عودة سينما الموجة الفرنسية الجديدة في حقبة تكنولوجيا الفرد

عودة سينما الموجة الفرنسية الجديدة في حقبة تكنولوجيا الفرد

د.شهلا العجيلي

ليست الأفلام بحاجة إلى استديوهات، ولا ممثلين مشهورين، ولا أزياء مكلفة، بل بحاجة إلى قصة جاذبة ومن ورائها إشكالية، ويمكن أن يكون كاتبها هو المخرج ذاته، ولعل هذا ما يعيدنا للبحث في أصول هذه الفردية بوصفها القوة التي كسرت النمط، وواجهت القيود التقنية والمؤسسية، التي نجدها في أفلام الموجة الفرنسية الجديدة في ستينيات القرن الـ20، إذ غيرت هوية السينما، ونقلتها إلى مرحلة من الحضور الثقافي المستقل، والثائر على النمط الهوليودي، لتمنح هذا الفن خصوصية تربطه بسياقه الاجتماعي الثقافي الذي يعالج إشكالياته، أما تقنياً فهي التي أنشأت سينما المؤلف، واخترعت ما أسميه “تجاهل التبرير”، أي الـJump Cuts. من التجارب الناضجة التي حملت جوهر هذه الموجة ونجت من تطرفاتها فيلم “ترافيك” أو مرور، للفرنسي جاك تاتي.

“ترافيك” صور لضحايا النمط

يعد جاك تاتي (1907- 1982) الابن المنعزل والبغيض للموجة الجديدة في السينما الفرنسية، التي أطلق عليها أيضاً اسم موجة الواقعية الجديدة، وقد يعود ذلك لقدومه من عالم السينما الكلاسيكية التي تقوم على العلاقة الوثيقة بالنص والحوار، والشخصية، إذ بدأ مسيرته التأليفية – الإخراجية منذ الثلاثينيات، وانتقل أواخر الأربعينيات إلى الأفلام الروائية الطويلة عبر فيلمه “اليوم الكبير”، وحين مشى مع الموجة الجديدة، نقل إليها شخصيته المعرفة بـ”مسيو أولوت”، أو السيد أولوت من الخمسينيات إلى السبعينيات، وبذلك استطاع أيضاً ألا يمتثل تماماً إلى بيانات الموجة الجديدة.

قامت موجة السينما الجديدة على حراك ثقافي شامل، بلغ ذروته في ثورة عام 1968 الطلابية، وتأسست على فكر مجلات الخمسينيات ورؤيات نقادها، من مثل مجلة القراءة السينمائية، ومجلة الشاشة الفرنسية، ومجلة دفاتر السينما (1951) التي نشر فيها كل من  دوتيول فالكروز، وأندريه بازان بيان الموجة الجديدة، التي نحت نحو سينما خالصة من غير اقتباسات من الأدب، ويمكن نعتها بسينمائية السينما، على غرار أدبية الأدب.

ينتمي فيلم “ترافيك”، آخر أفلام تاتي 1971 إلى سينما المؤلف، إذ قام تاتي نفسه بكتابة السيناريو بالشراكة مع لاجرانغ، وقام بالإخراج وبالتمثيل أيضاً، وكانت تلك سمة من سمات الواقعية الجديدة، إذ يقوم المخرج بصناعة العمل كاملاً. يمكن القول إن “ترافيك” محاولة ناقدة لعالم الحداثة، إذ يفقد الفرد جوهره الإنساني أمام حركة العالم المتعاظمة من حوله، التي قوامها سطوة  الآلة، بنمطيتها،  وانتظامها، ودينكاميكيتها، التي حولت المجتمع إلى نسق موحد الإيقاع،  لا خروج فيه على النمط، إذ كل شيء خاضع لصرامة النظام. السيارات تمتثل لإشارة المرور، وكذلك البشر، وحين يسقط المطر يرفع الجميع المظلة، بطريقة آلية تشكل غريزة ثانية، ويقلد بعضهم بعضهم الآخر حتى في حركة تجاوز حاجز وهمي، مغيبين التفكير الفردي، والاختلاف الذي هو جوهر إنساني. لعل هذه الانتظام المزدحم الذي نشهده في الصورة معادل فني لهيمنة المؤسسة، وتمثيل لإيقاعها الذي يغيب الأفراد، باستعمال المعرفة، إذ  نشاهد لوحات الإعلان لشركات رأسمالية كبرى، مثل كانون، ولشركات السيارت ومعارضها، ولكل تفاصيل عالم الحداثة حيث التركيز على روتينية الحركة التي يخضع لها الجميع. لكن لا بد من أن يلد هذا الروتين استثناء يفكك مبدأ الحتمية، ويجلي جوهر الحداثة، ويخرج عن الخضوع للنظام، ويفكك البنية التي أنتجته، وهذا من مستلزمات واقع الحداثة. إن هذا الاستعداد للانقلاب كامن في كل بنية مهيمنة، نلاحظها في الفيلم في ثنايا الخضوع للنظام، إذ يكون الوقوف على إشارة المرور لدقائق فرصة للتأمل، وممارسة الأفعال البشرية الطبيعية: الحك، والغضب، وحكش الأنف، والتأمل… وعلى حد قول روسلليني فى كتابه “الواقعية والسينما” إن الواقعية “استجابة للحاجة الحقيقية لرؤية الناس على طبيعتهم بنوع من الشفافية ومن دون الحاجة إلى اصطناع استثناءات: وهذا يعني التسليم بأن الاستثناء يأتي خلال استقصاء الواقع”.

images.jpg
المخرج الفرنسي فرانسوا تروفو (ا ف ب)

 

جوهر الحداثة في الانقلاب على النظام  العام

يحدث تاتي لحظة الانقلاب تلك عبر حادثة مرورية تفكك النظام، وتصير نقطة الانطلاق للخروج على كل من  النمط، والقطيعية البشرية. يمكن عد الحادثة بمثابة ثورة، أو انقلاب، ولا يمكننا هنا تجاوز ثورة الطلبة 1968، على الأنماط التقليدية والديكتاتورية الديغولية المنتصرة. تستعيد عبر هذه الحادثة عناصر النسق التي كانت مجرد بيادق أفعالها الإنسانية الفردية، فيلعب الأطفال بالكرة في الشارع، ويفترش رجل وامرأة الأرض لتناول طعامهم في غير الوقت والمكان المحددين.

لم تكن تقنية اللقطة المشهد أداة فنية للانضواء تحت راية الموجة الجديدة، لقد كانت موظفة فكرياً، لتعرض في لقطة واحدة الحركة الجدلية بين النقائض، بين الذات والآخر، والفرد والمجتمع، والمرأة والرجل، والطبيعة والصناعة، لا سيما في مشهد جناح السيارات في المعرض، إذ نرى غابة وأصوات عصافير  مع الفضاء النقيض الذي يمثله عالم الحداثة في أكبر تجلياته، وهو شركات صناعة السيارات.  هنا أيضاً نجد كثيراً من المشاهد الخارجية، فحركة الشارع أقوى من الأستوديو، ولعل ذلك لا يعود للتخلص من ضغط الإنتاج كما أشير، بل لخدمة الفكرة أيضاً: فكرة العالم في حركته، إذ سيكون الشارع  أكثر إقناعاً من الديكور. تمثل تقنية اللقطة – المشهد حالة فنية ناقدة، فالنقد هنا لا يتأتى عبر المونتاج الذي يصنع تسلسلاً حكائياً، ولا عبر القصة المتكاملة.

Document_Godard_Fullbleed_Fashion-Header.jpg
الفردانية في فيلم لغودار (ملف الفيلم)

ينظم هذه الحركة الملتقطة عشوائياً من الشارع كادر واحد عليه أن يختزل الحياة، وأن يضم التفاصيل كلها، إنه الكادر، لا الفيلم، إذ لا يلقي هذا النوع من السينما بالاً إلى القصة أو الحبكة التقليدية، بل يعتمد على التأويل، والتأويل مهمة المتلقي، وهو أساس المعرفة كما يقول فوكو، فالمعرفة ليست بالبرهان والاستقصاء، بل بالتأويل.

 نلحظ في الفيلم دعوة إلى الفردية الموروثة عن سارتر الذي يرى الجحيم هو الآخر، في رد على فكرة الجماعية الموروثة من الأفكار الماركسية التقليدية، فالآخر معوق ومسبب للكارثة، يؤخر أعمالنا من حيث أراد أن يحسن، حتى الذات تكون أحياناً خرقاء ومعطلة عن التفكير فتسبب الكوارث، لأنها غير متفرغة للتأمل بسبب الازدحام بالآخرين، والانجراف في حركة المجتمع وعجقة السير. ينتقل الصراع بين الذات والمجتمع الحداثي، إلى صراع مع الذات نفسها، فهي ليست منسابة، ومتصالحة بل معقدة وضائعة في الزحام.

مفهوم آخر للبطل

truffaut-7.jpg
الحب في رؤية تروفو (ملف الفيلم)

استعاد تاتي بطله المعتاد السيد أولوت، وغير وظيفته، أو طورها، تماشياً مع الموجة الجديدة، ولم تكن استعادته في “ترافيك” لأسباب إنتاجية، بعد تغييبه في فيلمه الشهير “بلاي تايم” 1967 كما أشار بعض النقاد. لقد جعله تاتي بطلاً يصنع التغيير، بلا ادعاء للبطولة، فهو ليس شخصية ثورية تراجيدية بل مهرج أخرق،  تعرض  للسخرية والانتقاد لخروجه عن النسق، لكنه صنع التغيير، ولعل هذا ما يمثل جوهر الكوميديا.

تحتاج هذه السينما إلى متلق نشيط، وفاعل، ومثقف، ولنقل نخبوياً، من ذلك سنعرف سبب سقوط هذا الفيلم تجارياً، ثم تحوله إلى الأفلام الموجهة في ما بعد ليكون مثالاً على الموجة الجديدة، وسينما المشهد – اللقطة. إنها ديمقراطية الصورة التي يشير إليها بازان، التي تقوم على إشراك المشاهد في التأويل، مشاهد غير نمطية، وغير مقموعة بالحرمان من المعرفة.

لا بد من الإشارة أيضاً إلى مساهمة الموجة الثالثة من النسوية في هذا الفيلم، إذ سنجد الشخصيات الأنثوية منتمية إلى عالم الحداثة المتأخر، إذ دخلت المرأة عالم العمل ولكن ليس ببزة رجال الأعمال، كما حدث فيما بعد. لقد كانت مجهدة في الحفاظ على مظهرها الأنثوي المهتم بالجسد، إذ تحمل البطلة أدوات أنوثتها في حقيبتها، مطحونة في عالم الحداثة وقلقة، في حين سنجدها في عالم ما بعد الحداثة ترتدي بزة رجال الأعمال، وتكتفي من الأنوثة بأحمر الشفاه.

  • عن اندبندنت عربية

شاهد أيضاً

“حفيدة غردون باشا”… امرأة تعيد ترتيب ذاكرة السودان

“حفيدة غردون باشا”… امرأة تعيد ترتيب ذاكرة السودان الطيب ولد العروسي الكتابة في شق واسع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *