعب “الداك” أي السكان الأصليون الرومان، كوسيلة للإخبار وإطلاق إشارات النداء، بدل قرع الآلات المعدنية، واستعملت في تهذيب النفوس أيضا أسوة بالفراعنة والإغريق، لكنهم أيضا كانوا يعزفون الناي فرحا بالمواليد الجدد وبأحداثهم السعيدة.
وعزف البابليون والآشورين على الناي منذ العام 1271 قبل الميلاد، لم يتغير في كل هذه الحضارات والثقافات حزن الناي؟ عن هذا يقول اختصاصي علم النفس العربي أحنكير في تصريح لـ”TRT العربية” إن “الموسيقى بشكل عام لها تأثير نفسي على المستمعين حتى لو كانت من النوع الهادئ، أضف إلى ذلك أن العلاج بالموسيقى نوع من التداوي المعروف منذ القدم، يمزج فيه التعود مع التأثير على الجهاز العصبي”.
وفي الموسيقى حسب أحنكير “اللعب على الإيقاع عندما يقوى يحمل بصمة معينة في علم النفس، يتحول معها الشخص إلى وضعية الجنين في بطن أمه، بحيث يدخل حالة نفسية تعيده الى الصغر، وهنا يمكن أن يبكي أو يفعل أي شيء” ولا يرى الاختصاصي الأمر سلبيا “من الجيد أن يخرج الإنسان الضغوطات التي تشحنه عبر الوسيلة التي تريحه حتى لو كانت الجذبة، السيء والخاطئ هو الاعتقاد بقوى خارقة تكون مسؤولة عن تلك الحال”.
في مسميات الناي “المزمار، الأولوس، الكافال، القنا، البيول، الشاكوهاشي، الشبابة” لما حزنه؟ لما الروح تطهر نفسها بالحزن، كل لقاء مع موسيقاه؟ .. الصوفية ربما تقدم أجوبة مختلفة ..
أنين الناي المشتاق في الصوفية:
“استمع إلى صوت الناي كيف يبث آلام الحنين يقول: مُذ قُطعت من الغاب وأنا أحنُّ إلى أصلي” يقول إمام الصوفيين جلال الدين الرومي.
قطع الناي من قصباته في الغاب، والقصب حيث غرس يتمسك بالأرض، لكن فعل القطع في حد ذاته مؤلم، وهو يستمر مهما تباعدت المسافات بين الناي وموطنه الأصلي، كذلك يرى الرومي أن الروح تشتاق إلى المكان الذي قدمت منه وهو “عالم الخلد” أو “عالم البرزخ” ما قبل حياة النبي آدم عليه السلام على الأرض، الجنة ..
لهذا العالم باب واحد عريض ليدخله البشر برأي الصوفية: العبادة ومطيتها الروح، والعبادة لا تكون بدون عشق للخالق، أي الفناء على طريق الإخلاص .. “بالعشق يصير يزيد بايزيد”
يقول الرومي في قصيدة بعنوان “أنين الناي”:
“الجسم مشتبك بالروح، والروح متغلغلة في الجسم
ولكن أنى لإنسان أن يبصر تلك الروح؟
أنين الناي نار لا هواء
الحكمة التي يرويها، محرمة على الذين لا يعقلون،
إذ لا يشتري عذب الحديث غير الأذن الواعية”.
الرعاة .. شبابة حصيد الحياة:
يقول الشاعر محمود درويش، في قصيدته “ناي”
لا تقتلوني أيّها الرعاة
لا تعزفوا
خافوا عليّ الله
أستحلف الفحيح أن ينام
في ألحانكم
حتى أمرّ في سلام
زنجار! يا قاتلي زنجار
لا تنتظري
إني سمعت الناي
لا تنتظري
إني هجرت الدار!”
يخيف الناي وموسيقاه تصيب بالحزن، لكن في قصيدة درويش قول مبطن عن التأثير الهائل لموسيقى الناي على الإدراك الإنساني، الحواس تعود إلى فطرتها حيث الوحشة في الوحدة، والسلام في المحبة الجمعية.
ومن الفطرة أن الرعاة في الحقول الشاسعة، حيث يتساكنون مع الوجود من سماء وحصيد وسدر وحجر ونبات وطير وبهيمة، وكل ما يوجد على بسيطة الطبيعة، لم يعلمهم أحد كيف يستخدمون إبهامهم الأيسر على الناي أو الشبابة، كما يسميه الرعاية، للحصول على نغمتي “ال لا” و”ال سي” الموسيقيتين.
إن الروح تنفذ منه إلى القصبات، تعترش سماوات سبع .. “وأنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود” كما يقول جبران خليل جبران في قصيدة المواكب.
____
*TRT