*لطفية الدليمي
كانت تجربتي في ترجمة كتاب ( حلمُ غايةٍ ما Dreaming To Some Purpose ) – السيرة الذاتية للكاتب الفيلسوف كولن ويلسون تجربة فريدة إلى أبعد الحدود المتصوّرة : فقد وفّرت لي فرصة مثالية لتذوّق متعة المكابدة الجميلة في الاستغراق مع النصوص المكتوبة بنبض الحياة اليومية والمُحمّلة بحمولة فلسفية وسايكولوجية لم نعهد لها نظيراً في الأعمال المنشورة للكاتب . وأعترفُ بوضوح أن عملي في ترجمة هذا الكتاب أعاد هيكلة الكثير من المفهومات لديّ كما شذّب البعض الآخر منها ، ولعلّ الحصيلة الأكبر التي خرجتُ منها بعد إنجاز ترجمتي للكتاب هي تأكيد قناعتي الراسخة في ضرورة أن نقرأ أعمال أي كاتب بعقلٍ منفتح ومروءة مترفّقة بعيداً عن المواضعات السائدة عنه والتي تستند في الكثير منها على خلفيات أيديولوجية أو تهميشية لاتمت إلى الفعل الإبداعي الخالص بأية صلة ، ولاينبغي التصوّر أن الغربيين بمعزل عن هذا الأمر الذي يبدو في معظم جزئياته غير مقتصر على جغرافية حضارية دون غيرها لكونه أمراً يختصّ بالطبيعة التنافسية التي تَسِمُ الفعاليات الإنسانية في عالمنا الحاضر . وربما نجد في روايات الكاتب اللورد سنو Snow وبخاصة في روايته ( الأسياد The Masters ) وسلسلة أعماله المعنونة ( غرباء وإخوة Strangers and Brothers ) أبلغ الأمثلة عن طبيعة المغالبة في بيئات نخبوية وأكاديمية قد يراها البعض قلعة مقدّسة في طبيعة العلاقات الأكاديمية المثالية السائدة فيها – مثل أروقة جامعة كامبردج العريقة – !! .
من جانب آخر فإن الموضوعة الرئيسية لسيرة ويلسون الذاتية هي “الكفاح في مقابل الوهن والخذلان والاندفاع في الحياة بعزيمة شُجاعة والحفاظ على روح النزعة التفاؤلية المتوهجة والاستعداد الدائم للحفاظ على تلك الشعلة المنعشة للروح متّقدة برغم كل المُعيقات التي تواجهها وتدفعها للانكفاء المُذلّ” ، وأحسب أن هذا الدرس المعرفي – الحياتي – الفلسفي – السايكولوجي المركّب هو الخلاصة الرائعة لما يمكن أن نتعلمه من وراء قراءة هذه السيرة الغنيّة الطافحة بالألق والروح الوثّابة .
تميل طروحات ويلسون لأن تكون مباشرة واضحة ولا تعمد إلى مقاربات التفافية على صعيد الفهم أو على صعيد اللغة ، وقد أكّد ويلسون منذ بداياته مع نشر كتاب “اللامنتمي” عام 1956 وكذلك في سيرته الذاتية على بضعة مفاهيم أساسية يتقدّمها المفهوم التالي : إن الروح التشاؤمية التي أشاعها الرومانتيكيون وحركتهم الطليعية منذ نشر أعمال “شيللي” المبكّرة لم تكن في حقيقتها سوى موقف كيفي اختاره الرومانتيكيون ولم يُفرَض عليهم فرضاً ، وأن النزعة التشاؤمية المقترنة بهم ليست أكثر من إدمان عقلي استمرأوا تبعاته ولم يبذلوا جهداً منظّماً وصارماً لقلب موازينه وسطوته على حياتهم. وعلى أساس هذا المفهوم يكون ويلسون قد أعاد التذكير والدعم للفكرة الأساسية في فلسفة هوسرل الظاهراتية – وأعني بها فكرة القصدية intentionality القائمة على أساس أن الفعاليات الإنسانية هي بطبيعتها مقصودة ومُوجّهة نحو غايةٍ ما ، وأن العقل البشري يكون فعالاً ويعمل بانضباط صارم ومدهش متى مارُسِمت أمامه خارطة واضحة المعالم للأهداف المتوخّاة . أما بغير هذا فستستحيل القدرة العقلية الجبارة خواءً يدفع بصاحبه إلى الضجر المستديم الممتد بلا نهاية . إن هذه الفكرة وحدها تكفي لرفع أكثر من قبّعة كتلويحة احترام يستحقها ويلسون بجدارة كاملة وبخاصة أن هذه الفكرة لم تأتِ من محض التفكّر السلبي وسط حياة الدِّعة والاكتفاء المادي بل جاءت بعد كفاح مرير وشاق تعلّم منها الكاتب أن تحديد غايةٍ ما للمرء في الحياة ومن ثم العمل الجاد والمنظّم من أجلها لهي الفعالية الأولى التي تستحق عبء الكفاح المشرّف من أجلها .
إنه لأمرٌ في غاية الإمتاع حقاً أن نقرأ في الفقرات المترجمة التالية تعليقات للكاتب كولن ويلسون بشأن سيرته الذاتية ، وقد صرّح بهذه التعليقات في معرض جلسة حوارية مع صديقه ( جيوف وورد Geoff Ward ) بعد وقت قصير من نشر سيرته الذاتية عام 2004 ، ونُشِرت هذه التعليقات في باب الحوارات من موقع ( Colin Wilson World ) الإلكتروني .
لطفية الدليمي
كيف وقع خيار كولن ويلسون على عبارة ( حلمُ غايةٍ ما ) لتكون عنواناً لسيرته الذاتية ؟ وأية دلالة حمل ذلك العنوان ؟ علّق ويلسون على الأمر قائلاً:
( … عندما بدأت التفكير بشأن العنوان المناسب لسيرتي الذاتية أدركت أنني قد استخدمْتُ ماكان يمكن أن يكون عنواناً مثالياً لها في كتابٍ آخر لي : أن تقوى على الحلم The Strength to Dream 1962 وهو بالضبط العنوان الذي ابتغيته لسيرتي الذاتية . قال برناردشو مرة : “كل حلمٍ يمكن أن يستحيل حقيقة في رحم الزمن لهؤلاء الذين لهم القدرة على الحلم.” : تلك هي السمة الإنسانية الخاصة المميزة – كوْنُ المرء قادراً على أن يحلم بطريقة هادفة ، وبعد جلسة سكينة هادئة ومتأملة لبرهة من الوقت رأيت أنّ عبارة ( حلمُ غايةٍ ما ) هي بشكلٍ من الأشكال العنوان الذي رغبتُ فيه رغم أنني لم أقتنع به كلياً ولكنه كان عنوان أحد فصول كتاب سيرتي الذاتية ، ويمكن لقارئ كتابي بعد قراءة ذلك الفصل أن يدرك السبب وراء كون عنوان ذلك الفصل مناسباً ليكون عنواناً لكتاب سيرتي الذاتية بأكملها ) .
( … نحن نتحدث هنا عن غاية شخصية ، وإذا ما تفكّرنا فيها سنجد أن كتابي ( اللامنتمي ) حكى عن هؤلاء الرومانتيكيين الذين ضاق عليهم العالم رغم رحابته ووجدوه غير مناسبٍ لهم وابتغوا بدل العيش فيه الهروب نحو عالمٍ أكثر مثالية وإدهاشاً – ذلك العالم الذي دعاه تي. إي. هولم T. E. Hulme ( 1 ) بازدراء “الأوهام الأبدية” ، وأنا على المستوى الشخصي أتعاطف بعمق مع هذه “الأوهام الأبدية” لأننا كلنا انطلقنا في بدء مسيرتنا على هدي تلك الفكرة الفاتنة).
( … كل الكتّاب الذين يستحقون أن يوسموا بأجلّ آيات المجد والذين بلغوا شأناً عظيماً في منجزهم الثقافي كانوا بدأوا رحلتهم الشاقة كرومانتيكيين ناقمين على العالم الذين نعيش وسطه وشعروا تماماً مثلما كان يشعر عمر الخيّام : تمنّوا لو كان بمقدورهم تشظية العالم إلى أجزاء عديدة ليعيدوا من بعد ذلك بناءه تبعاً لرغبات أفئدتهم ، وهذا هو السبب ذاته وراء امتلاك ( شيللي ) لذلك الكمّ الهائل من الأحلام بشأن المستقبل وطائفة أخرى كاملة من الموضوعات تمثّل في نهاية المطاف رغبة القلب وتشوّفاته الملحّة في إعادة تشكيل العالم . إن المعضلة الإشكالية الوحيدة مع إعادة تشكيل العالم المبتغاة هي أن تلك الفعالية تتطلّب توجهاً عملياً أكثر بكثير ممّا توفّر لِـ ( شيللي ) !! . ابتغى شيللي أن يكون كائناً إنسانياً متنعماً غارقاً في اللذاذات الطيبة وحسب وذاك هو ماقاده إلى تدمير حياته الشخصية وحيوات كثيرين من الناس الآخرين معه ) .
( … إن ماينبغي أن يحوزه المرء هو نوع من التوجّه العملي الأقرب إلى ….. لنقُل مثلاً : برناردشو أو وليم موريس ( 2 ) وآخرين معهم من الحالمين لكنْ ذوي العقول ذات النزعة العملية في الوقت ذاته . أنا أثق تماماً أن برناردشو كان يكنُّ إعجاباً طاغياً بِـ ( موريس ) الذي ماكان رومانتيكياً كاملاً عُرِف بقصائده الطويلة مثل ( الفردوس الأرضي Earthly Paradise ) فحسب بل كان في مقدوره أيضاً أن يقف ويلقي كلمة في اجتماع يختص بالحركة الاشتراكية ، وقد أدركت دوماً أن هذه الإشكالية العصية هي لب القضية الرومانتيكية برمّتها ) .
( … عندما وجدت نفسي في باريس لأول مرة وأنا ابن التاسعة عشرة بعد أن وصلتها مباشرة عقب إخراجي من الخدمة في القوة الجوية الملكية ذهبت من فوري إلى أتيليه ( مرسم ) يقع في رو دي سان ويديره ( ريموند دنكان Raymond Duncan ) شقيق الراقصة ذائعة الشهرة إيسادورا Isadora . كان ريموند قد حلّ بباريس من قبل ، وحصل أن صنع له زوجين من أحذية الصندل الخفيفة وأحب الناس صنادله تلك وراحوا يطلبون إليه أن يصنع لهم نموذجاً منها . وعلى حين غرّة استحال ذلك الأمر عملاً مُربحاً جاء لدنكان بثروة معتبرة جعلت منه مليونيراً مرات عديدة في حياته ، وبعد أن جمع ريموند ثروته تلك راح يعتبر نفسه شاعراً ورؤيوياً مثالياً . عندما مضيتُ لرؤية ريموند دعاني لزيارة مرسمه في رو دي سان ، وهناك قال لي : “مانحاول فعله هنا هو تعليم أناسٍ أمثالك أنهم إذا ماكانوا يبتغون أن يروا في أنفسهم شعراء مثاليين فيمكنهم حقاً أن يغدوا شعراء مُجيدين للغاية ولكن بعد أن يتعلموا حقاً كيفية رتق شقّ ما أو أية انشغالات عملية أخرى .”
( … لطالما رأيت أن ريموند كان مصيباً بصورة كلية ، وتلك حقيقة ستنتاجية بلغتها لاحقاً : ينبغي علينا دوماً أن نمتلك تلك الروح العملية المتشرّبة بالطين الحرّي ، وأن نستمتع كنتيجة لهذا الأمر بالعالم الحقيقي والحياة الحقيقية . أستطيع أن أرى الآن وبوضوح كافٍ أنّ السبب وراء موت أولئك اللامنتمين الذين نعرفهم هو حقيقة كونهم رومانتيكيين مُكرّسين – الأمر الذي جعلهم يحلّقون عالياً في الفضاءات الأثيرية وبالتالي تسبّب هذا الوضع في دفعهم للمعاناة من حالات عصيبة مدمرة . إن ما احتاجه هؤلاء حقاً هو توجّه أكثر عمليةً وهذا بالضبط هو الشعور الأعمق الذي لازمني طوال حياتي ) .
هوامش المترجمة
( 1 ) ثوماس إيرنست هولم T. E. Hulme : ناقد وشاعر وكاتب إنكليزي عاش في الفترة 1883 – 1917 وكان له تأثير عظيم على الحركة الحداثية Modernism من خلال كتاباته في الأدب والفن والسياسة .
( 2 ) وليم موريس William Morris : معماري ومصمم أثاث ومنسوجات وكاتب اشتراكي إنجليزي عاش في الفترة 1834 – 1896 . له نظريته الخاصة بشأن الأهمية الحاسمة لمهارة الصنعة اليدوية في الفنون التزيينية والتي كان لها تأثير عميق على زينة الكنائس والبيوت حتى بداية القرن العشرين. ، ويمكن إعتبار مدرسة ( الباوهاوس Bauhaus ) الألمانية إمتداداً طبيعياً لنظريته الحِرَفية .
_____________
*المدى