*ممدوح المهيني -واشنطن
في خطاب الاتحاد عام 2012 رفع الرئيس الأميركي باراك أوباما نبرة صوته الخطابية قائلا «من يقولون إن أميركا في انهيار، لا يعرفون عما يتكلمون» ثم رسم على وجهه ابتسامة ساخرة وواثقة. هذه الفكرة التي يتحدث عنها الرئيس هي للمؤرخ الأميركي روبرت كاغان التي كتبها في مقال شهير له بعنوان «أسطورة انهيار أميركا» نشره في مجلة «نيوربيبلك» رد فيه على كل الخطاب المتصاعد في العقد الأخير الذي يؤكد على انهيار الدور الأميركي حول العالم. يقال إن الرئيس وفي جلسة خاصة ناقش كل تفاصيل مقال كاغان نقطة بنقطة وبدا مقتنعا بما كتب. لكن كاغان الذي وسع ما نشره في كتاب كامل بعنوان «العالم الذي صنعته أميركا» يرى أن قرارات الرئيس وأفعاله تعاكس أحاديثه. في محاضرة أخيرة له بشأن الثورة السورية انتقد كاغان عدم التدخل الأميركي لدعم مطالب الشعب السوري ودعم الجيش الحر لإنهاء المأساة التي يرتكبها نظام الأسد.
أميركا تملك القوة، ولكن أوباما يتصرف وكأنها تعيش حالة انهيار أو على الأقل هذا ما اقتنع به بسبب الزخم الكبير من الكتب والمقالات التي تؤكد على هذه النظرية التي باتت أشبه بالحقيقة. كاغان يقول إن هذا غير صحيح مطلقا. كل هذه التصورات الجديدة التي يروجها كتاب مشاهير مثل فريد زكريا في كتابه «عالم ما بعد أميركا» أو توماس فريدمان في كتابه الأخير «That Used to Be Us» هي فضفاضة وغير تاريخية وتعتمد على عدد محدود من الأدلة تحصرها في عدد قليل من السنوات ابتدأت بعد حرب العراق 2003 وزادت بعد الأزمة المالية عام 2008. يتصاعد مثل هذا الخطاب مع كل قضية لا تنجح الولايات المتحدة في تحقيقها أو إنجازها، حتى لو كانت هامشية، لتصبح بعدها علامة من علامات هذا الانهيار المتوهم.
لكن كاغان مؤرخ مطلع ومتعمق وليس كاتبا متعجلا يبحث عن الموضة والقضايا التي تحرك الجماهير. لذا هو يستخدم أقوى أسلحته، وهو التاريخ، لتبديد مثل هذه الأفكار. الحقيقة من يقرأ كتب أو مقالات كاغان سيدرك حجم الفرق بين الكتابة العميقة التاريخية التي يعتمدها، والكتابة السريعة التي تنتشر بين الناس بسبب شعبية وشهرة كتابها. وحتى لو اعتمدت على بعض الوقائع التاريخية، فإنها تستخدمها بطريقة مفصولة عن سياقها الصحيح.
مثل هذه الكتابات تنطلق من فكرة رئيسية أساسية تقول إن أميركا الآن تختلف عن أميركا الماضي. مليئة هذه الكتابات بعبارات المواساة والعزاء للولايات المتحدة لأنها خسرت قوتها وسيطرتها وتخلت عن مكانتها كقائدة أولى للعالم. يكتب المؤلف «ينظرون للقوى الصاعدة ويرون فيها ماضي أميركا». لكن هذه في الأساس فكرة غير صحيحة تاريخيا. فكرة متخلية ونوستالجية أكثر من كونها حقيقية. أميركا لم تكن أبدا بمثل هذه الصورة الوردية، بل مرت عليها أزمات اقتصادية خانقة في أعوام 1910 و1930 و1970 وكلها خرجت منها بشكل أقوى من السابق.
وفيما يخص التأثير السياسي ليس أيضا بصحيح أن الولايات المتحدة تمتعت بتأثير لا محدود على العالم، أو كان بإمكانها أن تفعل ما تريد. الثورة الشيوعية في الصين عام 1949 كانت كارثة على المصالح الأميركية التي لم تفعل معها شيئا. بعدها الحرب الكورية، تدخلت فيها أميركا وخرجت منها كما دخلت إليها، بالإضافة إلى خسائرها بالأرواح (35 ألف قتيل و100 ألف جريح). القوة المتصاعدة للاتحاد السوفياتي أيضا لم يكن بمقدور الولايات المتحدة تحجيمها. أحداث كثيرة غيرها يشير إليها الكاتب تؤكد على أن الأحاديث المتكررة عن تضاؤل دور أميركا تنطلق من وهم تاريخي عن أميركا الماضي لم يكن له وجود على أرض الواقع. حتى من ينتقدون النظام السياسي الأميركي ويصفونه الآن بأنه وصل لمرحلة الموت الدماغي بسبب حالة الانقسام والاستقطاب بين الجمهوريين والديمقراطيين ينسون أن العقد الأول من عمر الولايات المتحدة كان الأكثر انقساما.
انهيار القوى العظمى يمر بعقود طويلة ولا يمكن حسابه بسنوات قليلة. ينتقد كاغان فريد زكريا الذي كتب في عام 2004 إن أميركا تتمتع بقوة عالمية لا تضاهى، ليعود وينشر كتابه الشهير في عام 2008 «عالم ما بعد أميركا». كيف لقوة دولية أن تنهار أو تبدأ في الانهيار في غضون أربع سنوات فقط! تاريخيا أيضا لا يمكن دعم هذه الحجة. انهيار الإمبراطورية البريطانية كان على عقود طويلة ولأسباب جذرية. حصتها في التصنيع العالمي كانت في أعلى مراحلها عام 1870 عندما كانت 30 ولكنها هبطت في عام 1910 لتصل إلى 15، بذات الوقت التي زاد تصنيع الولايات المتحدة ليصل إلى 25. قوتها البحرية الضاربة التي كانت سيدة المحيطات والبحار بسفنها الحربية التي تدمر كل من يقف أمامها وصلت ذروة مجدها عام 1883 ولكن خرجت من المنافسة عام 1897 أمام الأسطولين الأميركي في الشرق والياباني في الغرب. لكن هذا بالتأكيد لا ينطبق على الولايات المتحدة التي ما زال إنتاج اقتصادها العالمي الذي يصل إلى الربع لم يتغير منذ 1969 وحتى اليوم. قوتها العسكرية التي تنفق عليها 600 مليار دولار هي الأعتى بين كل قوى العالم مجتمعة.
لكن ماذا عن القوى الصاعدة التي تنافس الولايات المتحدة؟ البرازيل تحتل فقط 2 من الاقتصاد العالمي وتركيا قريبة منها. هناك الهند والصين، لا يقارن اقتصادهما بقوة الاقتصاد الأميركي ولكن، يقول كاغان، لا يوجد رابط مؤكد بين القوة الاقتصادية والتأثير العالمي. الهند الفقيرة في الخمسينات تقريبا لها نفس التأثير الاقتصادي للهند الثرية هذه الأيام. الصين كانت الأقوى اقتصاديا طيلة القرن التاسع عشر ولم تتمكن من لعب دور القوة العظمى (إضافة إلى المشكلات المرجح أن تواجهها بعد الركود المتوقع لاقتصادها وكذلك إحاطتها بحلفاء الولايات المتحدة). على أي حال، لا يوجد لحد الآن أي مؤشرات حقيقية على انهيار أميركي، وإنما كل الأحاديث الأخيرة هي مجرد انطباعات نتجت بسبب أزمات عادية مقارنة بغيرها. جزء من هذا الضجيج عن صعود القوى الأخرى مصدره رجال الأعمال الذين يعشقون الأماكن الجديدة الجالبة للاستثمار، ولكن هذا لا يجعل منها قوى هائلة ذات نفوذ سياسي كبير.
أميركا، كما يشير المؤلف أكثر من مرة، هي التي ساهمت بصناعة النظام الدولي الجديد بعد أن فشلت أوروبا في المحافظة على نظامها القديم الذي انهار بعد الحرب العالمية الثانية. توازن القوى الأوروبية استمر لفترة معينة بسبب تزاحم أوروبا بالقوى المتجاورة الطموحة. ما بين عام 1850 إلى عام 1945 دخلت فرنسا وألمانيا في ثلاث حروب 1870 و1914 و1940. روسيا وألمانيا اشتبكتا بحربين طاحنتين. فرنسا وبريطانيا دخلتا في حرب مع ألمانيا. النزاعات والتوترات كانت تملأ الأجواء وتهدد باندلاع المعارك. كل هذه مؤشرات تدل أن على ذلك النظام الدولي المصنوع أوروبيا كان في طريقه إلى تدمير نفسه. صعود الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية كان المساهم الأكبر في الحفاظ على النظام العالمي الحالي الذي يخلو من الحروب الطاحنة بين القوى الكبيرة، بشكل لم يسبق له مثيل بالتاريخ. ليس من السهولة الحديث عن انهيار هذا النظام والدخول بالقرن الصيني أو الروسي من دون مؤشرات اقتصادية، عسكرية أو سياسية واضحة يمكن القياس عليها. كتاب زكريا التي ظهر الرئيس أوباما مرة بشكل علني وهو ممسك به في إشارة أكيدة ومقصودة تدل على إعجابه بأطروحته، بنى فيه الكاتب فكرته الأساسية حول انهيار القوة الأميركية بطريقة إلهامية غير متوقعة عندما كان في سيارة تاكسي كما نشر المؤلف نفسه في بداية كتابه. اكتشف حينها سلسلة غريبة من المقارنات. أكبر الكازينوهات ليست في لاس فيجاس بل في مكاو وأطول البنايات في دبي ولم تعد في نيويورك، وأثرى الرجال حول العالم هو مكسيكي وليس أميركيا. وهكذا تطورت فكرته حول الانهيار الأميركي حتى تحولت إلى أكثر الأفكار رواجا بسبب قوة الماكينة الإعلامية. «العالم الذي صنعته أميركا» لروبرت كاغان يدمر ببساطة مثل هذه الأسطورة الانطباعية الجديدة.
___________
* الشرق الأوسط.